“تشكّل 750 ليرة تركية دخلي الوحيد، ونعيش بأقل الإمكانات، لأنني لا أستطيع العمل في أي مهنة أخرى سوى التعليم، بعدما فقدتُ قدمي جرّاء قصف للطيران الحربي لبيتي في مدينة حلب، ولدي اثنان من أبنائي معاقان، لا بديل لدي سوى الاستدانة وتكديس الديون”.. هكذا بدأ المدرِّس عبد القادر الجابر (46 عامًا) حديثه لـ”نون بوست”.
وأضاف الجابر الذي يقيم في المخيمات الواقعة على الحدود السورية-التركية بريف حلب الشمالي، منذ تهجيره وأسرته من حلب نهاية عام 2016: “ساءت ظروف أسرتي المعيشية خلال الفترة الأخيرة مع ارتفاع أسعار السلع، والمواد الغذائية الضرورية التي نحتاجها، وأدوية أبنائي المرضى، لذلك أشارك بإضراب المعلمين، لتحقيق مطالبنا في الحصول على حياة كريمة والخروج عن رحمة الدَّين القاتل”.
معيشة صعبة.. كيف يلتفّ عليها المعلمون؟
محمد الحاج هاشم، مدرِّس للغة العربية في الثانوية الشرعية في أعزاز، ومهجَّر من محافظة دير الزور منذ 5 سنوات، يقيمُ مع أسرته المكوَّنة من 5 أفراد ووالدَيه في منزل مستأجَر في مدينة أعزاز بريف حلب الشمالي.
قال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “عمل واحد، أي التدريس، لا يسمن ولا يغني من جوع، فمنزلي يحتاج 125 دولارًا كآجار شهري، ناهيك عن الاحتياجات الأخرى التي يحتاجها المنزل، ما يضطرني للعمل في 3 أعمال يومية متواصلة كي أستطيع تأمين مستلزمات أسرتي”.
وأوضحَ: “أخرجُ صباحًا إلى المدرسة ثم أتّجه مباشرةً بعد دوامي إلى المعهد الذي أدرس فيه، حتى الساعة الثالثة عصرًا، وبعده أنطلق إلى محل السمانة الذي أعمل فيه حتى العشاء، ثم أصل إلى البيت منهكًا لأرتاح ساعات متناولًا بضع لقم، فأذهب لأحضّر دروسي ليوم الغد، وأنام دون أن أرى أسرتي”.
يضطرّ المعلمون مزاولة العديد من الأعمال، وذلك للالتفاف على الوضع المعيشي المتردّي، في حين تحتاج الأسرة شهريًّا بين 300 و400 دولار أمريكي، لتصل إلى مستوى معيشي جيد إلى حدٍّ ما، بينما إذا عمل في 3 أعمال مجتمعة بالكاد يجني 200 دولار أمريكي.
وأضاف: “أعملُ هذه الأعمال كي أحتال على لقمة العيش الصعب، ولكي ألبّي حاجات عائلتي الصغيرة وإلا سأضطر أن أعيش في المخيّمات، لذا فإن حياة المعلم هنا في الشمال السوري صعبة شقية ممزوجة بالشظف، فهو يعمل ليل نهار ليعطي الكل”.
ويعاني العاملون في القطاع التعليمي، في مدن وبلدات ريف حلب الشمالي، من انخفاض قيمة الأجور الشهرية، التي لم تعُدْ تغطّي جزءًا لا يتجزأ من احتياجات الأسرة، في ظل ارتفاع كبير لأسعار السلع، وعدم استقرار أسعار الليرة التركية مقابل الدولار، حيث وصلت المنحة التي يحصل عليها المعلم إلى 80 دولارًا أمريكيًّا.
على خلفية ذلك، احتجَّ المعلمون والمعلمات، الخميس 15 أكتوبر/ تشرين الأول، أمام مديريات التربية، بعدما أعلنوا عن إضراب ليوم واحد، إلا أن الجهات المحلية لم تستجب للاحتجاجات، ما دعاهم إلى تنفيذ إضراب مفتوح بدأ الأحد الفائت، وهو ما ردت عليه المجالس المحلية بإصدار قرار يهدِّد بفصلهم في حال عدم عودتهم إلى الدوام بدءًا من يوم الأربعاء 20 أكتوبر/ تشرين الأول، الأمر الذي تسبّب في موجة غضب واسعة.
إدارة تركية للملف التعليمي
بدأت تركيا تُشرف رسميًّا على إدارة منطقة درع الفرات، خلال الربع الأول من عام 2017 بعد طرد تنظيم “داعش”، بدءًا من إعادة هيكلة المجالس المحلية وصولًا إلى ترتيب وتنشيط كافة القطاعات الأخرى الخدمية من صحة وتعليم، وكلها، أي القطاعات الخدمية، تعمل تحت مظلة المجالس المحلية التي تُشرف على إدارتها عدة ولايات جنوبي البلاد.
أُعطي للتعليم اهتمامٌ جيد، حيث عملت التربية التركية عبر منسّقيها على تفعيل وتأسيس مكاتب تربوية محلية تتبع للمجالس المحلية، وهي مخوَّلة بإدارة الملف التعليمي في كل مدينة، وقدّمَت منحًا شهرية للعاملين في القطاع التعليمي أولها نهاية شهر أبريل/ نيسان 2017، قيمتها 500 ليرة تركية، تعادل 150 دولارًا أمريكيًّا في تلك الفترة.
استمرت قيمة المنحة الشهرية على هذا الحال حتى الشهر الأول من عام 2019، ونتيجة احتجاج بعض المعلمين تمَّ رفع الأجور بنسبة 50%، أي 750 ليرة تركية كانت تعادل 125 دولارًا بعد انخفاض قيمة الليرة التركية أمام الدولار الأمريكي، وفي 4 أبريل/ نيسان 2019 وقّع المعلمون على وثيقة تعهُّد، في حين استمرت المنحة تقدَّم شهريًّا للعاملين في القطاع التعليمي حتى وقتنا الحالي.
وخلال يناير/ كانون الثاني 2021، احتجَّ عشرات المعلمين من أجل زيادة المنحة، إلا أن الجهات التعليمية بقيت صامتة حيال الموضوع، بينما استمرَّ حال المعلم المعيشي بالتدهور، ما تسبّب في استياء كبير بين المعلمين الذين استأنفوا احتجاجاتهم مع بداية العام الدراسي الحالي 2021-2022.
أسباب إضراب المعلمين
يعيشُ المعلمون في ريف حلب الشمالي بواقع معيشي سيّئ للغاية، مجهول المعالم، مع إدارات محلية غير مؤهَّلة لتسيير الملفات التعليمية التي تسبّبت في خلل كبير على الصعيد التعليمي باعتباره الملف الأهم للمنطقة، في ظل تهميش يبدو متعمّدًا للملف التعليمي.
قال المتحدث باسم معلمي المخيمات في منطقة أعزاز، عمر ليله، خلال حديثه لـ”نون بوست”: “هناك العديد من الأسباب التي أوصلت المعلمين إلى الإضراب عن الدوام، أبرزها تهميش الملف التعليمي، وقلة دعم المؤسسات التعليمية بشكل عام، والمعلم بشكل خاص، في ظل غلاء معيشي وانخفاض كبير لليرة التركية أمام الدولار الأمريكي”.
وأضاف: “يحصل المعلم شهريًّا على راتب 750 ليرة تركية، وهي لا تلبّي الاحتياجات الأساسية لأسرته، ما أدّى إلى وقوع المعلم في العوز والفقر، ولذلك لا يمكنه الاستمرار في العمل التعليمي الذي لا يحقِّق الكفاف لأسرته”.
يتعرض المعلمون للكثير من الضغوط والتحديات اليومية في سبيل تحقيق لقمة عيشهم، ما يضطرهم -كما ذكرنا- إلى العمل في حال توفر الفرصة خارج أوقات الدوام، بأي مهنة قد تكون في البناء أو العتالة أو الزراعة بأجور متدنّية قد لا تتجاوز الدولارَين.
من جهته، قال عضو لجنة ممثلي معلمي مدن الباب وقباسين وبزاعة بريف حلب الشرقي، المدرِّس محمد مصطفى، خلال حديثه لـ”نون بوست”: “هناك العديد من التحديات التي تواجه المعلم، منها توصيف المعلم بأنه متطوِّع يتقاضى منحة وليس موظفًا، وعدم وجود نظام داخلي يبيّن حقوق المعلم واجباته، وفشل التربية المحلية في معظم القرارات لعدم وجود نظام داخلي ينظِّم عملها وقلة الكفاءة والخبرة فيها”.
ويهدف الإضراب إلى تحسين الواقع التعليمي، وتحسين وضع المعلم بما يعود بالنفع على العملية التعليمية، ووضع نظام داخلي يضمن حقوق المعلم، وتأمين مدارس جديدة من أجل إنهاء الخيم والكرافانات، والعدد الزائد داخل الصفوف، وتهيئة الكوادر التعليمية، وإلغاء قرار تخفيض ساعات مادة اللغة العربية، بحسب ما أوضح المصطفى لـ”نون بوست”.
قرار تعسُّفي
أثار تعميم أصدرته المجالس المحلية لمدن الباب وبزاعة وقباسين بريف حلب الشرقي، موجة استياء وغضب شعبي واسعة النطاق، على الصعيد المحلي وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، بعد إضراب المعلمين عن الدوام.
وجاء في التعميم أنه سيتمّ الخصم من رواتب المعلم بعدد الأيام المتغيَّب عنها منذ بدء الإضراب، حتى يوم الأربعاء 20 أكتوبر/ تشرين الأول، وفي حال استمرَّ غياب المعلم سيتمّ إنهاء وظيفته، وحثَّ التعميم المعلمين على العودة إلى مدارسهم من أجل عدم التعرض للفصل، واعتبرت المجالس المحلية هذا التعميم بمثابة قرار إلزامي، من أجل حماية حق التعليم للأطفال باعتباره أحد حقوق الإنسان.
وحول الموضوع يقول المدرِّس محمد المصطفى: “هذا القرار غير مدروس ومنفصل عن الواقع، وبعيد عن مبادئ ثورتنا التي تطمح للحرية وكرامة الإنسان، كما أنه يدلُّ على ضعف المجلس المحلي، وعدم قدرته في التعاطي الصحيح مع مطالب المعلمين”.
وأضاف: “إن المجلس جهة رسمية يجب أن تنصف المعلمين، وألّا تقوم بردة فعل انتقامية ضد من يطالبون بأبسط حقوقهم للحفاظ على كرامتهم”، واعتبرَ أن القرار زادَ من إصرار المعلمين وثباتهم على مطالبهم حتى تحقيقها، كون القرار يمسُّ كرامة المعلم.
وعلى الرغم من أن المجلس جهة رسمية، إلا أنه لا يستطيع اتخاذ أي قرار دون الرجوع إلى المنسّقين الأتراك، الذين يبتّون بمجمل المواقف الحساسة التي تتعرض لها المنطقة.
تفاعل شعبي
تفاعلت العديد من النقابات والهيئات والتجمعات الثورية في ريف حلب الشمالي مع قضية المعلمين الذين يطالبون بحقوقهم، ومن أبرزهم: الهيئة العامة الثورية لمدينة حلب، واتحاد الإعلاميين السوريين، وتنسيقية مدينة الباب.
يقول عضو تنسيقية مدينة الباب، عمار أبو حمزة، لـ”نون بوست”: “يجب أن ينال المعلم حقوقه الكاملة، وإن غابت كرامة المعلم فلن يكون لدينا جيل يتحلّى بالكرامة والحرية، ولذلك يجب التخطيط بشكل جيد ودعم العملية التعليمية”.
كما حصل المعلمون على تأييد شعبي محلي من أجل الحصول على حقوقهم، مؤكدين أن هناك حقوقًا للمعلم يجب أن يحصل عليها لنجاح العملية التعليمية، بينما اعتبرَ آخرون أن التعليم رسالة يجب تأديتها حتى بأصعب الظروف، لكن بالنهاية المعلم ربّ أسرة يحتاج أيضًا لتحقيق احتياجات أسرته، في ظل تحديات مريرة تعصف بمختلف جوانب الحياة اليومية.
في حين عبّر آخر عن رأيه في الموضوع أن المعلمين مثلهم مثل باقي القطاعات والمؤسسات الحكومية، ولا يمكن أن يكونوا هم وحدهم من يعانون، ولذلك يجب عليهم الالتزام بالدوام، لأن الأطفال بحاجة إلى التعليم بعد انقطاع لسنوات لم تستَتِبّ فيها الأوضاع الأمنية بالمنطقة.
بينما قال الصحافي ماجد عبد النور على صفحته في موقع فيسبوك: “مع المعلمين في المطالبة بحقوقهم، مع إضرابهم، مع احتجاجهم، مع كل ما يحقق لهم مرادهم، المعلمون كانوا الحلقة الأضعف في زمن البعث فلا تكونوا أيتها المجالس المحلية بعثًا آخر يجعل أقصى أحلام المعلم أن يجد رغيف الخبز، هذه الشريحة من المجتمع هي أحد أهم أعمدته وركائزه وسبيل نهضته، معهم في إضرابهم وفي تحقيق مطالبهم المحقة والمشروعة”.
نهايةً، يُعتبر القطاع التعليمي أحد القطاعات التي ساءت إدارتها خلال المرحلة الأخيرة، إذ مُنع المعلمون من تشكيل نقابة تنقل مشاكلهم وتسعى لتحصيل حقوقهم، كما لم تستطع الإدارات المحلية المتمثلة بالمجالس من توحيد جهودها، وتكليف جهة رسمية تعليمية متخصِّصة بتوحيد القرارات التعليمية، ومن هنا ينطلق هذا الفشل الحاصل بمختلف الدوائر الرسمية التي تُدار من قبل مجالس تعتبرُ نفسها دولة بحدّ ذاتها، بينما هي جهة تنفيذية لا أكثر.