تتصاعد المخاوف لدى الشارع السوداني من صدام مرتقب بين معسكري “الحرية والتغيير” (المنشقون والمجلس المركزي)، فبينما يواصل أنصار مجموعة الميثاق الوطني اعتصامهم أمام القصر الجمهوري في العاصمة الخرطوم لليوم الرابع على التوالي، دعا تحالف الإجماع الوطني (يضم قوى يسارية ويعد ثاني أكبر تحالف بالائتلاف الحاكم)، لمظاهرات حاشدة غدًا الخميس 21 من أكتوبر/تشرين الأول 2021.
وفي الوقت الذي يطالب فيه المعتصمون (بينهم موالون للعسكر وفلول الإنقاذ) بتنحي حكومة عبد الله حمدوك الانتقالية وتعيين أخرى من الكفاءات، يتمسك المشاركون في تظاهرات الخميس بمبادرة رئيس الحكومة للخروج من الأزمة، وإبعاد العسكريين عن الحكم، والالتزام بالوثيقة الدستورية الموقعة في أغسطس/آب 2018 التي تقضي بإنهاء رئاسة المكون العسكري للسلطة الانتقالية نوفمبر/تشرين الثاني القادم لصالح المكون المدني.
لعبت التطورات الأخيرة دورًا كبيرًا في إعادة تشكيل المعادلة السياسية للدولة التي لم تتعاف بعد من سيطرة الجنرالات على منظومة الحكم لعقود طويلة، ورغم أن المؤشرات في معظمها تصب في صالح العسكر وتدعم مخطط الانقلاب على مكتسبات الثورة، فإن تظاهرات الـ21 من أكتوبر/تشرين الأول الحاليّ ستحدد بشكل كبير سيناريو المرحلة المقبلة، لا سيما إن نجحت في فرض تموضع جديد للمعادلة ميدانيًا وفق أبجديات مغايرة لما هي عليه حتى كتابة تلك السطور.
استنساخ اعتصام مقر القيادة
يحاول المعتصمون أمام القصر الرئاسي والداعمون لهم إحياء مشاهد اعتصام مقر القيادة التاريخي الذي بدأ في 6 من أبريل/نيسان 2019 قبل أن ينفض على أيدي قوات الأمن بشكل وحشي في 3 من يونيو/حزيران من العام ذاته، آملين أن ينتهي إلى النتيجة ذاتها، حيث الإطاحة بحكومة حمدوك نظير حكومة البشير.
كل التقارير الإعلامية الواردة من هناك، وشهود العيان المقربين من المناطق الدافئة لمقر الاعتصام، تؤكد وجود تسهيلات غير مسبوقة من العسكر لتعزيز الاعتصام وتذليل العقبات التقليدية كافة المتوقع أن تكون في مثل تلك التظاهرات التي من المفترض أن تهدد أمن واستقرار الجهات السيادية المحيطة بالقصر.
والي الخرطوم، أيمن خالد، أشار إلى منع جهات تدعي الانتماء للحركات المسلحة لسيارات تابعة للولاية كانت في طريقها لوضع حواجز إسمنتية لتأمين القصر والمواقع السيادية، وهو المعمول به عند الإعلان عن تظاهرات أو مواكب جماهيرية، ما دفع السيارات للمغادرة دون وضع الحواجز، ومن ثم بات المكان مهيئًا تمامًا للاعتصام، حيث نصب الخيام دون تضييقات أو اعتراضات من أي جهة.
وبحسب مراسل “الجزيرة” فإن هناك أموالًا طائلةً تُضخ في الاعتصام، راصدًا سيارات وحافلات كبيرة ذات إمكانات متميزة تتولى عملية نقل المشاركين في الاعتصام، هذا بخلاف الأطعمة الفاخرة والتبرعات السخية من بعض الشركات بتوفير المياه المعدنية للمعتصمين.
كما رُصد وصول نحو 9 من السيارات الفخمة، كل سيارة تحمل ما بين 8 – 9 أفراد، قال أصحابها إنهم قادمون من الولاية الشمالية من أجل المشاركة في الاعتصام، بجانب وفود قادمة من ولاية النيل الأبيض، كما شهد اليوم الثالث للاعتصام وصول سيارات تحمل ما لا يقل عن 6 نياق لنحرها وإطعام المشاركين في الاعتصام، الذين يتزايدون مقارنة بالأيام الماضية بحسب المراسل.
مواكب 21 من أكتوبر/تشرين الأول
وفي الجهة الأخرى تأتي دعوة تحالف الإجماع الوطني لمظاهرات الغد لتفتح الباب على الاحتمالات كافة، إذ تنطلق الدعوات من باب الالتزام بمبادئ ثورة ديسمبر/كانون الثاني وفي مقدمتها الالتزام بالوثيقة الدستورية، بحسب عضو مجلس السيادة محمد حسن التعايشي، الذي أضاف في تغريدة له “المظاهرات المرتقبة تأتي للربط المحكم بين بناء جيش وطني واحد، والانتقال المدني الديمقراطي الكامل”، مشددًا في الوقت ذاته على أنهم لن يسمحوا بالعودة إلى أي شكل من أشكال الاستبداد مرة أخرى.
وتحت عنوان “زلزال 21 أكتوبر” نشر “تجمع المهنيين السودانيين” بيانًا دعا فيه إلى المشاركة في تلك التظاهرات التي تأتي استجابة لما استقر في يقين الشارع السوداني بأن “التحالف الحاكم بكل تشكيلاته الآن غير راغب في إنجاز مهام الانتقال الديمقراطي والقصاص العادل أو أي ملف من ملفات الثورة فهمهم غير همنا”، لافتًا إلى أن “مصالحهم ضد مصالحنا”.
وأكد التجمع ضرورة أن يدق الشعب “على نعش هذا التحالف السلطوي آخر وتد عنوانه، هنا الشعب وهذه ثورته وهذه سلطته، فما عنكم، هذه المعارك حول السلطة تناسلت وتلاقحت وأفضت لنا هذه الحالة، تردي اقتصادي غير مسبوق، وانسحاب الدولة عن دورها في تقديم الخدمات الأساسية من تعليم وصحة التي أصبح الوصول إليها في متناول قلة تعيش في رغد وغالبية الشعب تئن تحت وطأة جحيم الغلاء الطاحن”.
البيان أوضح أن “جنرالات العسكر هم رأس رمح الثورة المضادة، ولا يمكن لهذه الثورة بلوغ غاياتها في ظل جلوس لجنة البشير الأمنية على رأس السلطة، فالثورة لا يمكن أن تنتصر إلا بعد القضاء على القديم وتصفيته بالكامل وليس الشراكة معه”، مؤكدًا أن “مواكب الواحد والعشرين من أكتوبر هي مواكب ضد الكل لا ندعم فيها أيًا من قحت 1 أو قحت 2 وكيزانهم وجنرالات لجنة البشير الأمنية، وأنها ضد شراكة الدماء، مع إسقاطها وإقامة الدولة المدنية الوطنية الكاملة غير منقوصة”.
ارتباك ومحاولات الإنقاذ
الارتباك الذي يعاني منه المشهد السوداني، وانكشاف ملامح مخطط الانقلاب على مكتسبات الثورة، دفع حمدوك وحاضنته السياسية (قوى الحرية والتغيير) لاتخاذ بعض الإجراءات التي يأملون من خلالها إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وتفويت الفرصة على الداعمين للثورة المضادة بالعودة بالبلاد إلى الخلف مرة أخرى.
حمدوك استبق المظاهرات باجتماع طارئ لمجلس الوزراء في محاولة لاحتواء الموقف الملتهب، إذ قدم رؤية سياسية لتوسيع المشاركة التي يطالب بها معارضوه، وذلك من خلال خريطة الطريق التي أعلنتها عشية مظاهرات 16 من أكتوبر/تشرين الأول الحاليّ، هذا بخلاف تشكيله خلية أزمة لبحث المشهد بكل تفاصيله، ومحاولة الخروج بحلول عاجلة قبل خروج الوضع عن السيطرة.
الفوضى التي تخيم على الأجواء دفعت واشنطن للدخول على خط الأزمة للحفاظ على المكاسب السياسية التي تحققت بعد الإطاحة بنظام الإنقاذ، فقد بذل المبعوث الأمريكي جيفري فيلتمان، ومعه رئيس بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم الانتقال في السودان، فولكر بيرتس، جهودًا حثيثةً لتقريب وجهات النظر بين مكوني المجلس السيادي للحيلولة دون الانزلاق إلى مستنقع المواجهات والصدامات المحتملة.
المبعوث الأمريكي أجرى العديد من المباحثات مع الأطراف الداعمة لاعتصام القصر، والمطالبة بتفويض الجيش خلال المرحلة المقبلة، ومنهم منى أركو منياوي حاكم إقليم دارفور، ووزير المالية جبريل إبراهيم، رئيس حركة العدل والمساواة، هذا بخلاف التواصل المستمر مع أعضاء وقيادات الحكومة الحاليّة.
لعبة التوازنات
منذ الوهلة الأولى قد يُخيل أن موقف حمدوك والمكون الوطني بات على المحك، وأن الانتصارات التي حققها العسكر سياسيًا أتت أكلها في تهميش الحكومة كمرحلة أولية لتمكين الجنرالات من السلطة للأبد، غير أن الأمور ميدانيًا لا تزال تحمل الكثير من الجدل وتباين الآراء بشأن المعادلة ولعبة التوازنات.
التفاصيل الكامنة خلف كواليس الاعتصام تذهب إلى أن الكرة لا تزال في الملعب، وأن المباراة لن تنتهي إلا بصافرة الحكم النهائية، وعليه فإن هناك بعض المؤشرات التي شهدتها ساحة الاعتصام خلال الأيام الماضية تشير إلى احتمالية نجاح الجهود التي يبذلها حمدوك لتفويت الفرصة على الانقلابيين من تحقيق هدفهم، بحسب الخبيرة في الشؤون الإفريقية بمركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية، أماني الطويل.
المؤشر الأول يتعلق بحجم المشاركين في الاعتصام، فالأرقام المعلنة حتى اليوم الرابع من الاعتصام لا تتجاوز بضعة مئات، وهو ما يفقد الحدث ثقله ووزنه السياسي، كونه لا يتجاوز مظاهرة في أحد شوارع العاصمة رفضًا لاستمرار حكم العسكر على سبيل المثال، هذا بخلاف الانقسامات التي دبت في صفوف داعمي هذا الحراك، حيث الانسحاب من المشاركة، وفي المقدمة حزب البعث الذي أعلن انسحابه وهو ما أضعف كتلة الفريق الداعي والمؤيد والمحرض على التصعيد.
أما المؤشر الثالث والأخير فيتمثل في عدم اتخاذ الاعتصام بعدًا إثنيًا أو طائفيًا، إذ كانت هناك مخاوف من أن تكون للطائفية دور في هذا الحراك، حيث دعمه وتأييده من القواعد الدارفورية الموجودة بالخرطوم، وهو ما كان سيعقد المشهد بصورة يصعب معها المواجهة والتعامل من حكومة حمدوك.
بجانب تلك المؤشرات، تمارس واشنطن هي الأخرى ضغوطها لتمكين الانتقال الديمقراطي للحكم في البلاد، إذ نشرت لجنة الاعتمادات في مجلس الشيوخ الأمريكي مشروع السنة المالية للعام المالي 2022، التي تنص على ربط المساعدات العسكرية المقدمة للسودان بموافقة المكون المدني في الحكومة الانتقالية السودانية.
المشروع حصر المساعدات الأمريكية المقترح تقديمها للجيش السوداني في مجالات كالتعليم العسكري الدولي والمهني أو في تنفيذ اتفاق جوبا للسلام أو أي اتفاق سلام آخر قابل للتطبيق في السودان، في محاولة لتضيق الخناق جزئيًا على نفوذ الجنرالات المتنامي الذي قد يؤهلهم للانقلاب على مكتسبات ثورة ديسمبر/كانون الأول.
وأمام هذا المشهد المرتبك ولعبة الكراسي الموسيقية في خريطة التوازنات، ولغة استعراض العضلات المستخدمة من كل الأطراف المتنازعة على السلطة، فإن تظاهرات الـ21 من أكتوبر/تشرين الأول ستجيب بشكل كبير عن الكثير من التساؤلات بشأن موقف الجنرالات من الوثيقة الدستورية وتسليم السلطة للمكون المدني، هذا بخلاف تداعياتها على الموقف الدولي إزاء الوضعية الحاليّة، الأمر الذي يدفع بالكرة في ملعب الشارع، فهل تستطيع الحشود المشاركة إقناع الداخل والخارج بأن الثورة لم تمت وأن الثوار – وإن اختلفوا نسبيًا – على قلب رجل واحد أمام مخططات الانقلاب وتمكين العسكر من السلطة، لتجنيب البلاد العودة لعصور الظلام مرة أخرى؟