ترجمة وتحرير: نون بوست
لا يبدو مخيم الدهيشة للاجئين بالقرب من بيت لحم مثل المواقع التقليدية الأخرى المصنفة ضمن التراث العالمي حسب تصنيف اليونسكو. لا يضم المخيم أكشاكا لبيع الهدايا التذكارية ولا يعج بالباعة المتجولين، بل يتميّز بجدرانه الخرسانية المتصدعة المغطاة بالرسوم الجدارية، وعلى ناصية الشارع، متجر يحتوي آلة نسخ قديمة وأرفف تحتوي القليل من بالمؤن. تمضي سيارة أجرة في شارع مليء بالحفر بين أكوام من الركام تتدلى فوقها كابلات الكهرباء وأسلاك شبكة الهاتف.
ولكن معرضا جديدا أُقيم في “قاعات موزاييك” بالعاصمة البريطانية لندن طرح فكرة أن هذا المخيم المتداعي يجب أن يحظى بنفس الحماية مثل ماتشو بيتشو أو البندقية أو تاج محل. يقول أليساندرو بيتي: “نريد تغيير المفاهيم الغربية التقليدية للتراث. كيف يمكنك تسجيل تراث ثقافي في المنفى؟ إذا كانت تسمية مواقع التراث العالمي حكرا على الحكومات، فكيف يتم تصنيف تراث عديم الجنسية؟”.
يعمل بيتي منذ سنة 2007 مع ساندي هلال، التي ترأس مجموعة أبحاث الفن المعماري لإنهاء الاستعمار، وهي مجموعة تسير بمرونة بين عوالم العمارة والسياسة والتنمية. على امتداد السنوات السبع الماضية، عملت المجموعة مع اللاجئين الفلسطينيين في مخيم الدهيشة على إعداد ملف استثنائي لتقديمه إلى اليونسكو، بهدف المطالبة بالدفاع عن “قيمة الموقع المميزة” باعتباره شاهدا على أطول وأكبر عملية نزوح في العالم.
في عملية يصفونها بأنها “خطة للفت الأنظار إلى جدية الأمر”، سلطت المجموعة الضوء على المعايير الغامضة التي تعتمدها اليونيسكو لتصنيف مواقع التراث العالمي، والتي قد تعيق تصنيف المخيم ضمن هذه المواقع. وتساءلت المجموعة عما إذا كان هذا “المخيم مجرد موقع شهد مأساة جماعية، أم أنه يُنتج قيما تحتاج إلى الاعتراف بها وحمايتها؟”
يبدأ المعرض بمجموعة من اللوحات الضوئية الكبيرة في الطابق الأرضي، والتي تُظهر صورا من مخيم الدهيشة التقطها المصور الإيطالي لوكا كابوانو، الذي كلفته اليونسكو سابقا بتوثيق مواقع التراث العالمي الشهيرة في إيطاليا.
كان هدف بيتي وهلال إضفاء بعض الرومانسية على الصور التي التقطها لوكا لمخيم اللاجئين، حتى تصبح أشبه بصور أزقة مدينة البندقية وساحات مدينة توسكانا. تتمتع الصور في المعرض بجودة عالية، وتتسرب الأضواء من المداخل المفتوحة جزئيا لتجعلك تشعر أنك تتجول في المكان.
يكفي أن تطرف بعينك وستحس أنك في البندقية -التي تضمن المعرض صورة لها للمقارنة- وليس في مخيم الدهيشة للاجئين. إنه عالم بعيد عن الصور المعتادة لمخيمات اللاجئين، والتي تظهر عادة على أنها أماكن تعاني البؤس واليأس.
تأسس مخيّم الدهيشة سنة 1949 لإيواء أكثر من 3000 فلسطيني طردتهم الميليشيات اليهودية من قراهم في الحرب العربية الإسرائيلية، ومنذ ذلك الحين اتسع الدهيشة ليستوعب 15 ألف شخص. بدأ المخيم بمجموعة من الخيام التي نُصبت على سهل قدمته الحكومة الأردنية (التي لا تزال تمتلك الأرض) لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين (الأونروا).
مخيم الدهيشة هو نتاج مأساة العيش في طي النسيان والأمل الأبدي في العودة إلى الأرض، وهو ما يُطلق عليه بيتي وهلال حالة “المؤقت الدائم”.
في خمسينيات القرن الماضي، عندما لم تظهر أي بوادر لانتهاء الصراع، بدأت الأونروا ببناء غرف إيواء خرسانية صغيرة للعائلات، مع الالتزام بقاعدة متر مربع واحد لكل شخص، وحمام مشترك بين كل 15 غرفة. مع مرور الوقت، أضافت العائلات مزيدا من الغرف وتوسّع المخيم.
بعد مرور أكثر من 70 سنة، لا يبدو مخيم الدهيشة مثل أي مخيم آخر قد رأيته من قبل. عندما زرته في سنة 2018، لم أجد خياما أو ملاجئ، بل وجدت شوارع متعرجة ومنازل خرسانية متعددة الطوابق، ما يجعله أقرب إلى المنطقة الحضرية المكتظة التي تطورت بشكل تدريجي على مدى عقود.
توجد متاجر ومدارس ومساجد ومركز اجتماعي، وكلها مكتظة في مساحة تقل عن نصف كيلومتر مربع. الهِبَة الوحيدة التي حصل عليها سكان المخيم هي شاحنة قمامة تحمل شعار الأمم المتحدة وتقوم بعملها في الممرات الضيقة.
الجدران عارية والقضبان الفولاذية بارزة من معظم أسطح المنازل، ولكن هناك عاملا آخر يجعل كل شيء يبدو غير مكتمل. مخيم الدهيشة هو نتاج مأساة العيش في طي النسيان والأمل الأبدي في العودة إلى الأرض، وهو ما يُطلق عليه بيتي وهلال حالة “المؤقت الدائم“. الأحياء مرتبة وفقا للقرى التي جاء منها اللاجئون، وتتشبث كل عائلة بحلم العودة إلى أرض الأجداد التي تقع على بعد بضعة كيلومترات فقط، خلف الجدار الأمني الإسرائيلي الذي لا يمكن تجاوزه.
تقول ساندي هلال، التي عاشت طفولتها في بلدة بيت ساحور القريبة من المخيم: “هناك شعور واسع بين اللاجئين الفلسطينيين بأنك إذا اعتبرت المخيم موطنا لك، فإنك تفرط في حق العودة. يحاول الناس تحسين منازلهم وظروفهم المعيشية، لكنهم يشعرون بالحرج من امتلاك تلك المنازل”. تتذكر هلال كيف التقت رجلا يحفر مسبحا صغيرا في حديقة منزله، وعندما سألته عما يفعله، ارتبك على الفور معتقدا أنها ستتهمه بأنه يريد العيش في المخيم بشكل دائم. تقول هلال: “هناك خوف من أن يرى الناس أنك تتطلع إلى الاستقرار في المكان”.
لا تساعد التصورات الدولية على تغيير هذا الوضع. وترى هلال أن جولات الزوار الأجانب التي تُظهر بؤس سكان مخيم الدهيشة، جزء من صناعة السياحة التي ولدت مناطق جذب محلية في فنادق مثل بانكسي وولد أوف ببيت لحم، والذي يتميز بإطلالته على الجدار الأمني الخرساني المغطى بالكتابات. وتقول هلال: “التاريخ الوحيد المعترف به هو تاريخ العنف والمعاناة والإذلال. كيف يمكننا إعادة صياغة واقع المخيم بلمسة أكثر إيجابية؟”
بالنسبة لمعرض لندن، قام الثنائي بتحويل إحدى غرفه إلى غرفة معيشة، أو “المضافة”، حيث سيعقد الفلسطيني عمر حميدات اجتماعات أسبوعية أيام الأحد، وسيتم ربطها مع مخيم الدهيشة عبر تطبيق زوم. المعرض مليء بالعناصر التي تبرع بها المغتربون الفلسطينيون، بينها مجموعة من الأشرطة الموسيقية، وبساط منسوج من غزة، وعود الناشط حميدات. يقول بيتي: “نريد أن يكون المعرض موقعا نشطا للجمع والإنتاج”.
تسلط غرفة ثالثة في الطابق السفلي الضوء على حق الفلسطينيين في العودة، مع عرض لحوالي 44 قرية بالقرب من القدس والخليل، والتي أُجبر سكان الدهيشة على الفرار منها. هناك كتيبات كبيرة الحجم لصور كابوانو على قواعد مضاءة بارتفاعات مختلفة، مما يخلق مشهدا متحركا.
بعد نزوح العائلات الفلسطينية قبل 70 سنة، لم يعد من الممكن التعرف على قراهم السابقة. بعضها الآن عبارة عن حدائق إسرائيلية كانت ذات يوم منازل للفلسطينيين، والأخرى تحولت إلى مواقع صناعية، حيث تزحف الصوامع الخرسانية والأسقف الفولاذية على الحقول وأشجار الفاكهة. غالبية القرى نمت حولها النباتات وزُرعت فيها أشجار الصنوبر والأوكالبتوس، وتقول هلال: “المساحات الخضراء تُستخدم لإخفاء الجرائم”.
في كتابهما “تراث اللاجئين“، الذي يوضح بالتفصيل الجهود المبذولة لتصنيف المخيم ضمن مواقع التراث العالمي، يعتبر الثنائي أن القرى المحيطة هي أيضا موقع تراثي مواز للمخيم. وفي اقتباس لكلمات اليونسكو، يشير الثنائي إلى أن القيمة العالمية التي تميز مواقع التراث العالمي هي قدرتها على “تجاوز الحدود الوطنية”. ويرى بيتي وهلال أن الدهيشة مكان نموذجي من هذا المنظور، حيث “يتجاوز الحدود من خلال واقعه المعيشي الذي يجمع بين انعدام الجنسية واللجوء والنفي”.
لقد أصبح عملهما أكثر إثارة للمشاعر بسبب استحالة تحقيق الهدف السياسي. بالطبع لا يمكن أن تصل جهودهما إلى اليونسكو إطلاقا، ولا توجد أي دولة يمكن أن تتبنى هذا المشروع.
المصدر: الغارديان