ترجمة وتحرير: نون بوست
هاجر أكثر من 20 ألف يهودي من جنوب أفريقيا إلى فلسطين منذ عشرينيات القرن الماضي، وإلى “إسرائيل” منذ سنة 1948. كان أشهرهم أوبري سليمان، الذي غير اسمه إلى أبا إيبان وأصبح سياسيا إسرائيليا بارزا. يعيش الكثير منهم في مستوطنة سفيون الثرية، التي بنيت على أنقاض قرية العباسية الفلسطينية بعد طرد سكانها خلال الاحتلال الصهيوني لفلسطين سنة 1948.
استمر يهود جنوب أفريقيا في الهجرة إلى فلسطين، حيث يرى بعضهم أن الاستيطان في “إسرائيل” أصبح كثر أمانا للبيض من جنوب أفريقيا بعد انهيار نظام الفصل العنصري.
من غير الواضح كم عدد البروتستانت الخمسينيين البيض الذين تحولوا إلى اليهودية. ويزعم تقرير نشرته مؤخرا صحيفة “هآرتس” أن هؤلاء المتحولين هاجروا بأعداد كبيرة إلى “إسرائيل” منذ نهاية نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا في منتصف التسعينيات.
وكتبت جودي مالتس في صحيفة هآرتس: “يتحول عدد متزايد من العائلات الأفريكانية إلى اليهودية الأرثوذكسية ويهاجرون من جنوب إفريقيا إلى “إسرائيل”، وفي كثير من الحالات، إلى مستوطنات الضفة الغربية”.
يؤكد قادة الحركة الصهيونية في جنوب أفريقيا أن الدافع الروحي هو السبب الرئيسي في تحول عائلات أفريكانية بروتستانتية بأكملها إلى اليهودية. ويضيف أحد المسؤولين أنه مع تزايد الهجرة من جنوب أفريقيا، يزداد عدد المتحولين إلى اليهودية.
يقدر العدد حاليا بعدة مئات من المهاجرين. وتضيف هآرتس أنه “مثل العديد من اليهود الأرثوذكس، يميل المهاجرون أيضًا تبني السياسات اليمينية. بالتالي ليس من قبيل المصادفة أن ينتهي الأمر بالعديد منهم إلى الانتقال إلى مستوطنات الضفة الغربية. في الواقع، أحد معاقلهم الرئيسية هي مستوطنة سوسيا جنوب الخليل، إلى جانب رع أنانا، التي تحظى بشعبية بين المهاجرين من جنوب أفريقيا بشكل عام، ومستوطنة يافنيئيل الريفية شمال إسرائيل”.
قد يكون الدافع وراء هذه الهجرة اعتبارات دينية، إلا أن هناك أيضًا ارتباطا كبيرا بين جنوب أفريقيا و”إسرائيل”، حيث يجمع بينهما تاريخ مشترك من الفصل العنصري والاستيطان.
السياق التاريخي
يجب النظر إلى هذه الهجرة في سياق التاريخ الطويل من التواطؤ والتعاون بين المستعمرتين. كان الأفريكاني جان سموتس، رئيس وزراء جنوب أفريقيا (1919-1924 و1939-1948) -وهو الشخص الوحيد الذي وقّع على كل من معاهدة فرساي وميثاق الأمم المتحدة-، مؤيدًا بارزا للاحتلال الصهيوني لفلسطين، لدرجة أن إحدى المستوطنات الاشتراكية الصهيونية المعروفة بـ”الكيبوتس”، سُمّيت باسمه.
اعتقد الصهاينة أن الفلسطينيين ليسوا مختلفين عن السكان الأصليين الأفارقة، وخاصة سكان المستعمرات الألمانية السابقة، مثل ناميبيا، وكان جون سموتس يصر على عدم منحهم الحق في تقرير المصير. يقول سموتس “إن هؤلاء الناس برابرة، ولا يستطيعون تطبيق أي أفكار لتقرير المصير السياسي بالمعنى الأوروبي. ستكون هذه المستعمرات الاستيطانية في أفريقيا نموذجا للصهاينة في فلسطين”.
يضيف سموتس: “لا أحتاج إلى التذكير بأن البيض في جنوب أفريقيا، وخاصة السكان الهولنديين الأكبر سنًا، قد نشأوا بشكل شبه كامل على التقاليد اليهودية… لقد كان العهد القديم مرجعا للثقافة الهولندية هنا في جنوب أفريقيا. لقد كان للشعب اليهودي رسالة حضارية في أنحاء العالم، دون أي نظير تقريبا”.
عرض مجلس الوزراء البريطاني على سموتس منصب المفوض السامي الأول في فلسطين حتى “يجعل العرب متحضرين مثلما فعل مع الأفارقة”، لكنه رفض بسبب التزاماته في جنوب أفريقيا، وعُين البريطاني اليهودي الصهيوني هربرت صموئيل في المنصب.
كما تم اختيار سموتس من قبل رئيس الوزراء البريطاني ديفيد لويد جورج لقيادة الحملة العسكرية البريطانية سنة 1917 لغزو فلسطين، لكنه رفض أيضا، واختار لويد جورج الجنرال إدموند ألنبي، الذي خدم سابقا في جنوب أفريقيا.
تعذيب الفلسطينيين
في وقت مبكر من سنة 1927، ألهم نموذج التفوق الأبيض في جنوب أفريقيا، الصهيوني الألماني حاييم أرلوسوروف، حيث ادّعى أن تغاضي الصهاينة عن حقوق العمال العرب الفلسطينيين كان شيئا ضروريا لا يختلف عما يحدث في جنوب إفريقيا.
أنشأ البيض في جنوب أفريقيا “شريط ألوان” يستثني غير البيض من الوظائف المهمة ذات الأجر الجيد، وهو الأمر الذي كان أرلوسوروف يرى ضرورة تطبيقه في فلسطين. كانت هذه هي سياسة الفصل العنصري التي أرستها القيادة الصهيونية طوال فترة الانتداب البريطاني، وبعد قيام دولة “إسرائيل”.
كان البريطانيون، بصفتهم الراعي الاستعماري للاحتلال الاستيطاني في كل من جنوب أفريقيا وفلسطين، يستعيرون بعض الأساليب من مستعمرة ويطبقونها على الأخرى. خلال الثورة الفلسطينية الكبرى بين 1936 و1939، جلب البريطانيون كلابا مدربة من جنوب أفريقيا بهدف تعقب الفلسطينيين، وهاجموا الثوار بوحشية.
شكلت عمليات تعذيب الفلسطينيين أساسا لممارسات بريطانية أكثر وحشية ضد مقاتلي ماو ماو في كينيا خلال خمسينيات من القرن الماضي.
بحلول السبعينيات، ومع صمود جنوب أفريقيا و”إسرائيل” في عالم ما بعد الاستعمار، ساعد الإسرائيليون جنوب أفريقيا في السيطرة على السكان الأصليين، لا سيما في ناميبيا، وساهموا في العدوان العسكري على أنغولا التي كانت قد تحررت لتوها من الاستعمار.
وجه الجنرال الإسرائيلي أرئيل شارون نصائحه إلى حكومة جنوب أفريقيا بشأن أفضل الأساليب العسكرية لتحقيق هذه الأهداف. وتحدث مستشار شارون، الصحفي يوريل دان، الذي رافقه إلى جنوب أفريقيا أثناء مهمة عسكرية أثناء الحرب على أنغولا، انطباعاته قائلا: “عندما أنظر إلى الضباط الجنوب أفريقيين وهم يتحدثون الأفريكانية أو الإنجليزية، وأثناء العمليات، كنت أتوقع أنهم سيصدرون قريبا أوامر باللغة العبرية. مظهرهم الخارجي وحيويتهم ومرونتهم وسلوكهم في ساحة المعركة، كل ذلك يذكرني بضباط جيش الدفاع الإسرائيلي. ولم أقل ذلك أبدا عن الضباط الأمريكيين والفيتناميين الجنوبيين الذين قابلتهم”. استمر تحالف “إسرائيل” مع نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا حتى أيامه الأخيرة.
مفارقة
المفارقة اليوم هي أن ذلك النوع من الضباط الذين ذكّروا دان “بضباط جيش الدفاع الإسرائيلي” انضموا إلى الجيش الإسرائيلي. لأن جنوب إفريقيا ما بعد نظام الفصل العنصري لم تعد مكانا آمنا للمستوطنين البيض، انضمت “إسرائيل” إلى الولايات المتحدة وكندا وأستراليا، ورحبت بهم على أرضها.
لكن الآن لم تعد هناك حاجة للكلاب الجنوب أفريقية في “إسرائيل”، لأن الجيش الإسرائيلي لديه كلاب “عوكيتس” المدربة تدريبا جيدا للهجوم على الفلسطينيين، والتي تم استيرادها من هولندا (وهي للمصادفة البلد الأم للاستعمار الأفريكاني الاستيطاني في جنوب أفريقيا).
تم تصدير أفكار الفصل العنصري والكلاب الجنوب أفريقية إلى فلسطين أثناء الاحتلال البريطاني، فهل يعني استمرار هجرة البيض من جنوب أفريقيا إلى المستوطنات الإسرائيلية في فلسطين، استمرار هذا الارتباط الأيديولوجي؟ أم أنها مجرد علاقة ثقافية وروحية تجذب أولئك اعتنقوا اليهودية بحثا عن شيء من الأمن في “إسرائيل”؟
المصدر: ميدل إيست آي