ترجمة وتحرير: نون بوست
تعتبر قطر مثالا على الكيفية التي تستطيع بها دولة صغيرة، تتمتع بموارد طبيعية مهمة، من الصمود في بيئة إقليمية معادية. لم تتمكن قطر من الصمود فحسب، بل أصبحت لاعبا مهما في حل النزاعات الدولية. ويرجع بروز قطر على صعيد دولي إلى تطبيق استراتيجية تتجاوز ما يُعرف بالقوة الناعمة، ويمكن وصفها بالقوة الخفية. من خلال هذه الاستراتيجية، قامت قطر بتطويع النظام الدولي لخدمة مصالحها، مما دفع الدول المؤثرة إلى التقارب معها، أو إلى محاولة تشويهها.
مثّل شعار الملك فرديناند السادس “السلام مع الجميع، ولا حرب مع أحد” استراتيجية قادت إسبانيا إلى حالة من الازدهار غير المسبوقة. ورغم التورط في عدد من النزاعات، فقد تم حل العديد منها دون قتال، وتمتع الإسبان بفترة من الإصلاحات والتطور الزراعي والعلمي، كما تم تعزيز الأسطول البحري. ويمكن القول إن هناك دولة تطبق حاليا بشكل مثالي شعار الملك الإسباني. إنها دولة قطر التي استطاعت ضمان استقرارها في بيئة متقلبة، وأصبحت تحتل مكانة بارزة في النظام الجيوسياسي العالمي الجديد.
تتميز قطر بتنوع اقتصادها، لأنها لا تريد الاعتماد فقط على موارد الطاقة الهائلة، بل تسعى أيضا إلى تطوير قطاعات إنتاجية أخرى، بما في ذلك السياحة.
تعتبر قطر دولة حديثة نسبيا. ومنذ نشأتها، وجدت نفسها في وضع حرج بسبب قربها من المملكة العربية السعودية، التي اعتبرتها تاريخيا جزءا من أراضيها. كما أن قطر متورطة منذ فترة طويلة في النزاع الإقليمي بين السعودية وإيران، ووجود دولة صغيرة ذات موارد طبيعية مهمة بين خصمين إقليميين كبيرين يعدّ عامل خطر حقيقي من الناحية الجيوسياسية. مع ذلك، فقد تمكن القطريون من الصمود وتعزيز مكانتهم إقليميا وعالميا. وفي هذا السياق، يمكن أن نفهم سبب وجود قوات أمريكية أو بريطانية أو تركية على الأراضي القطرية.
أدى ذلك إلى أن تصبح قطر أكثر جاذبية لمختلف القوى الفاعلة عالميا، بينما يفقد منافسوها المكانة والمصداقية.
تمت دراسة الوضع المتميز الذي تتمتع به قطر في بيئات أكاديمية مختلفة، وحُدّدت ثلاثة أسباب رئيسية لهذا الصعود. يرجع السبب الأول إلى حقيقة أنها دولة صغيرة محاطة بقوى إقليمية كبيرة، وهذا يدفعها إلى تعزيز حضورها على الساحة الدولية لضمان بقائها.
ثانيا، تتميز قطر بتنوع اقتصادها، لأنها لا تريد الاعتماد فقط على موارد الطاقة الهائلة، بل تسعى أيضا إلى تطوير قطاعات إنتاجية أخرى، بما في ذلك السياحة. أخيرا، تم التركيز على أدوات القوة الناعمة التي تجعل منها لاعبا دوليا مهما، ومن بينها قناة الجزيرة الإخبارية. يمكن أن نُطلق على الاستراتيجية التي تعتمدها قطر لتأمين مصالحها وتعزيز حضورها الدولي “القوة الخفية”.
البحث عن البقاء والازدهار
ترتبط شبه جزيرة قطر بأراضي المملكة العربية السعودية، وقد احتلت المملكة الأراضي القطرية بعد إعلان دستورها سنة 1913، واضطرت إلى التخلي عنها بضغط من المملكة المتحدة. سنة 1916، وافقت عائلة آل ثاني على دستور حماية تحت حكم المملكة المتحدة، ولكن في عام 1971 انسحب البريطانيون من المنطقة، فأعلن القطريون استقلالهم.
يحكم البلاد حاليا الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، الذي تعتبر عائلته من سلالة قبيلة بني تميم، التي ينتمي إليها مؤسس الوهابية الشيخ محمد بن عبد الوهاب. ومع ذلك، فإن قطر متسامحة مع بقية الطوائف والأديان، وهو ما يوضحه وجود مجمع الأديان في منطقة مسيمير. يبلغ عدد سكان قطر حوالي ثلاثة ملايين نسمة، لكن غالبيتهم من الوافدين، ويبلغ عدد المواطنين القطريين حوالي ربع هذا العدد.
تاريخيا، اعتبر السعوديون قطر جزءا من أراضيهم، وقد شهدت المنطقة حوادث مختلفة، لا سيما حادثة الخفوس على الحدود بين البلدين سنة 1992. لذلك، لم يكن من من المستغرب أن ترحب قطر بوجود قوات أجنبية تضمن أمنها ضد العملاق السعودي، وشهدت سنة 1992 ذاتها توقيع اتفاقية دفاع مع الولايات المتحدة، سمحت بإنشاء أكبر قاعدة جوية أمريكية في منطقة الشرق الأوسط، مع وجود كتيبة مشاة ميكانيكية.
يضمن قطاع الغاز للقطريين أعلى دخل للفرد في العالم، ومن المتوقع أن يتمكنوا من الحفاظ على مستوى الإنتاج الحالي لمدة 50 سنة قادمة على الأقل.
كما حافظت المملكة المتحدة دائما على وجودها في قطر. حاليا، يستمر الوجود البريطاني من خلال مقر القوات الجوية البريطانية في المنطقة، بالإضافة إلى فرقة قتالية أنجلو-قطرية مشتركة.
تختلف سياسة قطر بشكل كبير عن سياسات المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، أساسا بسبب الموقف من جماعة الإخوان المسلمين. يعتقد الإماراتيون أن الجماعة تهدف إلى زعزعة استقرار الأنظمة القائمة في المنطقة، بينما تعتبرهم قطر جماعة معتدلة.
تشكل الاحتياطيات الكبيرة من الغاز حجر الأساس في الاقتصاد القطري. منذ سنة 1974، تم استغلال حقول الغاز من قبل شركة النفط الحكومية القطرية. وتمتلك البلاد منشآت حديثة لاستخراج وتسييل الغاز الطبيعي بطاقة إنتاجية تبلغ 78 مليون طن من الغاز الطبيعي المسال، ومن المتوقع زيادتها بعد مشاريع التوسعة التي تنتهي سنة 2023. ويضمن قطاع الغاز للقطريين أعلى دخل للفرد في العالم، ومن المتوقع أن يتمكنوا من الحفاظ على مستوى الإنتاج الحالي لمدة 50 سنة قادمة على الأقل.
من بين جميع الحقول، يبرز حقل غاز الشمال (المعروف باسم حقل القبة الشمالية) الذي تشترك فيه قطر مع إيران (ويسمى في إيران حقل فارس الجنوبي). في هذا الإطار، يمكن أن نفهم سبب حرص قطر على الحفاظ على علاقة متوازنة مع إيران.
على الرغم من أهمية قطاع الطاقة القطري، اختارت الدولة تنويع اقتصادها لتصبح قطبا لجذب للاستثمارات الأجنبية بطرق متنوعة، وذلك من خلال تكوين بيئة جذابة للغاية يكون لقطاع السياحة فيها أهمية فائقة. وتساهم الصورة التي تقدمها شبكة الجزيرة الإخبارية إلى العالم، وشركة طيران بأكثر من 200 طائرة و150 وجهة حول العالم، في دعم هذه الجهود. أما الحافز الآخر فهو التزام قطر بكرة القدم، والعمل على تعزيز صورتها من خلال الأندية والفعاليات الرياضية، مثل كأس العالم 2022.
القوة الناعمة والعلاقات القطرية
بعد دراسة أول مجموعتين من الإجراءات المتعلقة بضمان أمن الدولة وازدهارها، نوضح بالتفصيل كيف تمكّن القطريون من احتلال مكانة متميزة عالميًا بفضل تطبيق تدابير القوة الناعمة إلى جانب ما تطرقنا له أعلاه.
في أواخر الثمانينيات، صاغ كل من جوزيف ناي وروبرت كيوهان مصطلح القوة الناعمة وكان تعريفهما لها أنها قدرة دولة ما على إقناع جهات خارجية بفعل ما تريد دون أن تلجأ إلى الإكراه أو استخدام القوة. ورغم إدراك كلا المؤلفين أهمية القوة الناعمة، إلا أنهما اتفقا أيضًا على أنه يمكن استخدامها إلى جانب أدوات أخرى للقوة الصلبة القسرية. وبين ناي كيفية الجمع بين القوتين بشكل ذكي.
فيما يتعلق بأدوات القوة الصلبة، لا تضاهي القوة العسكرية للقطريين قوة نظرائهم من اللاعبين الرئيسيين في المنطقة، لكن قواتهم المسلحة الحديثة يمكن أن تلحق أضرارًا بالغة بالخصوم المحتملين. ويعد وجود قواعد عسكرية تعود لدول أخرى لها تأثير عالمي كبير على الأراضي القطرية ضمانًا حقيقيًا للأمن.
لا يولي القطريون اهتمامًا خاصًا بأدوات القوة الصلبة، ويعتبرون أن نهج القوة الناعمة مفيد أكثر بالنسبة لهم. ومن الناحية النظرية، في ظل الظروف الحالية لنظام عالمي جديد متعدد الأقطاب ومتشابك فإن سبيل قطر لتحقيق النتائج المتوقعة بما لديها من موارد متاحة يعتمد إلى حد كبير على الانطباع الذي تتركه لدى المستثمرين وغيرهم من الأجانب، ويدخل ذلك ضمن سعيها للتأثير على نظام عالمي تنافسي تسيّره تقنيات الاتصال.
في المرحلة الأولى، عمِلت قطر على اكتساب الوسائل التي من شأنها أن تساعدها على الانخراط في هذه البيئة التنافسية وصاغت استراتيجية من شأنها تحقيق أهدافها وغاياتها. في هذه المرحلة، كان من المهم أن تكون الموارد المعروضة على المستثمرين “جذابة”. أما المرحلة الثانية فتشمل إضفاء المصداقية على عوامل الجذب بشكل يمنح المستثمرين مزايا تنافسية تجعلهم يجارون الفاعلين الآخرين في الخارج. وفي المرحلة الثالثة، التي يمكن تسميتها بمرحلة “نزع التمكين الناعم” يتم تجريد الجهات الفاعلة خارج النظام من شرعيتها.
القوة الناعمة ودور قطر في النظام العالمي الجديد
تعتبر قطر من الدول التي اُتهمت باستضافة أقليات دينية متطرفة ومنبوذة. بدأ الأمر باستقبال قطر لاجئين سعوديين بعد احتلال مكة في سنة 1979 ثم أعضاء من القاعدة وطالبان. ورغم عدم وجود علاقة رسمية بين قطر وجماعة الإخوان المسلمين، إلا أن أحد قياداتها في مصر مثل يوسف القرضاوي، لجأ إلى الدوحة وأصبح مقدم برنامج الشريعة والحياة لشبكة أخبار الجزيرة.
قبل اندلاع ما يسمى بثورات الربيع العربي، اعتبرت قطر واحدة من الدول القليلة في المنطقة التي حافظت على علاقات ودية مع إسرائيل، مع أنها لم تصل إلى المستوى الدبلوماسي الذي يسمح لها أن تكون وسيطا في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وقد تسببت القضية الفلسطينية في سنة 2009 في تجميد هذه العلاقات بعد قمة الدوحة لجامعة الدول العربية التي تخللتها توترات بسبب إعراض مصر عن تقديم المساعدة وانقسامات بين مؤيدين ومعارضين لدعم الرئيس الأمريكي جورج بوش محاولات عزل إيران.
خلال الربيع العربي، رأى العديد من المنفيين في الدوحة إمكانية العودة إلى أوطانهم لنشر أيديولوجيتهم، وهو ما حدث بشكل خاص في تونس واليمن ومصر وفلسطين وسوريا وليبيا. وكان المعارض الليبي علي الصلابي مسؤولا عن توجيه الدعم لمحاربة المشير حفتر، الذي أراد إرساء نظام جديد انطلاقا من بنغازي بدعم من جهات فاعلة مختلفة على رأسها دولة الإمارات العربية المتحدة. وبالنظر إلى حجم أعمال الشغب، خشيت دول الخليج الأخرى على أمنها فزادت من إجراءات الضغط على قطر من خلال تهديدها بإغلاق الحدود وفرض الحظر الجوي عليها – الذي تحول فيما بعد إلى حصار فعلي في 2017.
في سوريا، ومع أن النظام الحاكم في البلاد علماني وموالي لإيران إلا أن ذلك لم يثني القطريين عن محاولة توجيه النظام السوري نحو الشق العربي. ولعل أبرز الأمثلة على ذلك دفاع القطريين عن نظام الأسد بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري في سنة 2005. يوجد ما يثبت أن الأسد تخلّى في سنة 2009 عن مشروع خط أنابيب الغاز الذي اقترحته قطر، والذي كان من المقرر أن يصل إلى تركيا عبر سوريا. كانت أولى بوادر العداء من السوريين عندما طالبوا في سنة 2011 بوضع حد للانتقادات التي وجهها لهم يوسف القرضاوي على خلفية طريقة تعاملهم مع الحركات الداخلية للمنشقين السوريين.
أبقى القطريون على علاقات دبلوماسية مع إيران سعيا إلى تحقيق التوازن. ولعلّ اتخاذ قطر موقفًا حياديًا وإنشاءها لنظام تحالفات خاص بها قد أثار غضب السعوديين بشكل خاص.
بعد اندلاع أعمال الشغب في سوريا ومنذ انعزال الأسد عن العالم العربي، اختار السعوديون والقطريون الانحياز إلى الحركات السنية. اتُهمت قطر بدعم تحالف تجمع حول القائد مثقال بطيش النعيمي بقيادة كتائب الفاروق، وهي جماعة مرتبطة بجبهة النصرة التي كانت آنذاك تابعة لتنظيم القاعدة. وقد تسبب هذا التوجّه في توتر العلاقات الودية لقطر مع الإيرانيين الذين دعموا نظام الأسد. مع ذلك، كان القطريون على استعداد لإظهار استقلاليتهم والحزم في علاقاتهم الخارجية وتشكيل سياستهم الخارجية وفقا لمصالحهم.
اتُهمت قطر بدعم حكومة الرئيس المصري الراحل محمد مرسي التابع لجماعة الإخوان المسلمين في سنة 2013، التي أطاح بها عبد الفتاح السيسي. وخلال نفس السنة، افتتحت طالبان مكتبًا في الدوحة مكّن القطريين من قوة دبلوماسية جعلتها وسيطًا لعملية الانتقال التي كانت من بنات أفكار الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما بالفعل.
أدت خلافات قطر مع بعض دول الخليج إلى أزمة دبلوماسية في سنة 2014 نجم عنها انسحاب سفراء كل من السعودية والبحرين والإمارات من الأراضي القطرية. وكان سبب هذه الأزمة “التدخل القطري في الشؤون الداخلية” لدول أخرى، بيد أن القطريين احتفظوا بسفراء لهم في هذه الدول واكتفوا بالإعراب عن أسفهم على تصرفات جيرانهم، مؤكدين نبل قضيتهم.
خفّت حدة التوترات بعد وفاة الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، عاهل المملكة العربية السعودية في سنة 2015 ليخلفه شقيقه الملك سلمان، الذي فوض الكثير من واجباته لابنه الأمير الشاب محمد بن سلمان. ولكن سرعان ما تصاعدت التوترات في سنة 2016 عندما حكم السعوديون على رجل الدين الشيعي الشيخ نمر باقر النمر بالإعدام إلى جانب 47 آخرين، حيث وقع هجوم على السفارة السعودية في طهران. ومع أن هذه المسألة أدت إلى سحب جميع دول الخليج لسفرائهم من إيران، أبقى القطريون على علاقات دبلوماسية معها سعيا إلى تحقيق التوازن. ولعل اتخاذ قطر موقفًا حياديًا وإنشاءها لنظام تحالفات خاص بها قد أثار غضب السعوديين بشكل خاص.
أصبحت قطر في موقع القوة ما سمح لها بتعزيز شبكة تحالفاتها حتى باتت لاعبا رئيسيا في العلاقات بين الشرق والغرب.
مثّل تضارب وجهات النظر بين النظام القطري ودول المنطقة حافزًا لقطع المملكة العربية السعودية والإمارات والبحرين ومصر والأردن علاقاتها الدبلوماسية مع قطر في سنة 2017، متهمة إياها بالتدخل في سياساتها الداخلية ودعم الجماعات الإرهابية مثل القاعدة وتنظيم الدولة. وقد تسبب إغلاق الحدود الجوية والبحرية في أزمة في قطر أثرت حتى على الإمدادات الغذائية. وقد دفع ذلك كلا من إيران وتركيا إلى دعم القطريين وإنشاء تحالف مقلق زاد من حدة الأعمال العدائية التي أدت إلى اختلال خريطة التحالفات المعقدة للمنطقة.
جاء رد الفعل القطري الفوري على هذا الاتهام عبر شبكة الأخبار الجزيرة، حيث رفضت الاتهامات الموجهة إليها. وبالنظر إلى التدخل السعودي في البحرين في سنة 2011 واليمن في سنة 2015، لجأ القطريون إلى حلفائهم الأتراك خوفًا من قصور الدعم الغربي.
كان الوقت لصالح القطريين لأن تمشيهم الإعلامي أثّر تدريجيًا على الجهات الأجنبية مع ضعف الموقف السعودي في غياب الدعم الاقتصادي القطري وتوجه قطر نحو إيران وتركيا بدلًا من دول مجلس التعاون الخليجي. وقد قطفت قطر ثمار صبرها في قمة مجلس التعاون لدول الخليج في العلا في كانون الثاني/ يناير 2021، حيث تم التوصل إلى إنهاء الحصار وعودة العلاقات الدبلوماسية. ومن خلال هذا الحدث، عززت قطر دورها كلاعب فاعل ومؤثر في المنطقة، وكوسيط محايد في النزاعات، وكمركز مالي وسياحي ورياضي وإعلامي في الشرق الأوسط.
حققت قطر انتصارًا دون أي مساومة على دعمها للحركات الإسلامية ذلك أن السعوديين كانوا بحاجة إلى استثمارات اقتصادية وغاز رخيص الثمن من القطريين وكانوا يريدون إنشاء علاقة جيدة مع الإدارة الأمريكية الجديدة تحت رئاسة جو بايدن.
منذ تلك اللحظة، أصبحت قطر في موقع القوة ما سمح لها بتعزيز شبكة تحالفاتها حتى باتت لاعبا رئيسيا في العلاقات بين الشرق والغرب. في شهر أيار/ مايو 2021 وبعد الاشتباكات بين الإسرائيليين والفلسطينيين، عرضت قطر مبلغ 500 مليون دولار لإعادة إعمار قطاع غزة تحت حكم حركة حماس. وبرز دور قطر مع وصول طالبان إلى السلطة في أفغانستان في نهاية أغسطس/ آب 2021. بفضل وساطة الدوحة في المحادثات مع طالبان، لن تكون الأراضي الأفغانية ملاذا للإرهابيين، وقد ساهمت في تنفيذ أكبر عملية إجلاء جوي للمدنيين في التاريخ.
من القوة الناعمة إلى القوة الخفية
استخدمت قطر قدراتها ببراعة لتفتك مكانة لها في النظام العالمي الجديد باعتبارها قوة دبلوماسية في الشرق الأوسط. في بيئتها المباشرة، تمكنت قطر من ضمان بقائها بين القوتين الإقليميتين المتعاديتين السعودية وإيران. وعزز القطريون أمنهم من خلال القوة الجوية البحرية الأمريكية. ولكن قطر لم تعوّل على جهة خارجية واحدة لضمان أمنها، واستعانت بضمانات إضافية مثل المملكة المتحدة وتركيا. وتحظى تركيا بثقل موازن للقوة الأمريكية ولها توجهات جيوسياسية مختلفة.
تمكنت قطر من إيجاد المعادلة الصحيحة لتعزيز مكانتها في منطقة الشرق الأوسط وبين دول مجلس التعاون الخليجي وإقناعهم بالحاجة إلى الحصول على الدعم الذي يمكن أن يوفره اقتصادها لهم. لا تزال التوترات قائمة بين قطر والإمارات بسبب استقلالها الاقتصادي وموقفها الراديكالي المعارض لجماعة الإخوان المسلمين. لهذا السبب، من المحتمل أن تتخلى قطر في المستقبل عن إجراءات القوة الناعمة لمواجهة الموقف الإماراتي. وعلى المدى البعيد، لدى القطريين الكثير ليساهموا به من خلال وساطتهم لحل النزاعات في اليمن أو سوريا أو ليبيا أو فلسطين، بعد أن أصبحت لاعبا رئيسيا في المفاوضات مع أفغانستان.
من المثير للاهتمام معرفة كيف استطاع القطريون بفضل القوة الاقتصادية والعلاقات الخارجية إعادة تشكيل نظام كان معاديا لهم وتحويل مواقف جميع الفاعلين لصالحهم، بينما تسعى أطراف أخرى محايدة إلى توطيد علاقتها مع قطر
من خلال هذه الجغرافيا السياسية أصبحت قطر عنصرا تعتمد عليه القوى العالمية والإقليمية على حد سواء. وقد أشار العديد من المحللين إلى أن القطريين طوروا نظريات ناي حول القوة الناعمة إلى “قوة خفية”. بالنسبة للقطريين، يمكن تعريف القوة الخفية على أنها تركيبة متناسقة من ثلاث قدرات: أولا استغلال فرصة التأثير على فاعل آخر للقيام بعمل لن يقوم به في ظروف أخرى؛ ثانيا توفر إمكانية خلق ظروف مواتية لتكون قادرة على تحقيق الأهداف المرجوة من خلال تكوين بيئة التأثير؛ ثالثا “تعبئة التحيزات” التي من شأنها أن تؤدي إلى تغيير تصورات الجماهير المستهدفة.
يطرح المثال القطري تساؤلات حول العديد من نظريات العلاقات الدولية لأنها دولة صغيرة من المفترض أن تكون ضعيفة وتفتقر إلى الحكم الذاتي، لكنها تمكنت من التأثير على النظام الدولي بطريقة ملحوظة. يعد هذا الأمر مثيرا للاهتمام في الوضع العالمي الحالي الذي يميل نحو الواقعية الهجومية، حيث لا خيار أمام الضعفاء سوى الخضوع والسماح للقوى الكبرى بالتلاعب بهم. ولكن قطر أظهرت أن صغر الحجم لا يعني الضعف والخنوع.
يمكن دراسة القوة الخفية لقطر من خلال نهج مشابه لدراسات “الحرب الهجينة” للمدارس الغربية أو “الحرب غير الخطية” للمدارس ذات التوجه الروسي. ومن المثير للاهتمام معرفة كيف استطاع القطريون بفضل القوة الاقتصادية والعلاقات الخارجية إعادة تشكيل نظام كان معاديا لهم وتحويل مواقف جميع الفاعلين لصالحهم، بينما تسعى أطراف أخرى محايدة إلى توطيد علاقتها مع قطر. إن قطر نموذج للتجارب الناجحة في مجال العلاقات الدولية والدفاع والأمن، وجب دراستها بعناية في مراكز الدراسات الدبلوماسية والعسكرية.
المصدر: المعهد الإسباني للدراسات الاستراتيجية