هادئ وبسيط جدًّا كشخص وكنجم كرة قدم عالمي، سلكَ أكثر من محطة في حياته الرياضية، حيث بدأ مسيرته في المقاولين العرب المصري، ثم بازل السويسري، ومنه إلى تشيلسي الإنجليزي، قبل الانتقال إلى الدوري الإيطالي من بوابة فيورنتينا وروما، فليفربول الإنجليزي كمحطة سادسة حيث عرفَ توهُّجًا مبهرًا ومطّردًا، قد يقوده إلى القمة مستقبلًا.
بعد هدفه المذهل في شباك واتفورد، احتفَت الصحف الإنجليزية مجدّدًا بتألُّق نجم ليفربول والمنتخب المصري محمد صلاح، بعد تسجيله هدفَين في فوز فريقه على مضيفه أتلتيكو مدريد بنتيجة 3-2، ضمن منافسات الجولة الثالثة من دور المجموعات لدوري أبطال أوروبا.
Mohamed Salah a marqué un but incroyable contre Watford?pic.twitter.com/QJGE0dtsv9
— Goal France ?? (@GoalFrance) October 17, 2021
محمد صلاح، أو “مو”، حقّق رقمًا قياسيًّا جديدًا مع ناديه ليفربول في دوري أبطال أوروبا، حيث رفع رصيده إلى 31 هدفًا، متفوِّقًا على ستيفين جيرارد قائد الفريق السابق (30 هدفًا)، ليصبح أكثر من سجّل بالبطولة الأوروبية في تاريخ “الريدز”، وهو رقم يُضاف إلى ما حقّقه المصري من إنجازات في البطولة الإنجليزية.
مسيرته
وُلد محمد صلاح في 15 يونيو/ حزيران 1992 بقرية نجريج التابعة لمدينة بسيون في محافظة الغربية، لأسرة بسيطة تعيش في الريف المصري، مكوَّنة من أب يعمل موظفًا بإدارة الوحدة الصحية، وأم تُشرف على شؤون البيت وتربية الأبناء.
صلاح هو الابن الأوسط يأتي في الترتيب بعد شقيقته الكبرى رباب، وله شقيق أصغر اسمه نصر، بدأ خطوته الأولى في عالم المستديرة في الشوارع والأزقة كغيره من أبناء قريته الصغيرة، لكنه أظهر مبكّرًا موهبة ومهارة أثارتا الانتباه.
بدعم من والده، بدأ محمد صلاح البحث عن ذاته الكروية ومكان يصقل فيه موهبته التي ستتطور لاحقًا في كل محطة سلكها في مساره، ففي عمر الـ 10 سنوات (2002) رُشِّح للانضمام إلى صفوف نادي بلدية المحلة، إلا أن صعوبة السفر اليومي حالت دون استكمال الاختبارات واللعب لفائدة هذا الفريق.
لم ينتظر صلاح كثيرًا، فبراعته ومهارته مكّنتاه في سن الـ 14 من الانضمام إلى ناشئي المقاولين العرب، وهي علامة فارقة شكّلت ملامح مستقبله لاحقًا، وهو ما أكّده اللاعب في تصريح سابق بالقول: “قمت بتوقيع أول عقد لي مع المقاولين العرب وعمري 14 عامًا تقريبًا، أيقنت وقتها أنني على الطريق الحقيقي لبداية مشواري الاحترافي، وكنت أتقاضى راتبًا 120 جنيهًا وكانت لا تكفي ثمن المواصلات من القاهرة للغربية، وكان والدي يساعدني ماديًّا لاستكمال المصروفات، تحدثت مع صديقي محمود البهنسي لأخذ رأيه فقال لي مقولته الشهيرة الدائمة معي: “اصبر وانتظر ما زال أمامك الكثير، ويومًا ما ستصل لأفضل شيء ممكن””.
لم ينتظر صلاح كثيرًا ولم ينتقل كبقية اللاعبين المصريين إلى الفريقَين المحليَّين الكبيرَين: الأهلي والزمالك، رغم العروض المغرية التي قُدِّمت له، بل خيّر أن تكون بداية مشواره وانطلاقته الحقيقية في أوروبا، بوابة فرص التطور والتألُّق.
الاحتراف خارج مصر
عام 2012، انتقل اللاعب المصري محمد صلاح من ناديه المقاولين العرب إلى الساحة الأوروبية، وتحديدًا إلى فريق بازل السويسري بعد أن وقع عقدًا بـ 4 سنوات، وظهر لأول مرة فوق الميدان في الدوري الأوروبي أمام نادي مولده النرويجي، حيث شارك بديلًا في الدقيقة 74 من المباراة.
أحرز صلاح أول هدف في مسيرته الاحترافية في شباك لوزان، ضمن الأسبوع الثاني من الدوري السويسري، كما تُوِّج مع بازل بلقبَين للدوري السويسري، وخاضَ خلال مشواره 79 مباراة وسجّل 20 هدفًا.
تألُّقه مع بازل السويسري دفع القائمين على نادي تشيلسي الإنجليزي إلى التعاقد معه، وانضمَّ إلى صفوف النادي في يناير/ كانون الثاني 2014 في صفقة دفع “البلوز” خلالها 11 مليون إسترليني للفريق السويسري.
تجربة صلاح مع تشيلسي لم تكن كما تمناها اللاعب الذي عاش فترة عصيبة، فرغم أن المدرِّب البرتغالي جوزية مورينيو كان سببًا في انضمام “مو” إلى صفوف “البلوز”، بعد أن خطف محمد صلاح الأضواء أمام تشيلسي في دوري أبطال أوروبا، إلا أن النجم العربي لم يتأقلم مع المدرِّب والفريق.
ظهر صلاح لأول مرة بقميص “البلوز” أمام فريق نيوكاسل يونايتد، يوم 8 فبراير/ شباط 2014، وحلَّ كبديل، فيما كان أول أهدافه في شباك أرسنال، خلال المباراة التي انتهت بفوز “البلوز” 6-0، وشارك صلاح في 19 مباراة مع الفريق اللندني، وسجّل هدفَين قبل أن يرحل على سبيل الإعارة، بعد أن تجرّع مرارة الجلوس على دكّة البدلاء.
بنظام الإعارة، انتقل صلاح إلى فيورنتينا الإيطالي، وظهر المصري للمرة الأولى بقميص الفيولا، كبديل في مواجهة أتالانتا بالدوري الإيطالي، وقاد فريقه للفوز 3-2، ثم بدأ مسيرة التألُّق والتوهُّج التي تطورت يومًا بعد الآخر، فأصبح صلاح حديث الصحف العالمية كما تغنّت به الجماهير الإيطالية في المدرجات في كل لقاءات ناديه.
في تلك الفترة، نجح محمد صلاح في قيادة ناديه فيورنتينا لدور الـ 16 من الدوري الأوروبي، بعد تخطّي توتنهام، كما وصل مع الفريق إلى نصف نهائي كأس إيطاليا أمام يوفنتوس، وخاضَ خلال مشواره مع الفريق 26 مباراة، سجّل خلالها 9 أهداف.
6 أشهر من التألُّق في فيورنتينا كانت كفيلة لوضع صلاح على رادارات كبرى الأندية الإيطالية، حيث تمكّن فريق العاصمة الإيطالية روما، بداية موسم 2016-2017، من الاستعانة بخدمات المصري على سبيل الإعارة، مع خيار الشراء مقابل 15 مليون يورو، حيث خاض صلاح في موسمه الأول مع الذئاب 42 مباراة في جميع المسابقات، وسجّل 15 هدفًا.
وفى الموسم التالي، أعلنَ نادي روما شراء عقد المصري من تشيلسي، لتكون محطة جديدة تضع النجم المصري على طريق العالمية، خاصة أنه تألّقَ بقميص الذئاب وبات حديث العالم، بعد أن سجّل 19 هدفًا في 41 مباراة خلال موسم 2016-2017.
بعد محطة روما، حطَّ صلاح الرحال في نادي ليفربول الإنجليزي الذي تمكّن من الفوز بخدمات النجم المصري بعد منافسة مع عدد من الأندية الأوروبية، وانضمَّ إلى صفوف الفريق في صيف 2017 بصفقة تخطّت الـ 45 مليون يورو لتكون الخطوة الأهم في مشواره.
تحت قيادة المدرِّب الألماني يورجن كلوب، الذي أصرَّ على التعاقد معه ليكون ضمن خطة تكوين فريق الأحلام لـ”الريدز” والعودة لمنصة التتويج من جديد، لم يفوِّت صلاح الفرصة ليتوهّج ويدخل بوابة المجد الأوروبي، حيث تألّقَ في الموسم الأول، وحصل على لقب هدّاف الدوري الإنجليزي برصيد 32 هدفًا، كما تُوِّج بجائزة أفضل لاعب في البريميرليغ ليفرض نفسه على الجميع في أكبر دوري بالعالم.
في الموسم الثاني واصل صلاح تألُّقه وقادَ ناديه للفوز بدوري أبطال أوروبا بعد غياب 13 عامًا، وكان قريبًا من قيادة الفريق للفوز بالدوري الإنجليزي ولكنه خسرَ اللقب في الجولات الأخيرة، ولكن محمد صلاح تمكّن من التتويج بجائزة هدّاف الدوري الإنجليزي للموسم الثاني على التوالي بعد أن سجّل 22 هدفًا، وتقاسمَ الجائزة مع زميله ساديو ماني وأوباميانغ لاعب أرسنال.
في غضون ذلك، يعدّ الموسم الثالث الأهم في مشوار محمد صلاح مع ليفربول، حيث سجّل هدفًا في نهائي دوري أبطال أوروبا أمام توتنهام، ليحقِّق اللقب الأوروبي، وبعدها ساهمَ في قيادة “الريدز” للتتويج بلقب السوبر الأوروبي، وبعدها كأس العالم للأندية.
جوائز
حصد محمد صلاح العديد من الجوائز، أبرزها:
- أفضل لاعب في إنجلترا عام 2018.
- جائزة بوشكاش لأفضل هدف في الموسم 2018.
- جائزة الحذاء الذهبي في الدوري الإنجليزي (هدّاف الدوري الإنجليزي الممتاز) لعامَي 2018 و2019.
- الكرة الذهبية لأفضل لاعب في أفريقيا عام 2017.
- أفضل لاعب في أفريقيا، استفتاء شبكة “بي بي سي” عام 2017.
- غلوب سوكر – كووورة، أفضل لاعب عربي عام 2016.
- أفضل لاعب صاعد في أفريقيا عام 2012.
- أفضل لاعب في الدوري الإنجليزي في 4 شهور.
- لاعب في تشكيلة العام بقارة أفريقيا لعامَي 2016-2017.
- أفضل لاعب في سويسرا عام 2013.
- أفضل لاعب في روما موسم 2015-2016.
- اختير من قبل مجلة “تايم” الأمريكية عام 2019 ضمن أكثر 100 شخصية تأثيرًا في العالم.
أرقام قياسية
بعد تسجيله لهدفَين في مرمى أتلتيكو مدريد، ضمن منافسات الجولة الثالثة من دور المجموعات ببطولة دوري أبطال أوروبا، حطّم صلاح رقمًا قياسيًّا جديدًا بقميص “الريدز”، حيث انفرد بلقب الهدّاف التاريخي لنادي ليفربول في بطولة دوري أبطال أوروبا برصيد 31 هدفًا، ليكسر رقم النجم السابق ستيفن جيرارد (30 هدفًا).
وصل محمد صلاح أيضًا لهدفه رقم 100 في الدوري في 162 مباراة بتاريخ 12 سبتمبر/ أيلول 2021، وبذلك أصبح خامس أسرع لاعب يصل إلى هذا الرقم القياسي في تاريخ الدوري، كما انضمَّ بذلك إلى قائمة اللاعبين الـ 30 الذين نجحوا في الوصول إلى هذا الرقم التاريخي.
كما أنه اللاعب الأفريقي الثاني بعد ديدييه دروغبا، صاحب الـ 104 أهداف، الذي يصل لـ 100 هدف في الدوري الإنجليزي، بالإضافة إلى ذلك إن صلاح أكثر لاعب:
- سجّل أهدافًا في موسم واحد بالدوري الإنجليزي.
- أفريقي سجّل في تاريخ الدوري الإنجليزي في موسم واحد.
- حصل على جائزة لاعب الشهر (3 مرات) في موسم واحد.
- يسجّل مع ليفربول بدوري أبطال أوروبا.
- عربي يسجّل في دوري أبطال أوروبا.
من عادي إلى استثنائي
ليس كغيره من نجوم كرة القدم، حافظَ على تواضعه وبساطته وملامحه الهادئة، ولم يتأثر بنشوة النجومية والهالة الإعلامية اللتين تُحيطا به، بدأ مشواره بحلم سهل المنال أن يلعب كرة القدم، لكن تحوّل مع مرور الوقت إلى أيقونة بفضل جهوده المستمرة في تطوير مستواه وقدراته الفنية والجسدية.
ذاك البسيط خارج الميدان يتحوّل سريعًا إلى وحش على المربع الأخضر، يفترس خصومه بسرعته الفائقة وقدرته على تحويل مسار الكرة إلى الشباك، وتنقلب ليونته وهدوؤه إلى خشونة وشراسة لا مثيل لهما، وطريقته السهلة والمؤثرة في آن واحد جعلته من أكثر لاعبي العالم فاعلية وتهديفًا.
ما يُميز صلاح عن غيره من اللاعبين العرب والأجانب هو مسيرته الكروية، وكيف انتقلَ من المستوى العادي إلى الاستثنائي بصورة درامية تشبه الملاحم، فالشاب اليافع لم يكن فلتة كروية مثل ميسي أو نيمار ورونالدو البرازيلي، بل كان لاعبًا متوسطًا يمتلك موهبة لم تُصقل إلا بجهوده الخاصة وخبراته التي راكمها خلال السنوات الماضية.
فصلاح، مع مرور الوقت، أصبح لاعبًا مهاريًّا يتقنُ اللعب في 4 مراكز من الجانبَين والوسط وخلف المهاجم الصريح (رأس حربة) مباشرة، وهو أمر لا يُحسنه إلا قليلون ودليلٌ على تطوُّر اللاعب ووصوله إلى مرتبة متقدِّمة من التألُّق والتوهُّج.
من هنا، يمكن القول إن محمد صلاح نجح أولًا في التعامل مع مستقبله الكروي بحنكة كما يتعامل مع الكرة، فاللاعب قام بمجهود خرافي لتطوير مستواه البدني إلى أبعد حدود، بفضل حسن توظيفه لإمكاناته الجسدية لتتماهى مع المكتسبات الفنية والتكتيكية التي اكتسبها في أوروبا.
دليل ذلك أن صلاح ليفربول لا يُشبه في شيء صلاح تشيلسي أو فيرونتينا، فبدنيًّا تطوّرَ اللاعب كثيرًا بفضل التدريبات الجسدية القادرة على إعطائه القدرة على التحمُّل والزيادة في السرعة، وهو أمر كشفته التقارير الإنجليزية، فبحسب صحيفة “ميرور” إن جسد صلاح حاليًّا ليس مماثلًا للاعب الذي غادر إنجلترا عام 2015، لخوض تجربة جديدة في إيطاليا.
هذه الرحلة، أي انتقاله إلى الكالتشو الإيطالي، كشفت العقلية الاستثنائية لمحمد صلاح الذي أبان إصرارًا على تحقيق أهدافه، فاستغلَّ المدرسة الإيطالية لتطوير مستواه التكتيكي وكذلك الذهني، فليس من الهيّن أن يتمَّ استبعادك من نادي تشيلسي وتعود إلى مستوى أعلى.
فأن تنزل من القمة إلى القاعدة لإعادة بناء مسار جديد ليس بالأمر السهل في عالم كرة القدم، وهي خطوة تحتاج إلى شخصية قوية وعزيمة من حديد، لذلك إن هذه التجربة ساهمت في صقل موهبة محمد صلاح ونضجه كرويًّا وإنسانيًّا، فالهروب من جحيم البرتغالي جوزيه مورينيو كان خطوة أولى في سُلَّم نجاح صلاح، ردَّ بها على منتقديه وأثبت من خلالها للجميع أنه لاعب من طراز خاص جدًّا، وأن مغادرة تشيلسي ليست إلا هدية من السماء لابن مصر.
على أرضية ملعب الأنفيلد يصول الملك المصري، كما يحلو للإنجليز مناداته، محقّقًا ما عجزَ عنه أساطير “الريدز” التاريخيون من أرقام وألقاب، ولسان حاله يقول: “هذا عصري وأنا الملك العربي القادم من بلدة نجريج، أسطورتكم الجديدة الخالدة”.