انتخابات مؤجَّلة وأزمة اقتصادية في الأفق.. إلى أين تسير ليبيا؟

ليبيا

بعد مرور 10 سنوات على سقوط النظام السابق بقيادة العقيد معمر القذافي، لم تخرج ليبيا بعد من أزماتها، فحتى الاستقرار الذي تعرفه في الوقت الراهن لا يبدو نهائيًّا، وذلك في ظلّ المخاطر التي تهدِّد بعودة الاقتتال والانقسام بين قوى الغرب والشرق، في حال فشل الفرقاء في إرساء مصالحة شاملة وإنجاح الاستحقاقات الانتخابية المقرَّرة نهاية العام.

الوضع الراهن

تعرفُ ليبيا استقرارًا نسبيًّا بفضل الحوار السياسي الذي رعته الأمم المتحدة، والذي أثمرَ حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة، وأُنيط بعهدتها تسيير أعمال الدولة، والإشراف على اتّفاق وقف إطلاق النار، وتوحيد المؤسسات وقيادة البلاد إلى انتخابات تشريعية ورئاسية في 24 ديسمبر/ كانون الأول المقبل.

 

نجحت هذه الحكومة إلى حد الآن في توفير الحد الأدنى من الاستقرار، حيث بات بإمكان المواطن الليبي السفر بأمان من غرب البلاد إلى شرقها، بعد أن عجزَ عن التنقُّل في وقت سابق نتيجة الحواجز والبوابات التي تُقيمها الميليشيات الخارجة عن القانون، والخوف من الاختطاف بسبب الأصولهم أو المواقف السياسية أو من أجل المال.

الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية هي الأخرى عرفت تحسُّنًا طفيفًا، خاصة فيما يتعلق بتقدُّم مشاريع البنية التحتية، وتوفير محطات توليد الكهرباء، واستكمال صيانة مطار طرابلس، وزيادة رواتب القطاع العام، إضافة إلى عودة إنتاج النفط إلى مستوى 1.3 مليون برميل يوميًّا.

 

هذا التحسُّن ظرفي بالمقارنة مع التحديات السياسية والاقتصادية القائمة، فنتائج الاتفاق بين الفرقاء على أهميتها تبقى غير ملائمة للاستحقاقات القادمة، لذلك إنّ الوضع العام في البلاد يُنذر بتراجُع بعض القوى السياسية، وهو بحاجة إلى دعم على كل المستويات.

انتخابات مؤجَّلة

لئن كان الهدف الرسمي لحكومة عبد الحميد الدبيبة هو قيادة ليبيا إلى انتخابات تشريعية ورئاسية في 24 ديسمبر/ كانون الأول المقبل، فإن تدخُّل برلمان طبرق لفرض أجندته السياسية للتحكُّم في المشهد عبر صياغة القوانين الانتخابية على المقاس، أدّى إلى تقويض موعد هذا الاستحقاق، وتمَّ فعليًّا تأجيل الانتخابات التشريعية، فيما بقيت الانتخابات الرئاسية في موعدها، ما دفع المراقبون لعدم التفاؤل بشأن إجرائها، خاصة في ظل عدم توفر مقومات النجاح الأمنية واللوجستية.

 

الخطوة الأخيرة لمجلس نوّاب طبرق، برئاسة عقيلة صالح، والمتعلِّقة بتأجيل موعد الانتخابات البرلمانية إلى ما بعد انتخاب رئيس الدولة، عمّقت الأزمة الدستورية وجعلَت أُفُق الحل السياسي بعيدة المنال، خاصة أن البرلمان عملَ على تعقيد الأوضاع لفرض تصوراتها للمشهد الليبي، حتى لو كلّفها الأمر تعطيل العملية الانتخابية.

 

مجلس النواب الذي يترأّسه صالح، ينتهج منذ فترة سياسة فرض الأمر الواقع والمماطلة لكسب الوقت، فعمليًّا سيمكّنه تأجيل الانتخابات التشريعية من البقاء في المشهد في حال لم يُقبَل بنتائج الانتخابات الرئاسية، لذلك نصَّ قرار البرلمان على أن الانتخابات البرلمانية ستُجرى بعد شهر من اعتماد نتائج انتخاب رئيس الدولة.

محاولة البرلمان تعفين الوضع السياسي وعرقلة إجراء الانتخابات لم تقف عند حد الاستحقاق التشريعي، ففي وقت سابق أثارَ مجلس النواب الجدل والخلافات حول قانون انتخاب رئيس الدولة، الذي جاء فضفاضًا دون أي قيود أو شروط على المترشحين، ويسمح للعسكريين ومزدوجي الجنسية بالترشح، علاوة على عدم تحديده لصلاحيات الرئيس ومهامّه، ما يجعلها مطلَقة، وهو الأمر الذي وصفه مراقبون بأنّه خطوة لتعبيد الطريق لحفتر من أجل العودة إلى المشهد السياسي بعد فشل مغامرته العسكرية.

مؤتمر استقرار ليبيا

يُراهن كثيرون على مؤتمر استقرار ليبيا، الذي تجري فعالياته في العاصمة طرابلس، للخروج من الأزمة وتعزيز مخرجات الاتفاق السياسي قصد إنهاء حالة الانتقال وتأسيس مرحلة جديدة قوامها الاستقرار والتنمية، فالاجتماع يهدف إلى حشد الدعم اللازم للمفوضية الوطنية العليا للانتخابات، لتمكينها من أداء دورها بشكل إيجابي، إضافة إلى دعم العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية.

من جهة أخرى، تهدفُ المبادرة إلى أن تكون ليبيا ساحة للمنافسة الاقتصادية الإيجابية، كما تهدف إلى ضمان التنفيذ الأمثل للقرارات الأممية، خصوصًا قرارَي مجلس الأمن 2570 و2571، بالإضافة إلى مؤتمرَي برلين 1 وبرلين 2 بشأن ليبيا، وفقًا لما أشارت إليه وزيرة الخارجية الليبية نجلاء المنقوش.

 

أما المسار الأمني، بحسب المسؤولة الليبية، يرتكز على دعم جهود اللجنة العسكرية المشتركة (5+5)، وتوحيد المؤسسة العسكرية تحت قيادة واحدة، وفكّ ودمج التشكيلات المسلَّحة غير المتورِّطة في أعمال إرهابية وإجرامية وتأهيلها أمنيًّا ومدنيًّا، كما يتضمّن انسحاب كافة المرتزقة والمقاتلين الأجانب والقوات الأجنبية الذين يشكّل استمرار وجودهم تهديدًا لليبيا.

فيما يتعلق بالمسار الاقتصادي، فإن مؤتمر استقرار ليبيا سيعمل على الدفع بعجلة الاقتصاد، وتحسين مستوى معيشة المواطن، وتوفير الخدمات اللازمة للعيش بكرامة وعزة على أرضه.

العناوين الرئيسية لهذا المؤتمر تبدو فضفاضة ولم تأتِ بجديد، ولم تخرج من نطاق التوصيات والدعوات لأطراف الصراع بالالتزام بمخرجات اتفاق برلين كقاعدة سياسية لحلّ الأزمة في البلاد، كما لم يحمل البيان الختامي أي إجراء عملي واكتفى بدعوة كل الأطراف الليبية والجهات الدولية إلى قبول نتائج الانتخابات، مع التشديد على اتخاذ إجراءات عقابية صارمة ضد معرقلي العملية السياسية.

 

المشاركون في “مؤتمر دعم الاستقرار في ليبيا” طالبوا أيضًا الأطراف الليبية بمزيد من التوافق والمصالحة الوطنية لإنجاح التحوّل الديمقراطي، وبناء الدولة المدنية.  

الظاهر أنّ المؤتمريُعد نجاحًا لحكومة الدبيبة على مستوى تنظيم الاجتماع الدولي وتأمينه، لكنه في المقابل لم يدرس الأزمات الحقيقية لليبيا، ولم يعمل على طرح حلول عملية للمشاكل المعقّدة لهذا البلد، فالتحديات الأساسية تتمثّل في السيطرة على الجيش والقوات المسلَّحة الأخرى، وإرغام قائد قوات الشرق على الامتثال لقرار توحيد المؤسسة العسكرية ومنعه من مواصلة استفزاز قوات الحكومة الشرعية.

 

فالواضح أنّ هناك مخاوف من أن القوات المسلحة غير خاضعة للسيطرة الكافية، ولن تمتثل للأوامر والقرارات، كما لا يزال هناك العديد من الجماعات المسلحة والميليشيات التي يمكن أن تتجاهل أي نتيجة للانتخابات مستقبلًا.

أما الحديث عن خروج القوات الأجنبية، فهو مجانب للواقع على الأرض وللمعطيات الميدانية والسياسية، فعملية جمع القوات الوافدة ضمن اتفاق تعاون عسكري (تركيا) مع أخرى غير نظامية (مرتزقة “فاغنر”)، تهدف في مضمونها إلى تغيير موازين القوى لصالح الشرق الليبي بقيادة حفتر.

من الجانب العملي، إن وجود هذه القوات حاليًّا في ليبيا سيُساهم في ضمان السلام، خاصة في ظلّ عدم نشر قوات أممية لتثبيت الاستقرار، ولمنع قوات الشرق بقيادة حفتر من القيام بمغامرة عسكرية أخرى.

اقتصاد متعثِّر

إلى جانب الأزمة السياسية، يعرف الاقتصاد الليبي تضخُّمًا نتجَ عن ارتفاع الأسعار عالميًّا في ظل جائحة كورونا، بالإضافة إلى ارتفاع تكلفة الشحن والنقل البحري، إضافة إلى ضعف الإنتاج المحلي على اعتبار أن ليبيا تستورد 85% من احتياجاتها من الخارج.

ارتفعت الأسعار في ليبيا هذا العام مرّتَين، الأولى مع مطلع العام الحالي بسبب تخفيض قيمة الدينار، والثانية خلال الفترة القليلة الماضية بسبب إعلان الحكومة نيّتها رفع سقف المرتبات، وهو ما يعني أن البلد سيُعاني من ركود اقتصادي.

إزاء هذا الوضع، أظهر مراقبون تخوّفهم من الفاتورة المرتفعة لبند المرتبات في الميزانية العامة للدولة، حيث سجّلت العام الماضي نسبة 57% من الموازنة، بينما تضخّمت هذا العام بسبب الدعم المالي لعملية توحيد المؤسسات بعد إضافة أعدادًا أخرى من الموظفين، حيث أفاد ديوان المحاسبة بأن عدد الموظفين بالوحدات الإدارية للدولة بلغ مليونَين و362 ألفًا و756 شخصًا، بنسبة 37% من إجمالي تعداد البلاد السكاني، ما يعني تآكُل بند التنمية مقابل ارتفاع بند المرتبات والنفقات الإدارية.

كما تساءلوا عن جدوى هذه الخطوة في الوقت الراهن، فزيادة المرتبات الحكومية في ظل انخفاض سعر صرف الدينار الليبي أمام الدولار الأمريكي، والذي حدّده المصرف المركزي بنحو 4.48 دنانير، سيؤدّي إلى توفير دخل مالي من العملة المحلية وتخفيف وطأة أزمة السيولة، إلا أنه سيفاقم من أزمة غلاء الأسعار نتيجة ارتفاع فاتورة المستوردات بالعملة الصعبة.

 

على الجانب ذاته، تُعاني ليبيا مصاعب في إعادة هيكلة اقتصادها وإشراك القطاع الخاص في التنمية، وتخفيف اعتمادها على النفط للحدّ من تضخُّم موظفي القطاع العام، الذي يعدّ المصدر الوحيد للتوظيف في ليبيا مع ارتفاع معدلات الفساد وهدر المال العام.

لذلك هي مدعوة إلى تغيير الخارطة الاقتصادية والاستثمارية في البلاد، وتنويع مصادر الدخل لدعم الاقتصاد الوطني، وتفعيل دور القطاع الخاص في التشغيل ودفع عجلة التنمية من أجل التشجيع على بعث وتطوير الإنتاج المحلي.

إلى أين تسير ليبيا؟

في ظلِّ مناخ غير مستقرٍّ أمنيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا، تقبع ليبيا في المفترق بانتظار حلٍّ جذري لـ 10 سنوات من الاقتتال وغياب مؤسسات الدولة، وهي الآن بين خيارَين لا ثالث لهما، إمّا استكمال مسار السلام وترميم ركام الفوضى وإمّا الانهيار الشامل والعودة إلى مربّع العنف والتفرقة.

ففي حال لم يصل الليبيون إلى حلٍّ سياسي سلمي، فإنّ الكلمة ستؤول إلى الميليشيات التي ستحتكر العنف وسيعود التناحر بين المدن والتفرقة بين القبائل، ولن يكون للمبادرات الدولية أي أثر على الأرض سوى للاعتراف بتقسيم البلاد إلى أقاليم.

لذلك إنّ في غياب حكومة متماسكة قادرة على السيطرة على كل الأراضي والمدن من غربها إلى شرقها ومن شمالها إلى جنوبها، سيبدو السلام أمرًا بعيد المنال في ليبيا، رغم حرص الأطراف الدولية وخاصة الأوروبية على تفادي سيناريوهات الحرب والتطاحُن لما لها من تداعيات وتأثيرات قد تطال مجالها الجغرافي.

طبيعي أن يكون الطريق أمام الليبيين شاقًّا وغير سالك بعد 10 سنوات من الفوضى، ولكن يُمكنهم تحقيق تقدُّم على مستوى الاستقرار الأمني والسياسي شريطة مراعاة مصالح دولتهم العليا، فالعملية على عسرها لا تتطلب سوى النظر إلى المستقبل بعيون وطنية خالصة.

فمن بين الحلول المطروحة لحلِّ الأزمة الليبية، تحقيق مصالحة شاملة وفق مقاربة وطنية غير إقصائية تقوم على حلِّ الإشكالات العالقة بين مدن الغرب والشرق، والاستفادة من قدرة القبائل الليبية على التأثير اجتماعيًّا وسياسيًّا، خاصة أنه لا يوجد رادع حقيقي لكلا الجانبَين (الغرب والشرق) يقفُ في وجه الصراعات والنفوذ المطّرد للميليشيات.

على الليبيين أيضًا تخفيف مشاركتهم في المؤتمرات التي يبدو أن توقيتها غريب، فهي تأتي مجملها قُبيل موعد الانتخابات لإعادة تشكيل مراكز نفوذ وكلائها بالداخل، وهو ما ينطبق على المؤتمر الذي تنوي فرنسا استضافته في باريس في 12 نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، ما يعني إرباكًا جديدًا للمشهد السياسي.

 

حلّ الأزمة الليبية لن يكون إلا بحوار ليبي-ليبي، ودون ذلك سيبقى البلد الذي عانى عشرية من الفوضى والاقتتال رهين ما ستُفرزه لعبة المصالح، وتغيُّرها بين القوى الدولية الكبرى المنخرطة في صراع النفوذ في شمال إفريقيا، وبالذات في ليبيا.