احتفى فيسبوك التونسي المعارض للانقلاب، في نهاية الأسبوع الثالث من شهر أكتوبر/ تشرين الأول، ببيانات صادرة عن الكونغرس الأمريكي والبرلمان الأوروبي، تدعو رئيس الانقلاب في تونس العودة إلى المسار الديمقراطي، وإعادة الحياة البرلمانية.
كما تضمّنت البيانات تلويحًا باستعمال الضغط الاقتصادي، ما زاد من حماس المتحمّسين إلى حلٍّ يأتي من الخارج ولا يكلّفهم كثير عناء في مواجهة الانقلاب، الذي يتقدّم بتؤدة نحو ترسيخ قدميه غير مبالٍ بما يصدر عن هذه الهيئات.
وقد رأيتُ في هذا الحماس والانتظار كسلًا سياسيًّا، وغياب رؤية وطنية للتحرُّك في الداخل ضد الانقلاب، سأسمّيه فقر الحلول الوطنية وأحاول النظر في أسبابه.
موقف عشناه سابقًا
حاكم متجبِّر ومعارضة مشتَّتة تأمل مساعدة من الموقف الدولي (الأوروبي والأمريكي خاصة) ضد الديكتاتور، كان هذا هو مشهد بن علي ومعارضته طيلة ربع قرن (يمكن للمعارضات العربية في كل الأقطار إجراء مقارنات لقياس التطابُق في الأوضاع).
سمحَ هذا لبن علي بوصم معارضيه بالخونة، والمزايدة عليهم بخطاب السيادة الوطنية، وكانت لجملة الاستقواء بالخارج رنينًا مرعبًا في إعلامه، يكبّل بها كل من ظهرَ في نادٍ أو جمعية أو صحيفة أجنبية بخطاب أو موقف معارض.
ودارت الأيام واستقوى التونسيون بديمقراطيتهم حتى انقلبَ عليها منهم من لا يؤمن بها فعلًا، فعادوا إلى وضعية انتظار المَدَد الخارجي، ولم أسمع منهم خطاب الاستقواء بأنصار الديمقراطية في الداخل ضد أعداء الديمقراطية، وهذه الحيرة السياسية كاشفة للعجز والكسل السياسي، وكاشفة أيضًا لطبيعة النخبة السياسية المحلية.
وأكرِّرُ هنا فكرة بسيطة في وضوحها، الانقلاب يعرفُ تشتُّت صفّ معارضيه وضعفهم، ويقدِّر أن بأسهم بينهم شديد ولذلك يستهين بهم ويمضي قدمًا، ورغم أن رؤوسًا كثيرة من مسانديه تنافح عنه وتبرِّر له، بل تمارس دعاية فجّة لمنجزاته، إلا أنه لفرط استهانته بالجميع يسقط مسانديه من حسابه وحسابات برنامجه السياسي الخاص (دعنا نقول هوسه)، وبقدر تودُّدهم إليه تصلهم منه رسائل احتقار، بل أرجِّحُ أن تفجير قضايا فساد في بعض الإدارات جاءت لتوريط نقابة تقول له “نعم.. ولكن” (وهو يريد نعم مطلَقة التفويض).
هذه الصورة المتكرِّرة لم تتحول إلى درس سياسي للنُّخَب التي عارضت بن علي، وكثير منها الآن يعارض الانقلاب، ولكن بنفس الأسلوب الفاشل والحِيَل القاصرة والنية الخبيثة.
استحالة قيام جبهة ضد الانقلاب
حتى الآن وفي انتظار الهدية الخارجية (المهرب مريح من واجب بناء جبهة وطنية ضد الانقلاب)، نسمع أحاديث متناثرة ولكن متطابقة حول من سيقود الجبهة قبل ممّن ستتكوّن الجبهة، وقد خرجت رؤوس من قوقعة النسيان لتتزعّم الحديث المعارض، دون أية جُمل اعتراضية على وجوب التلاحُم بين قوى كثيرة تعارض الانقلاب.
إننا نشهد حالة من التكلُّس السياسي وعجز كامل عن استخلاص الدروس من الماضي القريب، لدى النخب السياسية المعارضة للانقلاب، وقد مرَّت دون اعتبار او استخلاصات سياسية ذكرى 18 أكتوبر/ تشرين الأول 2005، وهي ذكرى لقاء سياسي بين أطياف معارضة لبن علي وضعت نصًّا سياسيًّا موحَّدًا بُنيت عليه تحركات مؤثرة على استقرار نظام بن علي وطمأنينته.
وكانت هذه التحركات وعدًا ببناء جبهة سياسية على قاعدة برنامج واضح، وقد تحطمت هذه الوثيقة والتحالف الذي قام حولها بمجرد أن فتحت الثورة باب المغنم السياسي، وكان أول المنقلبين عليها السيد نجيب الشابي، وهو يمدُّ الآن وجهه ليقود معارضة الانقلاب طامعًا في أن يصطفَّ بقية الطيف المعارض خلفه.
ما يجري الآن في الصف المعارض هو تقريبًا ما جرى فجر الثورة، عندما انفرط عقد معارضي بن علي (فتاهَت الثورة بينهم)، ولا يزال العقد منفرطًا في مواجهة المنقلب ولا يعمل أحد على إعادة بنائه، فتتيه المعارضة بينهم، حتى أنه يجوز القول إن الانقلاب يحظى بأفضل معارضة ممكنة، أي معارضة يضعفها عجزها الداخلي وفقدانها لخطّة عمل مرحلية تؤدّي فعلًا لا أماني لإسقاط الانقلاب.
الشروط المطلوبة لمعارضة فعّالة
من موقع المواطن الفرد السائر في الشوارع ضد الانقلاب، لا أقدِّمُ دروسًا لأحد، وأرى النقص والضرورات، فأنتظر أن يقوم شارع سياسي موحَّد حول فكرة واضحة لا حول زعيم فذّ، فالطريق واضحة.
هناك خطوط عامة للتأسيس:
الإقرار بأن فشل ما قبل 25 يوليو/ تموز ليس فشل حزب، بل فشل جماعات كثيرة تشاركت في السلطة بدرجات، وبعضها الآن يتخفَّفُ من وزر المشاركة فيلقيها على طرف حزبي (هو حزب النهضة)، وهذا الخطاب يهدم ولا يبني، وتقوده النقابة بالأساس، وهي الطرف القوي فيما بعد الثورة، وهي والغة في كل ما أصاب الحكم والثورة.
بناء على هذا نُقل الخلاف من تحميل المسؤوليات عمّا حصل، إلى ترتيب الأدوار والمكانات في ما ينبغي أن يكون، وهي نقلة ضرورية لا تلغي المحاسبة عمّا سبق، ولكنها تتخيّر زمنها بعد استعادة مسار المحاسبة الحقيقي.
وجبت وقفة شجاعة مع الذات يقول كل زعيم فيها لنفسه، قبل أن يواجه الشارع المتوتِّر: “ليس هناك مغنم سياسي في الأفق قبل سقوط الانقلاب وعودة الشرعية”، وهو الإقرار الأخلاقي المؤسِّس لتعايُش ينهي حالة الإقصاء الموجَّهة أولًا وأخيرًا ضدّ الإسلاميين.
الانتقال إلى التخطيط يؤدي ضرورةً إلى الشروع في التنفيذ، أي النزول فعلًا إلى مواجهة الانقلاب بالوسائل الديمقراطية المتاحة (والاستعداد لدفع الثمن)، فكل تأخير في الأمر يسمح بوقت مريح للانقلاب لفرض أمر واقع، وقد يكون في ذلك دعم حقيقي للموقف الدولي.
بصيغة أخرى، إذا كان في الموقف الدولي بعض الصدق والجدّية، فليكن مبنيًّا على حركة الشارع في الداخل، داعمًا لها لا قائدًا أو موجِّهًا من الخارج، فلا يبني حركة الشارع على الاستقواء بالموقف الخارجي، أي قلب المعادلة بشكل كلّي.
وقبل كل هذا الخطوات، وجب وضع اتفاق أخلاقي مبدئي مضمونه عدم انتظار أي نصرة خارجية تقوم بدور إرجاع المسار الديمقراطي إلى سبيله القويم، فما حكَّ جلد الإنسان مثل ظفره.
وقبل كل هذا، وفي أساس كل تحرُّك، وجبت وقفة شجاعة مع الذات يقول كل زعيم فيها لنفسه، قبل أن يواجه الشارع المتوتِّر: “ليس هناك مغنم سياسي في الأفق قبل سقوط الانقلاب وعودة الشرعية”، وهو الإقرار الأخلاقي المؤسِّس لتعايُش ينهي حالة الإقصاء الموجَّهة أولًا وأخيرًا ضدّ الإسلاميين، الذين يُطلَب منهم حتى الآن أن يملأوا الشارع بأنصارهم المطيعين، دون أن يُسمح لهم في التفكير بأن سيكون لهم حق في المشاركة.
من هنا نبدأ أو هنا ننتهي، فيستريح المنقلب في مستقبل البلد.