لوقت طويل كانت الجزائر محط أطماع الصليبيين، فقد سعوا جاهدين للسيطرة عليها لما تمتلك من مكانة كبرى عند مسلمي المغرب، فضلًا عن ثرواتها وبقعتها الجغرافية المميزة، فكانت الجزائر قاب قوسين أو أدنى من الوقوع في براثن الصليبيين المستعمرين لكن تم التصدي لهم، رغم قوتهم الكبيرة، في ملاحم كبرى خلدها التاريخ.
ملاحم قتالية عظمى، كان أبطالها دون منازع الجزائريين والعثمانيين، فقد كانت بينهما شراكة مهمة، تمكنوا بفضلها من التصدي للخطر الصليبي، في هذا التقرير لنون بوست ضمن ملف “الجزائر العثمانية” سنتطرق لخطط الصليبيين والشراكة الكبرى بين العثمانيين والجزائريين للإطاحة بها وتوطين الإسلام في شمال إفريقيا.
خطط الصليبيين
بداية القرن الخامس عشر، كانت الأعين متجهة نحو الجزائر بغية السيطرة عليها، خاصة مع ضعف وانحلال الدولة الحفصية التي كانت تحكم تونس والشطر الشرقي من الجزائر، إلى جانب ضعف الدولة الزيانية التي كانت تحكم الشطر الغربي للبلاد.
أراد الصليبيون استغلال ذلك، فضلًا عن استغلال انتشار الظلم واللصوصية والفقر والأوبئة التي أرغمت الناس على هجر منازلهم، ومن العوامل الأخرى التي لفتت أنظار الصليبيين إلى الجزائر سقوط ما تبقى من الأندلس – دولة بني الأحمر وحاضرتها غرناطة سنة 1492ميلاديًا – واحتلال الدول الأوروبية للعديد من المدن على الساحل الجنوبي للبحر المتوسط، حيث كان الجنويون في جيجل، والبرتغاليون في سبتة، والإسبان في مليلية، وبداية من سنة 1505 احتل الإسبان المرسى الكبير ووهران وأرزيو ومستغانم وشرشال والجزائر وبجاية وعنابة، وذلك في 5 سنوات فقط.
يضاف إلى ما سبق، استغلال الإسبان قوتهم وسيطرتهم المطلقة على غرب المتوسط للضغط على السلطات المحلية والشؤون الداخلية في الجزائر وعلى الأهالي في البحر، فقد كانت سياستهم الضغط باستمرار على سواحل شمال إفريقيا لرصد أي تطورات سياسية فيها خشية عودة المسلمين إلى الأندلس.
لم تقتصر المقاومة الجزائرية والعثمانية على التصدي للإسبان فقط، بل وقفوا جنبًا إلى جنب ضد تحرشات العالم المسيحي بالمسلمين
ولا بد من الإشارة إلى أن هذه الحملات حملت صبغةً صليبيةً أيضًا، من خلال دعم الكنيسة ومباركتها لها، كما كان لوصايا الملكة إيزابيلا دور في مواصلة الحملات ضد المغرب العربي حتى بعد موتها سنة 1504، إذ تضمنت وصيتها ضرورة التعاون مع الكنيسة لمواصلة الحرب ضد المسلمين.
يعني هذا أن التحركات الصليبية عند السواحل الجنوبية للمتوسط كان وراؤها عدة دوافع سياسية واقتصادية وإستراتيجية وأهمها الدافع الديني الذي كان المحرك الرئيسي لهذا الهجوم، وذلك للانتقام من مسلمي الأندلس الذين وفدوا إلى المغرب العربي بعد تمكن الإسبان من إسقاط آخر معقل لهم في غرناطة.
أما الأهداف الاقتصادية فتمثلت في السيطرة على الطرق التجارية في البحر الأبيض المتوسط وذلك من خلال احتلال موانئ شمال إفريقيا، إذ أمر الملك الإسباني فرديناند بتوجيه حملات عسكرية منظمة للسيطرة على مناطق المغرب العربي.
شراكة عثمانية جزائرية
سعى الجزائريون لوقف التمدد الصليبي في مناطق انتشار الدين الإسلامي، لكنهم كانوا في موقف ضعف وميزان القوى في صف الإسبان، ما جعلهم في حالة لا يُحسدون عليها، إذ لم تستطع البحرية الجزائرية دحر الخطر الإسباني، في فترة يعصف بها فراغ سياسي، ما جعلهم يستنجدون بالعثمانيين الذين ذاع صيت قوتهم المتماسكة في ذلك الوقت وانتصاراتهم العديدة في حوض البحر الأبيض المتوسط.
عام 1516، أرسل الجزائريون على رأسهم شيخها سالم التومي رسالةً إلى السلطان العثماني سليم الأول، عقب عودته من حملته على الشام ومصر، يطلبون منه مساعدتهم ضد العدوان الإسباني، فاستجاب السلطان لندائهم وأصدر أوامره على الفور إلى القائد البحري خير الدين بربروس، بنيابته في حماية الجزائر ومنحه في ذلك كل الصلاحيات، وأرسل إليه قوة مدفعية لدعم أسطوله البحري، إضافة إلى ألفي شخص من المقاتلين الانكشاريين.
بفضل الدعم العثماني ومساعدة سكان القبائل تمكن بربروس، الذي تمت مُبايعته أميرًا للجهاد في سبيل الله، من الانتصار على الإسبانيين وإنقاذ حياة آلاف المسلمين، واستقبله الجزائريون بحفاوة استقبال الفاتحين، لكن الإسبان لم يستسلموا فقد عاودوا الكرة بهدف السيطرة على الجزائر لكن المحاولات العسكرية الإسبانية مُنيت في كل مرة بخسارة ساحقة ألحقها بها القائد بربروس.
أنشأ العثمانيون قاعدة عسكرية لصد الهجمات الإسبانية وطرد من تبقى منهم من المدن الجزائرية التي احتلوها، بعد أن تمكنوا بالشراكة مع الأهالي من تعزيز قوة بحرية بعتاد بشري كبير، وصنعوا العديد من المراكب البحرية وطوروا ميناء مدينة الجزائر وعملوا على تحصينه وتجهيز السفن بالمدافع، كما أرسوا دعائم الحكم الجديد في البلاد.
شارك العثمانيون سكان الجزائر مصابهم وجهادهم ضد الأطماع الإسبانية والبرتغالية، وكانوا عونًا كبيرًا لهم فيما أقدموا عليه حتى أصبحوا ينظرون إليهم على أنهم شركاء لهم فضلًا عن كونهم أخوة لهم في الدين الإسلامي.
توطين الإسلام في شمال إفريقيا
لم تقتصر المقاومة الجزائرية والعثمانية على التصدي للإسبان فقط، بل وقفوا جنبًا إلى جنب ضد تحرشات العالم المسيحي بالمسلمين، وقد استغل الجزائريون في ذلك قوة العثمانيين، فهم أعظم قوة في الشرق الأدنى والحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، إذ كان العثمانيون يمثلون القوة الإسلامية الفتية خاصة بعد أن نجحوا في فتح العديد من المناطق في الشرق والغرب، واخمدوا العديد من الفتن وأنقذوا بلدانًا كثيرةً من الدمار والشتات، وما إن قدموا إلى شمال إفريقيا حتى بدأوا في مهمة توطين الإسلام هناك بعد أن كان مهددًا.
ساعدت التحركات العثمانية في حماية منطقة شمال إفريقيا من الخطر الصليبي، وفي توطين الإسلام في المنطقة إلى يومنا هذا
وهناك اتخذ العثمانيون المدن الساحلية قواعد لهم، على غرار موانئ شرشال وبجاية، ومنها انطلق الأسطول الجزائري الذي لعب دورًا كبيرًا في حوض البحر المتوسط طيلة 300 سنة، ولم تكتف الجهود المبذولة في ذلك الوقت والقوة البحرية التي سطع نجمها في المتوسط بحماية الجزائر فقط، بل بمساعدة المسلمين المهاجرين من الأندلس.
يذكر أنه في شهر سبتمبر/أيلول من سنة 1609، صدر مرسوم ملكي في إسبانيا يقضي بالطرد القسري للأندلسيين غير المسحيين، وقد طالب المرسوم جميع الموريسكيين بالرحيل من أماكن سكنهم في الأندلس بعد سقوطها وإلا سيتم تهجيرهم أو قتلهم إذا أبدوا مقاومة، ويعود السبب في ذلك إلى رغبة المسيحيين في إقامة مملكة لمن يحمل نفس ديانتهم فقط، إذ يعتبرون التعايش مع من يخالفهم العقيدة “خطيئة لا تغتفر”.
وفي الأثناء ازدادت رغبة الإسبان في استعمار شمال إفريقيا بعد قضائهم على النفوذ الإسلامي في شبه الجزيرة الإيبيرية وبداية رحلتهم في تنصير المسلمين في القواعد الإسلامية التي سقطت في أيديهم ومحاولتهم القضاء على الموريسكين.
في ذلك الوقت، ركز العثمانيون والجزائريون على إنقاذ المسلمين الأندلسيين، فكانوا ينقلون المسلمين من إسبانيا إلى الجزائر أو تونس، كما كانوا ينقلون الحجيج عبر البحر وتقلدوا مهمة حمايتهم من القراصنة الإيطاليين والإسبان.
كان الأسطول العثماني والجزائري في ذلك الوقت، سبب خلاص كثير من المسلمين الأندلسيين من أيدي النصارى الكاثوليك الذين تكاثروا عليهم، إذ تم نقلهم إلى بلاد المغرب والأناضول للعيش والاستقرار هناك، بعد سقوط آخر معاقل المسلمين في الأندلس.
ساعدت التحركات العثمانية في حماية منطقة شمال إفريقيا من الخطر الصليبي، وفي توطين الإسلام في المنطقة إلى يومنا هذا، إلا أن العديد من المؤرخين الغربيين يسعون لتزييف التاريخ وتشويه الفتح العثماني للمنطقة واعتباره احتلالًا.