في الوقت الذي يسعى فيه التيار الصدري لتأكيد استحقاقه الانتخابي عبر المضي بتشكيل الحكومة المقبلة، يظهر على الجانب الآخر حراك سياسي تديره القوى الخاسرة بالانتخابات المبكرة، من أجل تشكيل كتلة سياسية توازي عدد المقاعد التي حصل عليها التيار الصدري، وأبرز قيادات هذا الحراك هم زعيم تحالف قوى الدولة عمار الحكيم، ورئيس الوزراء الأسبق وزعيم ائتلاف دولة القانون نوري المالكي.
هذا فضلًا عن محاولات أخرى يقودها قيادات في تحالف الفتح، عبر دعوة الأنصار للنزول إلى الشارع والمطالبة بإعادة العدّ والفرز للأصوات، محاولين إعادة تشكيل المشهد السياسي بعيدًا عن ماراثون تشكيل الكتلة الأكبر، عبر محاولة تكرار سيناريو 7 مايو/ أيار 2008 الذي قاده “حزب الله” اللبناني للانقلاب على الاستحقاق الانتخابي لقوى 14 آذار، من خلال تحويل الحركة الاحتجاجية إلى اعتصام مفتوح ومن ثم انتشار مسلَّح، وهو سيناريو لوّحت به بعض قيادات الفصائل المسلحة، إلا أن تدخُّل رئيس هيئة الحشد الشعبي، فالح الفياض، أوقف هذا السيناريو في الوقت الراهن.
نظرة بسيطة إلى خريطة التحالفات السياسية، تشير بوضوح إلى أن هناك تناقضات واضحة بين تحالف وآخر، وداخل هذه التحالفات أيضًا، فهي بالنهاية تحالفات نشأت نتيجة للضرورة الانتخابية وليس الأيديولوجية
يدرك التيار الصدري وزعيمه مقتدى الصدر أن هناك محاولات حثيثة لسرقة الاستحقاق الانتخابي لتياره، وهو ما أشار إليه في وقت سابق حسب تعبيره بـ”أن الصدر ليس علاوي”، مذكّرًا الآخرين وتحديدًا المالكي بأن سعيه لتشكيل تكتُّل أكبر يسهّل عليه عملية تشكيل الحكومة بالطريقة ذاتها، التي تعاملَ بها مع رئيس الوزراء الأسبق أياد علاوي، لن ينجح، حيث تدرك القوى الأخرى القوة التي يمتلكها الصدر.
فإلى جانب الدولة العميقة التي يمتلكها داخل الحكومة ومؤسساتها، فإنه أيضًا يمتلك قوة مسلَّحة ذات تأثير ونفوذ كبير، فضلًا عن أنه خيار مرحّب به من قبل الولايات المتحدة، وكذلك قوى إقليمية عربية متدخِّلة بالشأن العراقي، إذ ينظرون إليه على أنه يمكن أن يؤسِّس لحكومة عراقية بعيدة بعض الشيء عن التأثير الإيراني، بما يمتلكه من قوة وتأثير، رغم عدم ثقتهم به، إلا أنه خيار يمكن الرهان عليه، كما أشارت إلى ذلك صحيفة “واشنطن بوست” الأميركية.
إن نظرة بسيطة إلى خريطة التحالفات السياسية، تشير بوضوح إلى أن هناك تناقضات واضحة بين تحالف وآخر، وداخل هذه التحالفات أيضًا، فهي بالنهاية تحالفات نشأت نتيجة للضرورة الانتخابية وليس الأيديولوجية، وبالتالي لا تتمتع بذلك التماسُك السياسي الكبير، ويمكن أن تنشطر هي الأخرى إلى تكتُّلات متعدِّدة، في حال لم تكن التحالفات الرئيسية ضمن سياق التوجه والأهداف.
يظهرُ هذا الخلافات البينية بين بعض قيادات الفصائل المسلحة، أو بين ائتلاف دولة القانون والأحزاب الكردية، وعلى هذا الأساس يمكن القول إن التردُّد الذي يعتري موقف التحالفات السنّية والكردية من الخلافات الشيعية الشيعية، يوضّح حجم الضبابية السياسية التي تؤطر عملية تشكيل الحكومة المقبلة.
رغم محاولة الصدر حتى اللحظة بإظهار النهج الناعم في التعامُل مع ردّات الفعل المقابلة، إلا أنه ليس من المتوقع أن يفرّط باستحقاق تياره.
وبعيدًا عن محاولات تشكيل الكتلة الأكبر، يبرز على الخارطة السياسية اليوم ما يمكن أن نسميه بـ”التيار الرابع” أو “الصاعدين الجدد”، والحديث هنا عن تكتُّلات “امتداد وإشراقة كانون والجيل الجديد ونواب مستقلين”، إذ ما زالت هذه الأطراف تحاول تنسيق جهودها في تأسيس معارضة سياسية، بعيدًا عن فكرة الانخراط ضمن جهود الصدر أو المالكي.
فنجاح هذه الأطراف بتشكيل معارضة فاعلة ومتماسكة، قد يعيد تشكيل المشهد السياسي عبر وضع أُسُس مهمة لتفعيل العمل المعارضاتي الحقيقي داخل البرلمان، وإعادة بعض الثقة للمواطن في العملية السياسية، ما قد يعطي فرصة لتحقيق مشاركة فاعلة في الاستحقاقات القادمة، وبالإطار الذي قد يُبعد العديد من القوى السياسية التقليدية عن المشهد السياسي، وهو ما تدرك خطورته جيدًا القوى التقليدية، فمحاولة النجاح بفرصة تشكيل الحكومة المقبلة، يأتي في أحد أبعاده بإعادة النظر في القانون الانتخابي الحالي، وهندسة العملية الانتخابية، بالشكل الذي يجنّبها مزيدًا من الخسائر مستقبلًا.
تتمثل الخشية الكبيرة اليوم في نجاح الخاسرين بتشكيل الكتلة الأكبر، أو على الأقل تسمية رئيس الوزراء القادم خارج المظلة الصدرية، وتحديدًا عبر تهديد الفصائل المسلحة باستخدام العنف المسلَّح، من أجل تأكيد وجودهم بعيدًا عن الاستحقاق الانتخابي، ورغم محاولة الصدر حتى اللحظة بإظهار النهج الناعم في التعامُل مع ردّات الفعل المقابلة، إلا أنه ليس من المتوقع أن يفرّط باستحقاق تياره.
يمكن تعريف المواجهة الحالية بين الصدر والمالكي بأنها لعبة صفرية، نجاح أي طرف فيها يعني هزيمة للطرف الآخر، وهو ما تدركه الكثير من الأطراف الداخلية والخارجية
وذلك خصوصًا أن الخصم السياسي هو المالكي، الذي يمتلك سجلًّا حافلًا في إقصاء جيش المهدي عبر عملية “صولة الفرسان”، والتي كانت البادرة الأولى لفتح باب المواجهة بين الطرفَين منذ عقد من الزمن، ومن ثم يمكن تعريف المواجهة الحالية بين الصدر والمالكي بأنها لعبة صفرية، نجاح أي طرف فيها يعني هزيمة للطرف الآخر، وهو ما تدركه الكثير من الأطراف الداخلية والخارجية، وتحاول تغيير قواعد المواجهة بينهما إلى لعبة غير صفرية، والذهاب نحو تسوية سياسية تبعد شبح الفوضى عن الداخل العراقي.
إن التعقيد السياسي الحالي لا يقتصر بأسبابه على الفواعل الداخلية، بل يأتي أيضًا بكون أغلب الخاسرين هم من حلفاء إيران، فالمسألة لا تتعلق بخسارة المقاعد البرلمانية، بل أيضًا بخسارة النفوذ والتأثير السياسي داخل البرلمان، وعلى هذا الأساس إن هذه الخسارة تعني من جهة أخرى خسارة لإيران أيضًا، وهو ما لا يمكن أن تسمح به، وتدرك خطورته أيضًا.
فرغم ترحيبها بنتائج الانتخابات، إلا أن هناك تخوُّفًا كبيرًا من هذه النتائج، وتحاول الآن السير عبر خطَّين متماهيَين، الأول دبلوماسي يحاول تهدئة الداخل العراقي، والآخر أمني عبر المراهنة على ضغط الفصائل المسلحة للحصول أو على الأقل الحفاظ على المكاسب السابقة، وعدم السماح لأن تغيِّر نتائج الانتخابات منها الشيء الكثير، وبالشكل الذي يسمح للولايات المتحدة استثماره لصالحها، فإيران تعتريها خشية كبيرة من أن الصراع اليوم هو شيعي شيعي، ما يعني خسارتها في العراق، لأنها لن تكون حينها قادرة على تفضيل طرف على آخر.