يبدو أن قضية جمال خاشقجي ستعود للأضواء مرة أخرى بعد أشهر طويلة من الصمت، لكن هذه الجولة يتصدّى لها سعد الجبري، مسؤول الاستخبارات السابق المقرَّب من محمد بن نايف ولي العهد السابق، الذي سيحلُّ ضيفًا على البرنامج الأمريكي الشهير “60 دقيقة”، المُذاع على قناة CBS، ليكشف المزيد من التفاصيل حول عملية الاغتيال، بجانب كواليس ملاحقته هو الآخر من قبل السلطات السعودية.
عرضَ البرنامج لقطات بين سعد الجبري ومقدِّم البرنامج سكوت بيلي، يقول فيها المسؤول الأمني السابق بالمملكة إن ولي العهد السعودي أرسل فريقًا لقتله في توقيت متزامن مع قتل جمال خاشقجي، وتساءل تقرير القناة: هل الجبري ما زال هدفًا للسعودية؟
He says Saudi Arabia’s crown prince sent a hit squad to kill him when Jamal Khashoggi was killed. Is he still a target?
Scott Pelley reports, 60 Minutes Sunday. pic.twitter.com/4O0ftp2BNL
— 60 Minutes (@60Minutes) October 21, 2021
المثير للاهتمام أن المحطة التليفزيونية الشهيرة تكثِّف من ترويجها للقاء، وتؤكد أن الجبري قرّر كسر صمته بعد فشل محاولاته على مدار 4 سنوات في إطلاق سراح طفلَيه عمر وسارة من المملكة، وهو ما أكّد عليه نجله خالد الذي سوّق للحملة على حسابه في تويتر، لافتًا إلى أن أخوَيه جرى احتجازهما كرهينتَين لابتزاز والده مع صعود ولي العهد محمد بن سلمان، ولم تفلح كل الاتصالات لتأمين حريتهما.
MBS took Sarah and Omar as hostages to blackmail my father on his 1st day as crown prince.
After 4 years of exhausting every avenue to secure their freedom, my dad breaks his silence this Sunday on @60minutes.
Help us @saveomarnsarah#SOS pic.twitter.com/410aPQW0iB
— Khalid Aljabri, MD د.خالد الجبري (@JabriMD) October 21, 2021
التسلُّل إلى أمريكا
عدة دلائل واستنتاجات تفرضها رؤية الجبري مع سكوت بيلي، أولها أن مسؤول الاستخبارات السابق نجح في التسلُّل إلى واشنطن قادمًا من منفاه الاختياري في كندا، حيث سبق للجبري نفسه إعلان محاولة استهدافه في كندا بواسطة أحد فرق الاغتيال بعد أيام من مقتل جمال خاشقجي، ولاحقَ الجبري بسببها ولي العهد السعودي قضائيًّا أمام المحاكم الكندية والأمريكية.
يُعتبر وصول مسؤول الاستخبارات السابق إلى أمريكا نجاحًا له في اختراق القيود المفروضة عليه، وحشد جبهة جديدة إلى جانبه، وبرهانًا واضحًا على قوته في إدارة الصراع الأمني مع الحكومة السعودية، التي تحاصره قضائيًّا وأمنيًّا في كندا وأمريكا بالعديد من الدعاوى القضائية التي تتّهمه باختلاس أموال الدولة وإساءة استخدامها.
في المقابل يخوض الجبري معركته القضائية في مساحات أخرى، حيث يتّهم المسؤولين السعوديين وعلى رأسهم الأمير محمد بن سلمان بمحاولته قتله بعد 13 يومًا فقط من مقتل الصحفي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية بإسطنبول، ويعتبر القضية كلها تخليص حسابات مع ولي العهد السابق محمد بن نايف ورجاله وعلى رأسهم سعد.
اكلمة السر
تقول بطاقة تعريفه إن اسمه كاملًا هو سعد بن خالد بن سعد الله الجبري، مواليد حائل عام 1959، وصل إلى رتبة لواء في وزارة الداخلية السعودية بسبب موهبته في الحوسبة، حيث كان ولا يزال مفتونًا بها وبالإصدارات المبكّرة من الذكاء الاصطناعي وحصل على الدكتوراه من جامعة إدنبرة عام 1997 من خلال أطروحة حول معالجة اللغة الطبيعية باللغة العربية، ولهذا ألحقه محمد بن نايف ولي العهد السابق بوزارة الداخلية بدلًا من شركة أرامكو للاستفادة من قدراته في جهود تطوير الأمن.
على مدى العقدَين الماضيَين وحتى إعفاء محمد بن نايف، كان الجبري من أهم المقرّبين لولي العهد السابق، وأحد الروابط الرئيسية في علاقته مع وكالات المخابرات الغربية، لكن حدث تحول درامي في علاقته بالدولة، بعد زوال فرص بن نايف في البقاء لخلافة الملك سلمان، وتولّي نجله محمد ولاية العهد، ليصبح الجبري من المطلوب إعادتهم للبلاد مرة أخرى.
سيرة سعد الجبري تجعله حتى الآن محلَّ ثقة من أغلب أجهزة الاستخبارات الأجنبية التي تجمعه بها علاقة وثيقة، حيث أسهم ابتداء من عام 2003 في تفكيك العقلية الأمنية القديمة القائمة على استخدام العنف المفرط في جمع المعلومات، وساهمَ بالدور الأكبر في بناء نظام أمني سعودي حديث، يمكنه محاربة القاعدة واختراق صفوف فرع التنظيم في اليمن.
تبنّى مسؤول الاستخبارات السابق النهج الغربي في التعامل مع التطرُّف، وكان يطلق برامج إعادة تأهيل للعناصر التي يمكن دمجها مرة أخرى في المجتمع، واستعان بأطباء نفسيين غربيين في تطوير برامج مكافحة الإرهاب من أجل هذا الهدف.
كما أنشأ شبكة من المخبرين الذين انتشروا في شبه الجزيرة العربية، ونجحوا في كشف مؤامرة لإرسال قنابل غير قابلة للكشف في خراطيش طابعة للكمبيوتر على الطائرات الأمريكية.
هذه الحادثة وغيرها تجعل الكثير من الديون له في رقبة الغرب، بالنسبة إليهم الرجل ساعدهم في إنقاذ مئات وربما الآلاف من الأرواح، كما يقول مسؤولو مكافحة الإرهاب الأمريكيون والبريطانيون السابقون لوسائل الإعلام العالمية، ويعتبرون الجبري حتى الآن من أبطال العرب في القتال ضد تنظيم القاعدة على وجه التحديد.
ويعلم الغرب أيضًا أن الجبري كان خلف بناء منظومة الطب الشرعي الحديث في المملكة، وهو من أدخلَ تكنولوجيا التنقيب عن البيانات، والمراقبة، وتبادُل المعلومات، والاتصال والتعاون مع وكالات الاستخبارات والأمن الغربية، وهو أيضًا المسؤول عن تكثيف البعثات التعليمية لضبّاط الأمن الشباب للتدريب في كبرى البلدان الغربية.
تبنّى مسؤول الاستخبارات السابق النهج الغربي في التعامل مع التطرف، وكان يطلق برامج إعادة تأهيل للعناصر التي يمكن دمجها مرة أخرى في المجتمع، واستعان بأطبّاء نفسيين غربيين في تطوير برامج مكافحة الإرهاب من أجل هذا الهدف، وهي المقاربات نفسها التي لعب عليها بن نايف خلال توليه وزارة الداخلية لتوثيق علاقته بالغرب، ولهذا يجتهد الجبري في الربط بين ما يحدث معه الآن والمصير الذي آل إليه ولي العهد السابق.
صدامه مع بن سلمان
وضع الجبري نفسه في زاوية العداء المبكّر لمحمد بن سلمان، حيث عارض علنًا قرار شنّ حرب على اليمن عام 2015، وقال وقتها إن الحرب ستكون فخًّا ومأزقًا كبيرًا لبلاده، وهو ما عزّز من التشكُّك في خلفيته الدينية وولائه للتيارات الإسلامية من القيادات الصاعدة في المملكة، وكذلك محمد بن زايد ولي عهد أبوظبي، الذي حذّر بن سلمان خلال زيارته آنذاك من الجبري، وصلاته السرّية بالإخوان المسلمين.
في العام نفسه بدأت نهاية الجبري تلوح في الأفق، عندما أجرى مقابلة مع مدير وكالة المخابرات المركزية آنذاك جون برينان في لانجلي، ثم توقف بعد ذلك في لندن للقاء وزير الخارجية البريطاني فيليب هاموند، ولم يعرف القصر ما دار في هذه الاجتماعات، ما عزّز من الشك في المستشار الأمني لابن نايف، وولائه لولي العهد وليس الملك نفسه بل ضلوعه في مخطط انقلاب ضد محمد بن سلمان.
إقالة مدير الأمن العام الفريق أول خالد قرار الحربي لم يكن بسبب قضايا فساد كما روّج لذلك، بل السبب الرئيسي (رسالة وصلته من سعد الجبري)، فُسّرت على أنها ترتيب ضد محمد بن سلمان، أما كيف كُشف أمر الرسالة؟ فهذه قصة أخرى نكشفها لاحقاً.
— العهد الجديد (@Ahdjadid) October 20, 2021
أقيل من منصبه في 10 سبتمبر/ أيلول 2015 خلال عودة الملك سلمان ونجله من واشنطن، لكنه استمرَّ في عمله مستشارًا شخصيًّا لمحمد بن نايف لمدة عامَين، ليقرِّر الفرار من المملكة عام 2017، بعد علمه نية القصر محاكمته بتهمة إساءة استخدام أموال المخابرات، وتوزيع 6 مليارات يورو على كيانات تجارية بين عامَي 2008 و2017 “خارج الدفاتر”، ولم يتمَّ الإعلان عنها في الحسابات الرسمية بحسب لائحة الاتهامات الرسمية.
نجح الجبري في إخراج أغلب أبنائه من الرياض، ولكن تسارُع الأحداث بسبب إعفاء محمد بن نايف من منصبه، تسبّب في إيقاف عمر وسارة ومنعهما من السفر إلى الولايات المتحدة بناءً على أوامر من المباحث السعودية.
المقايضة والزمن
حاول الجبري شراء ودّ بن سلمان، وكتب مقالًا في أحد إصدارات مركز بيلفر للعلوم والشؤون الدولية التابع لكلية هارفارد كينيدي، ينسب فيه الفضل إلى ولي العهد الجديد في مواجهة إيران بشكل حاسم، وحدث اتصال على أثر المقال مع القصر بحسب خالد الجبري لإخراج أخوَيه من المملكة، لكن اشتُرط عودة والده أولًا والبقاء داخل البلاد.
صمتُ مسؤول الاستخبارات السابق حوالي عامَين، كان الهدف منه على ما يبدو التعويل على أمريكا في التدخُّل لحل الأزمة، وبالفعل جرت اتصالات مكثّفة لكن دون جدوى، لينتهي الأمر كليًّا في مارس/ آذار الماضي، بعد أن داهم العشرات من رجال الأمن مجمع العائلة في شمال شرق الرياض واعتقلوا عمر وسارة وتمَّ نقلهما إلى مكان لم يُكشَف عنه، والطلب واضح هذه المرة وهو عودة سعد مقابل حريتهما، وها هو قرار الجبري بالخروج الأحد المقبل على أشهر برنامج أمريكي، ولا أحد يعرف ما الذي بحوزته، وهل يستطيع استعادة زخم قضية خاشقجي واستعادة أولاده أم أُغلق الملف للأبد!