لم يكتفِ المستوطنون الإسرائيليون بملاحقة الفلسطينيين أحياءً، بل يلاحقونهم أمواتًا وينتهكون حرمة مقابرهم في القدس المحتلة، فينبشون قبورهم تارة ويجرفونها تارة أخرى لتحقيق مطامعهم ضمن سلسلة تهويد المدينة المقدسة وطمس هويتها الإسلامية والتاريخية.
يتعمّد المستوطنون تحت حماية جنود الاحتلال، الاعتداء على تلك المقابر التي تُعتبَر حلقة وصل بين الأحفاد والأجداد، كونها تحكي تاريخًا عريقًا وأحداثًا صنعت مجدًا للمسلمين، لاستفزاز المقدسيين لاحتضانها رفات الشهداء والمجاهدين وكذلك العلماء والأمراء الذين ارتقوا في الحروب الصليبية وبعدها في عهد صلاح الدين الأيوبي ثم زمن المماليك والعثمانيين.
وتضمُّ القدس 5 مقابر إسلامية، هي: مقبرة مأمن الله ومقبرة المجاهدين ومقبرة باب الرحمة والمقبرة اليوسفية ومقبرة النبي داود، ويقتصر دفن سكان المدينة حاليًّا على مقابر باب الرحمة والمجاهدين واليوسفية، وذلك بعد مصادرة أراضي مقبرتَي مأمن الله والنبي داود والاستيلاء عليهما بشكل كامل.
ولكلِّ مقبرة مقدسية حكاية مع المستوطنين، حيث خلع الشواهد وسرقة العظام وكسر القبور ومحاولة منع الدفن فيها، عدا عن الحفلات الصاخبة وشرب الخمور على القبور.. نرصد عبر “نون بوست” ملامح تلك المقابر وأهم الانتهاكات التي تعرّضت لها.
مقبرة مأمن الله “ماميلّا”
من أكبر المقابر الإسلامية في مدينة القدس المحتلة وأقدمها، تقع على بعد كيلومترَين من باب الخليل إلى الغرب من البلدة القديمة، وتبلغ مساحتها نحو 200 دونم، وكانت منذ الفتح الإسلامي وحتى عام 1948 المقبرة الرئيسية لدفن موتى المسلمين، لكن محاولات تهويدها بدأت مبكّرًا وأُزيل ما يقارب 97% من شواهد قبورها.
وتشير بعض المصادر التاريخية المكتوبة إلى ازدياد أهمية المقبرة منذ القرن الحادي عشر ميلادي، لتبلغ ذروتها في الفترة المملوكية، من حيث دلائل الدفن المكتشفة فيها.
دُفن في المقبرة فئات أبناء المجتمع كافة؛ من أثرياء المدينة، ونخبة المجتمع من العلماء والحكام والعسكريين والشخصيات الدينية، إلى جانب الميسورين والفقراء، وهي تحتوي على النظام المائي الذي زوّدَ سكان المدينة بالمياه على مدى الحقب التاريخية المختلفة.
وحولت سلطات الاحتلال 70% من مساحة مقبرة مأمن الله إلى حديقة أُطلق عليها اسم “حديقة الاستقلال”، كما نُبشت القبور وأُقيم على جزء من المقبرة فندق ضخم وموقف للسيارات وما يُسمّى “متحف التسامح”.
وسنويًّا يُقام على أنقاض المقبرة مهرجان سنوي للخمور تحييه فرق موسيقية عالمية، وذلك قرب الشواهد القليلة المتبقية لقبور المسلمين الصامدة حتى اليوم لكل من عائلة النشاشيبي ونسيبة والعلمي، دون مراعاة لمشاعر المسلمين بل استفزاز لهم.
مقبرة المجاهدين “باب الساهرة”
تقع عند السور الشمالي للمسجد الأقصى المبارك، وعلى بُعد بضعة أمتار من باب الساهرة، وتعتبر من آثار صلاح الدين الأيوبي في القدس المحتلة، وتضمُّ رفات عدد كبير من أعيان المسلمين والشهداء والعلماء، حيث سُمّيت مقبرة المجاهدين لأن عددًا من شهداء الفتح الصلاحي دُفنوا فيها.
وهي من المقابر المقدسية التي لا يزال المقدسيون يدفنون فيها موتاهم، رغم محاولات الاحتلال ومستوطنيه انتهاك حرمتها وكسر شواهدها، وتعاني مقبرة المجاهدين بشكل مستمر من الانتهاكات الإسرائيلية التي تندرج تحت إطار تهويد المدينة المقدَّسة ومعالمها.
مقبرة باب الرحمة
تقع عند السور الشرقي للمسجد الأقصى، وتمتدُّ من باب الأسباط وحتى نهاية سور المسجد الأقصى بالقرب من القصور الأموية في الجهة الجنوبية، وذلك على مساحة تبلغ حوالي 23 دونمًا.
تحوي مقبرة باب الرحمة العديد من قبور الصحابة، وأبرزهم عبادة بن الصامت وشداد بن أوس، وعلى قبور لمجاهدين اشتركوا في فتح القدس أثناء الفتحَين العمري والأيوبي.
يقتحم المستوطنون بشكل مستمرّ مقبرة الرحمة، ويؤدّون طقوسًا تلمودية داخلها لاستفزاز مشاعر المسلمين، كما تنوي الحكومة الإسرائيلية تحويل جزء من المقبرة لحديقة توراتية ضمن مشروعها لتهويد المدينة.
تعرّضت مقبرة باب الرحمة لعملية تجريف بعمق متوسطه 10 أمتار لتوسيع طريق المعبد ليكون طريقًا التفافيًّا يستعمله المستوطنون اليهود للوصول إلى البؤر الاستيطانية بباب المغاربة وقرية سلوان، وقامت حكومة الاحتلال في وقت لاحق بهدم جدار في المقبرة ملحقةً أضرارًا كبيرة بالقبور بحجّة أن المسلمين يقومون بتوسيع المقبرة، مع العلم أن الأعمال التي كانت جارية هناك آنذاك تتركز على تبليط المقبرة وكسوة بعض القبور المتآكلة، بالإضافة إلى الحفريات المتعددة في المقبرة للوصول من خلالها للمسجد الأقصى.
مقبرة اليوسفية “باب الأسباط”
تقع على ربوة مرتفعة تمتدُّ من الزاوية الشمالية لباب الأسباط، ومنها إلى ناحية الشرق بحوالي 35-40 مترًا، وتلتقي حدودها مع الشارع العام المسمّى “طريق أريحا”، والذي ينحدر جنوبًا إلى أن يتقاطع مع الشارع الصاعد إلى باب الأسباط.
وتضمُّ قبورًا للعائلات الفلسطينية التي تعيش بمدينة القدس المحتلة، ويقع شمال المقبرة صرح الشهداء لجنود أردنيين استشهدوا عام 1967، لذلك سُمّيت “مقبرة الشهداء” أيضًا.
في عام 2014، منعَ الاحتلال الدفن في جزئها الشمالي، وأقدمَ على إزالة 20 قبرًا تعود للجنود الأردنيين الشهداء، وعلى مدار سنوات تعرّضت ولا تزال إلى هجمات إسرائيلية ممنهجة، وعمليات حفر وتجريف، وصلت إلى مداميك أثرية قريبة من عتبة باب الأسباط.
كما تحمل في طياتها تاريخ أمة حافظت دائمًا على القدس، وقدّمت من أجلها آلاف الشهداء، فعُمرها الممتدّ منذ الأيوبيين الذين حرّروا القدس ودحروا الغزاة هو أكبر من أن تطمسه حكومة المستوطنين، فهي ما زالت تحمل أنصابًا تذكارية لشهداء دافعوا عن القدس عام 1967، وشهداء في مجزرة الأقصى عام 1990.
لم تتوقف اعتداءات المستوطنين صوب المقبرة اليوسفية، حيث شرب الخمور داخلها وإقامة صلواتهم التلمودية وتجريف القبور، بل يواصلون انتهاكاتهم لتحقيق أهدافهم التهويدية، فمنذ نهاية العام الماضي ولا تزال أعمال الحفر والتجريف مستمرّة لصالح “مسار الحديقة التوراتية”.
مقبرة النبي داود
تقع في حي النبي داود على جبل صهيون، وهي مجموعة مقابر لآل الدجاني تتألف من 3 مقابر، “الأولى تعود لعائلة الشيخ سليمان الدجاني وأحفاده، والثانية لعائلة الشيخ أنيس الدجاني وأحفاده، والثالثة مخصَّصة لدفن أطفال عائلة الدجاني وتُسمّى تربة المنسي نسبة إلى الشيخ محمد المنسي وتقع جنوبي مقبرة الأرمن والسريان”.
الكتابة على الشواهد
لم يصمت أهل القدس المحتلة تجاه تلك الممارسات العنصرية ضد مقابرهم، فعملوا بكل الطرق لحمايتها كما يقول أسامة برهم الناشط الشاب لـ”نون بوست”، مشيرًا إلى أن الانتهاكات ليست جديدة بل يعانون منذ سنوات من إصلاح المقابر وتنظيفها.
ويوضّح برهم أن الحكومة التركية “تيكا” حاولت قبل سنوات قليلة بناء سور يحمي المقبرة اليوسفية، ووضعت حجر الأساس يفيد أن الأمر تمَّ تحت رعاية تركيا، الأمر الذي اعتبره الاحتلال محاولة فرض سياسة غير إسرائيلية فأُزيل الحجر، عدا عن أنه في مرات كثيرة كان هناك مبادرات لتنظيف المقابر برعاية مؤسسات خاصة لكن الاحتلال يمنعها، ما دفع المقدسيين للنزول لتنظيفها وحمايتها.
وذكرَ أن أهل القدس ينصرون مقابرهم في ساعات متأخرة من الليل لحمايتها من أي اعتداء إسرائيلي، وأن هناك أكثر من مبادرة عائلية لتنظيف المقابر المقدسية وكتابة الأسماء من جديد على الشواهد، في محاولة لإبقائها بارزة بعيدًا عن مخططات الاحتلال لمحي ملامحها.
وأشار إلى أن المقدسي فور سماعه لجرّافات الاحتلال صوب المقابر، يهرع للاطمئنان على جثمان جده أو والده المدفون فيها، لافتًا إلى أنه كحال الشبّان المقدسيين دومًا يذهب للاطمئنان على قبر والده في مقبرة الرحمة، ويتساءل: “هل سأظفر بالدفن بجانبه؟”.
اعتداءات ممنهجة
وفي السياق ذاته تحدّث ناصر هدمي، رئيس الهيئة المقدسية لمناهضة التهويد، عن أهمية المقابر المقدسية بأنها تشكّل جزءًا مهمًّا من الصورة الحضارية للمدينة، موضّحًا أن المارَّ من جهة المقابر، والتي هي منطقة مقدَّسة لدى الأديان السماوية الثلاث، يدرك أهميتها للمسلمين والمسيحيين واليهود.
وأوضح أن المقابر المقدسية تعبِّر عن هوية مدينة القدس المحتلة، لذا يسعى الاحتلال لتغيير ملامحها وطمسها كونها تتحدث عن تاريخ عريق، فعدد كبير من القبور يعود للصحابة والشهداء والأمراء، الأمر الذي يستفز الإسرائيليين ويدفعهم لاستهداف التواجد العربي الفلسطيني في القدس المحتلة.
ويرى الهدمي أن الأحداث التي يفتعلها المستوطنون في المقابر المقدسية وباب العامود في الآونة الأخيرة تنذر بانفجار كبير، لا سيما فيما يتعلق بما يجري داخل المسجد الأقصى وسط غياب دور وزارة الأوقاف والحكومة الأردنية، التي كانت تشكّل حاميًا ومانعًا لتفاقم اي اعتداء للاحتلال في المسجد.
لايزال العشرات من العائلات المقدسية تعاني من عدم وجود مدافن خاصة بها في المقابر الثلاث المسموح بالدفن فيها، حيث إنه في حالات الطوارئ يُدفن الموتى في قبور عشوائية داخلها.
ووصفَ لـ”نون بوست” أن الاعتداءات في القدس المحتلة جميعها تمسُّ الهوية الفلسطينية والمقدسات من العيار الثقيل، وتعدّ مؤثرات قوية لانفجار الوضع الراهن.
وفي سؤال حول المطلوب فعله فلسطينيًّا لردع المستوطنين تجاه انتهاكاتهم للمدينة المقدسة ومقابرها، ذكرَ الهدمي أنه على المستوى الرسمي الفلسطيني، أي سلطة فتح لم تعد مؤثِّرة لأن يدها ثقيلة على الشارع الفلسطيني، وتمنع أشكال التضامن والانتفاضة في وجه الاحتلال كونها حامية له.
ولفت إلى أن الدور كله يقع على عاتق الشعب والفصائل التي لا بد أن تستثمر حالة الغليان والاضطراب التي يعيشها المجتمع، خاصة أن الانفجار المقبل سيكون أكبر من سابقيه، لذا لا بد من استغلاله عبر وضع استراتيجية من أجل التحرير وليس الانتفاض فقط، مشيرًا إلى أن واقع الاحتلال اختلف عن السابق خاصة في موازين الردع، بالإضافة إلى أن المقاومة الفلسطينية غيّرت الموازين في المنطقة.
ولا يزال العشرات من العائلات المقدسية تعاني من عدم وجود مدافن خاصة بها في المقابر الثلاث المسموح بالدفن فيها، حيث إنه في حالات الطوارئ يُدفن الموتى في قبور عشوائية داخلها.