طوفانٌ بشريٌ شهدته شوارع العاصمة الخرطوم ومعظم بلدات ومدن السودان المختلفة يوم الخميس، إذ تشير تقديرات كلٌ من وكالة رويترز وشبكة BBC وموقع بلومبيرغ وصحيفة الغارديان البريطانية إلى أن مئات الآلاف من السودانيين “على الأقل” شاركوا في مليونية 21 أكتوبر التي تطالب العسكر بتسليم السلطة للمدنيين وفاءً لما نصّ عليه الاتفاق الدستوري الذي تم توقيعه في العام 2019.
حتى قبل اليوم الموعود “21 أكتوبر” كانت كل المؤشرات تدل على نجاح المليونية التي جاءت بمثابة رد مزلزل على اعتصام القصر الجمهوري الذي نظّمته فصائل موالية للعسكر من الحركات السياسية وبعض القوى المدنية ذات الوزن الجماهيري الخفيف، بالإضافة إلى عناصر من نظام البشير البائد، وهؤلاء اعتصموا مطالبين بانقلاب عسكري على الحكومة المدنية التي يقودها رئيس الوزراء عبد الله حمدوك.
ولكن شتّان ما بين الجموع الهادة التي خرجت في المليونية واعتصام القصر الذي حُظي المشاركون فيه بدعمٍ وحمايةٍ تامةٍ من الجيش والأجهزة الأمنية رغم أنهم اعتصموا في محيط القصر الرئاسي الذي كان محصّنًا بالكامل، فالذي يقترب منه من الثوار يواجه بالغاز المسيل للدموع والرصاص الحيّ، كما قال الباحث المخضرم “كاميرون هادسون”، وهو دبلوماسي أمريكي سابق شَغَل من قبل منصب رئيس مكتب المبعوث الأمريكي إلى السودان:
#المسائية | د. كاميرون هيدسون: أعتقد أن إدارة #بايدن تعتبر الانقسام في #السودان مصطنعا والمعتصمون يخرجون بدعم من السلطة العسكرية #الخرطوم
— الجزيرة مباشر (@ajmubasher) October 19, 2021
ورغم الحماية والتسهيلات التي قدّمها العسكر للمعتصمين في محيط القصر، فإن أعدادهم لم تتجاوز 3 آلاف شخص في أكثر ساعات الذروة، بحسب الجزيرة نت، إذ أوضح تقريرها أن ساعة ذروة اعتصام القصر كانت الفترة التي تسبق حلول الليل، كما يُلاحظ بشكل واضح غياب العنصر النسائي من اعتصام القصر مقارنة مع اعتصام القيادة العامة الذي نظّمه شباب ثورة ديسمبر 2018 أو الديسمبريون كما يطلقون على أنفسهم.
الديسمبريون
— ترامـــازول ? (@TramaZoul) October 21, 2021
ذلك أن الفارق كبير بين الشخص الذي يخرج لأجل قضيّةٍ هو مؤمن بها وضحّى ورفاقه من أجلها، وبين مَن يخرج لأجل مصلحة محددة، فالشاهد أن أغلب شوارع السودان كانت ممتلئة بالجموع الهادرة، خاصة الشوارع الرئيسية، وكذلك معظم الولايات عواصمها ومدنها الكبيرة والصغيرة.
شارع الستين يشهد أضخم موكب
معظم طرقات الخرطوم الكبيرة شهدت خروج مواكِب مناهضة للحكم العسكري الشمولي، لكنّ موكب شارع الستين الذي تجمّع فيه عشرات الآلاف من الشباب، فاز بأضخم موكب في المليونية التي استمرّت حتى ساعات الليل رغم قمعها بالرصاص الغاز المسيل للدموع
شارع الستين براهو مليونية
— Abdelbagi (@abdou01712) October 21, 2021
موكب شارع الستين وهو أحد الشوارع النابضة بالحياة في العاصمة الخرطوم، شهد هتافات مناوئة لرئيس مجلس السيادة عبدالفتاح البرهان، إذ هتف المتظاهرون بقولهم: “سلّم سلّم يا برهان”، أي سلّم السلطة ورئاسة مجلس السيادة للمدنيين، وهو الهتاف الذي تكرر في عدة مواكب أخرى مثل موكب أمدرمان مقابل البرلمان، وموكب بحري شارع المعونة وموكب بُرّي الدرايسة أم مستشفى رويال كير، وغيرها.
كما ردّد المشاركون في المواكب هتافات أخرى مثل: “مدنية وي وي وي”، و “حرية.. سلام وعدالة”، و”الجيش ما جيش برهان.. الجيش جيش السودان”، وردّدوا أيضًا شعار “تسقط شراكة الدم” أي الشراكة مع العسكريين، و”ثوار أحرار ح نكمِّل المشوار”.
محاصرة وزير الصناعة بهتافات مضادة
عدد من كبار المسؤولين في الحكومة السودانية شاركوا في موكب 21 اكتوبر، من بينهم عضو مجلس السيادة محمد الفكي ووزير رئاسة مجلس الوزراء خالد عمر، فضلًا عن وزير الصناعة إبراهيم، الشيخ والأخير حاصره متظاهرون غاضبون مرددين هتافات وشعارات مناهضة لقوى الحرية والتغيير (الحاضنة السياسية للحكومة المدنية).
ونشرت صحيفة السوداني المحليّة مقطع فيديو، للمتظاهرين حول وزير الصناعة ابراهيم الشيخ حيث رددوا شعارات: “بِكم قحاتة باعو الدم”، وقحّاتة هي اختصار لوصف قوى الحرية والتغيير، فيما ردد آخرون “الدم قُصاد الدم ما بنقبل الدية”.
وبحسب المقطع المتداول، حاول وزير الصناعة، تهدئة المتظاهرين، والتغطية على الأمر، بترديده هتافات تنادي بالمدنية.
مُحاصرة إبراهيم الشيخ وزير الصناعة في أحد مواكب 21 أكتوبر وهتافات مُناوئة له
— صحيفة السوداني (@alsudani_news) October 21, 2021
الشعب قال كلمته: رسائل لكل الأطراف
أثبتت الجموع التي خرجت في مليونية 21 أكتوبر أن الشعب السوداني ما زال يحرس ثورته، وأن الشباب ما زالوا على العهد وفاءً لإخوانهم الذين ضحوا بأرواحهم فداءً لثورة ديسمبر/ كانون الأول 2018، فهؤلاء لن تهزمهم مسرحية العسكر بتحشيد بعض من عناصر الحركات المسلحة، وانتهازيي الأحزاب فضلًا عن عدد من الموالين لهم من القبائل الذين اختطفوا أسماء إدارات أهلية كذّبت تمثليهم لها في بيانات رسمية مثل قبائل الفلاتة والجموعية والبطاحين والشايقية وغيرها، فالتحشيد المصطنع لن يخدم هدفًا لأي شخص، سواء كان سياسي انتهازي أو ديكتاتور طامع في الاستفراد بالسلطة.
إذ كانت الرسالة واضحة للعسكر وعلى رأسهم البرهان وحميدتي الذين أعطوا الأوامر بإزالة الحواجز من أمام القصر الرئاسي وفرشوا الورود لحركات مسلّحة وقوى سياسية موالية لهم، فضلًا عن عناصر النظام المباد فسمحوا لهؤلاء بنصب الخيام وتركيب المسارح للخطابة والغناء، ورغم ذلك لم تزد أعداد المعتصمين عن 3 آلاف شخص وفق تقدير قناة الجزيرة.
الرسالة الأخرى كانت في بريد الحاضنة السياسية للحكومة المدنية، فالهتاف المضاد الذي قُوبل به وزير الصناعة إبراهيم الشيخ وهو قياديّ بارز في حزب المؤتمر السوداني أحد أكبر أحزاب قوى الحرية والتغيير، يعني بكل وضوح أن هذه الجماهير الغفيرة لم تخرج دعمًا ولا حبًّا في الحكومة المدنية ولا لحاضنتها السياسيّة، بل أخرجها الرفض التام للحكم العسكري الديكتاتوري، رغم الوضع الاقتصادي الصعب والاحتقان السياسي. ولذلك يفترض أن يعمد رئيس الوزراء عبد الله حمدوك إلى مراجعة أداء وزرائه واتخاذ ما يلزم من إجراءات لتصحيح مسيرتها ومعالجة أوجه الخلل، باستبدال من لا يستحق البقاء في كرسيّ الوزارة بمن هو أجدر وأكثر كفاءة.
ما “القوى الخبيثة” التي تهدد للانتقال في السودان؟
وجّهت مليونية 21 أكتوبر رسائل مماثلة لداعمي العسكر الإقليميين، حيث ذكر تقرير لموقع أكسيوس الأمريكي أن الولايات المتحدة ألقت بثقلها خلف حكومة حمدوك دعمًا للتحول الديمقراطي، لكنّ الموقع أشار إلى أن اللاعبين الإقليميين لا يريدون أي تحول ديمقراطي في السودان، موضحًا أن مصر بزعامة السيسي تقوم بتقوية علاقتها مع الجيش السوداني ممثلًا في الجنرال البرهان، بينما تفضّل كلٌ من السعودية والإمارات قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي).
ولعّل – البيان المشترك الذي أصدره سيناتوران أمريكيان بارزان هما كبير الجمهوريين في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ جيم ريتش والعضو الديمقراطي البارز في اللجنة، كريس كونز – يُلمّح إلى العسكر وداعميهم “هذه الدول الثلاث” حيث جاء في البيان: يجب على الولايات المتحدة أن تستمر بالعمل مع الحكومة السودانية والشركاء الدوليين للسيطرة على “القوى الخبيثة التي تسعى إلى تهديد العملية الانتقالية في البلاد”.
There is strong bipartisan support in Congress for Sudan’s ongoing transition to democracy & full civilian rule.
As Sudanese take to the streets today for planned demonstrations, security forces must respect & protect citizens’ right to peaceful protest. https://t.co/qk4q1qqOYb
— Senator Chris Coons (@ChrisCoons) October 21, 2021
بالتزامن مع المليونية، وصل إلى الخرطوم للمرة الثانية خلال أقل من شهر المبعوث الأمريكي الخاص للقرن الإفريقي جيفري فيلتمان ضمن جهود حلّ الأزمة، حيث كشف موقع بلومبيرغ أن الدبلوماسيين الغربيين كانوا صارمين في اجتماعتهم مع كبار المسؤولين العسكريين السودانيين، بأنه لا تراجُع عن تنفيذ الوثيقة الدستورية، وإلا فسيتم التشكيك في دعم الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي للسودان، والمساهمة في تخفيف ديونه وغير ذلك من المساعدات غير المباشرة.
وعليه، إذا حكّم العسكر وعلى رأسهم البرهان وحميدتي صوت العقل، فإنه لا خيار أمامهم غير تنفيذ الوثيقة الدستورية بما في ذلك تسليم رئاسة مجلس السيادة للمدنيين، فقد أثبتت مليونية 21 أكتوبر أن كل ما راهنوا عليه من إغراق البلاد في انفلات أمني والتواطؤ في إغلاق شرق السودان، إلى جانب المحاولات الانقلابية المزعومة والمساهمة في الأزمات الاقتصادية مستفيدين من أخطاء المدنيين وضعفهم وقلة خبرتهم، كل ذلك كان رهان خاسر كان آخره تسهيل مسرحية اعتصام القصر استجداءً لتفويضٍ شعبيٍّ على غرار تفويض حليفهم الجنرال عبد الفتاح السيسي.
Today may pose a major setback for the military faction in #Sudan & their plans to extract more power in their feud with civilians. Massive turnout reported across the country in pro-civilian anti-military demonstrations
— Wasil Ali – واصل علي (@wasilalitaha) October 21, 2021
فهل سيفعلها العسكر المحاصرون داخليًا بهتاف الثوار: “سلّم يا برهان”، وخارجيًا بالضغط الأمريكي والغربي؟ أم يكابرون ويبحثون عن سيناريو آخر لشراء الوقت أو للتفاوض على صيغة تبحث لهم عن مخرج من قضية مجزرة فض الاعتصام التي اتُهموا بالتورط فيها؟