تتمتع الملابس التركية بثقة كبيرة لدى المستهلك المصري، ورغم الدعوات المتأرجحة بين الحين والآخر بشأن مقاطعة المنتجات التركية على خلفية التوتر مع القاهرة، تظل الأزياء التركية الحاضر الأكثر وجودًا في السوق المصري، إذ لا تتأثر كثيرًا بمثل تلك الدعوات وذلك لما تمتلكه من مواصفات تلبي طموحات المصريين في تحقيق ثنائية الجودة العالية والسعر المقبول.
وتعد الملابس الجاهزة ثاني المنتجات التركية الأكثر استيرادًا من مصر بعد الحديد، فلا يكاد يخلو متجر ملابس كبير في ميادين المحروسة وشوارعها الرئيسية إلا به واحدة من الماركات التركية على الأقل، فيما يستغل بعض التجار السمعة الطيبة للملابس التركية لتسمية محالهم بمسميات تركية توحي بصلة بين المنتجات المعروضة والمصانع التركية بما يزيد من معدلات الطلب والإقبال من المستهلكين.
ورغم تراجع واردات مصر من الملابس الجاهزة من الخارج خلال الآونة الأخيرة، تحافظ المنتجات التركية على مراتب الصدارة في هذا المضمار رغم التوجه العام نحو الإنتاج المحلي، وهو ما دفع التجار للتمسك بالأزياء التركية كإحدى الماركات الأساسية في خطتهم التسويقية، فما السر وراء تفضيل المصريين لهذه النوعية من الملابس؟
كانت وزارة الصناعة والتجارة المصرية قد أعلنت عن هبوط واردات الملابس الجاهزة من الخارج بنسبة 31% خلال عام 2020 لتسجل 414 مليون دولار مقابل 544 مليون دولار خلال عام 2019، مرجعة ذلك لسببين رئيسيين: الأول يتعلق بالزيادة في الإنتاج المحلي بعدما بات توجهًا قوميًا للبلاد في الآونة الأخيرة، والثاني جراء تراجع الطلب على الملابس بسبب فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19).
الجودة والسعر.. ثنائية التفضل
“تتميز الملابس التركية بجودة عالية وخامات متميزة تفوق في كثير من الأحيان الملابس المستوردة من أوروبا”، هكذا علق محمد عبد الشافي، صاحب أحد متاجر بيع الملابس في مدينة المنصورة (شرق)، مضيفًا أن الكثير من الزبائن يطلبون التركي بالاسم، فيما يعزف بعضهم عن الشراء إن لم تتوافر هذه النوعية من المنتجات، خاصة المقبلات على الزواج، حيث الملابس القطنية والمنزلية التركية، الأشهر بين بقية المنسوجات الأخرى.
ويضيف عبد الشافي في حديثه لـ”نون بوست” أن عبارة “made in Turkey” كافية بمفردها أن تبيع المنتج دون النظر لأي اعتبارات أخرى، وهو ما دفعه للتواصل مع أحد المصانع في إسطنبول لتوريد كميات متنوعة من الملابس التي تناسب كل المستويات والأعمار السنية.
وعن أكثر الملابس التركية إقبالًا يشير التاجر المصري إلى أن القطنيات عمومًا والملابس النسائية والمحجبات هي الأكثر إقبالًا، هذا بخلاف القمصان الرجالي التي تتميز بجودة متميزة وأشكال وتصميمات رائعة، تجذب إليها أنظار الشباب والكبار معًا، علاوة على تماشيها مع التطورات العصرية مهما مر عليها الوقت.
عامر حسين: “القمصان التركي لا تختلف كثيرًا عن الأوروبية، بل تجدها في بعض الأحيان أفضل منها بكثير خاصة أنها ذات سمت إسلامي وعربي بما يجعلها ملائمة لسكان البلدان الشرقية والإسلامية”
فيما ذهبت إقبال حسين، تاجرة جملة في ميدان العتبة بوسط القاهرة، إلى أن السعر المعقول أحد أبرز أسباب تفضيل المصريين للمنتجات التركية، لافتة إلى أن السعر ربما يكون مرتفعًا نسبيًا حال مقارنته بالملابس المصرية أو الصينية، لكن الفرق الكبير في الخامات والجودة يجعله أقل بكثير من حيث السعر من المنتجات الأوروبية والأمريكية، القريبة منه من حيث الجودة والكفاءة.
وأوضحت التاجرة الأربعينية في كلامها لـ”نون بوست” أن بعض التجار يلجأون إلى طباعة عبارة “صنع في تركيا” على الملابس المصرية والصينية من أجل الترويج لها وبيعها في أوقات الكساد، منوهة إلى أنه رغم مخالفة ذلك للقانون والعقوبات المفترض تطبيقها على هؤلاء التجار وفق قانون التجارة وجهاز حماية المستهلك، فإن مجرد وضع تلك العبارة على المنتج تسوقه بشكل كبير.
ويقول عامر حسين (35 عامًا): القمصان التركي لا تختلف كثيرًا عن الأوروبية، بل تجدها في بعض الأحيان أفضل منها بكثير خاصة أنها ذات سمت إسلامي وعربي بما يجعلها ملائمة لسكان البلدان الشرقية والإسلامية وهو ما يميزها عن غيرها من الأوروبية، هذا بخلاف أسعارها الأقل نسبيًا من غيرها، وهو ما يجعلها الأفضل بالنسبة لي، كونها تحقق الشكل والخامة والسعر”.
تسهيلات ومرونة
على عكس بقية دول المنطقة، تتمتع منظومة استيراد الملابس التركية بالمرونة الكبيرة، إذ تقدم المصانع التركية والمكاتب المتعاونة معها في مصر تسهيلات متنوعة لجذب العملاء، وفق الرؤية الوطنية والإستراتيجية التي تم إقرارها قبل سنوات لتشجيع المنتجات الوطنية وتصديرها للخارج وتعزيز سمعة المنتج التركي بما يُنعش الاقتصاد الوطني من جانب ويشجع المستثمرين على الاستمرار والإبداع من جانب آخر.
وتنقسم عملية استيراد الملابس التركية إلى قسمين: الأول عن طريق الإنترنت، وهنا يتم تبادل المعلومات عبر الإيميلات ووسائل التواصل الاجتماعي، وتُعقد الاجتماعات عن بعد عبر تقنية الفيديو بين المستورد والمصنع للوصول إلى اتفاق نهائي بشأن الكمية المطلوبة والمواصفات ثم القيمة وكيفية تحويلها عبر أدوات بنكية متعارف عليها.
أما القسم الثاني فعبر مكاتب استيراد الملابس التركية، وهي مكاتب معتمدة ومتخصصة في هذا المجال، وتتحرك وفق شكل قانوني ورسمي ومعترف به داخل الدولة المصرية، وفي الغالب يكون هناك وسطاء بنكيين لتيسير عملية التمويل خاصة إن كانت الكميات كبيرة وتحتاج إلى جدولة في السداد.
بلغت الواردات التركية إلى مصر خلال العام الماضي 2020، نحو مليار و722 مليون دولار
وتفضل بعض المصانع التركية التعامل مع الأفراد أكثر من الشركات، خاصة إن كانت مصانع صغيرة، فيما تقدم عروضًا وتسهيلات وإغراءات ربما تفوق غيرها من المصانع الكبيرة، وذلك في محاولة لتسويق منتجاتها والتعريف بها وبناء منظومة قاعدية من العملاء الجدد، وهو ما فطن إليه التجار المصريون الذين قصدوا تلك المصانع في السنوات الأخيرة.
وتعد مدينة إسطنبول المركز الأكبر لمصانع الملابس الأكثر تصديرًا لمنتجاتها للمنطقة العربية، ومن أشهر تلك المصانع المتخصصة في الملابس الحريمي “مصنع دومينيك” في زيتين بورنو، المتخصص في البيجامات والملابس القطنية، كذلك “مصنع جان كاميلوت” في لالالي، وهناك أيضًا “مصنع ستيليست للأزياء” في ساريار، ومتخصص في المعاطف الصوف للنساء.
أما الملابس الرجالي فهناك “مجموعة لالي للتجارة الخارجية” في أسنلار، المتخصصة في صناعة القمصان بأشكالها وتصميماتها المتنوعة، التي تجذب أنظار الشباب المصري لا سيما القمصان الشتوي، ذات الأكمام الطويلة، كذلك الملابس الأطفالي التي تتميز بإقبال شديد، ومن أشهر المصانع المتخصصة فيها “مصنع دينو كيدز” المتخصص في كل الملابس الأطفالي من عمر سنة حتى عمر 14 سنة، و”مصنع إلينا كيدز” الشهير بالبلوزات والجينزات وفساتين الأطفال ذات الجودة العالية.
رغم التوتر.. تنامي التبادل التجاري
تتميز العلاقات الاقتصادية بين القاهرة وأنقرة بالرخاء والنمو عامًا تلو الآخر، رغم سحب التعكير التي ربما تخيم على أجواء العلاقات السياسية بين البلدين، التي دخلت أوجها منذ 2013 وحتى اليوم، وإن شهدت مؤخرًا تحسنًا نسبيًا في ظل رغبة البلدين في تخفيف حدة التوتر وفتح صفحة جديدة تغلب مصالحهما على أي اعتبارات أخرى.
ومنذ توقيع اتفاقية التجارة الحرة بين مصر وتركيا عام 2005 دخلت العلاقات منعطفًا جديدًا من الوئام والتناغم، تعززت أكثر بانضمام البلدين بصفة عضوية دائمة في منظمة الاتحاد من أجل المتوسط، وتوجت بتوقيع أكبر مشروع مشترك وهو “صفقة الغاز الطبيعي” عام 2008.
وتشير الإحصاءات الرسمية إلى عمق العلاقات الاقتصادية بين الدولتين، إذ تعتبر مصر ثاني أكبر بلد عربي يصدر منتجاته إلى تركيا، وثالث أكبر دولة عربية تستورد من تركيا، وذلك بحسب بيانات معهد الإحصاء ووزارة التجارة التركيين، التي أشارت إلى أن الصادرات التركية إلى مصر بلغت 21.9 مليار دولار بين عامي 2014-2020، مقارنة بـ12.1 مليار دولار صادرات مصرية لتركيا في نفس الفترة الزمنية.
فيما بلغت الواردات التركية إلى مصر خلال العام الماضي 2020، نحو مليار و722 مليون دولار، في حين قدرت الصادرات التركية إلى مصر بنحو 3 مليارات و134 مليونًا في العام نفسه، بينما تجاوز حجم الاستثمارات التركية في مصر حاجزالـ5 مليارات دولار، تحتل بها تركيا المرتبة رقم 47 ضمن قائمة أهم الدول المستثمرة في مصر.
الصادرات التركية إلى مصر بلغت 21.9 مليار دولار بين عامي 2014-2020، مقارنة بـ12.1 مليار دولار صادرات مصرية لتركيا في نفس الفترة الزمنية
التقديرات تذهب إلى أن المصانع التركية العاملة في مصر بلغت 418 مصنعًا، يعمل بها 52 ألف عامل، تتمركز في المناطق الصناعية بمدينتي السادس من أكتوبر بالجيزة وبرج العرب بالإسكندرية، أما أبرز المنتجات التي تصدرها تركيا لمصر فهي الحديد والمنتجات والمواد الكيميائية والبلاستيكية والمطاط ومنتجات النسيج والملابس الجاهزة والذهب، فيما تتمحور المواد التي تستوردها من مصر في المنتجات والمواد البترولية والمعادن ومنتجاتها الصناعية والمعدات والآلات الكهربائية والكيميائيات.
من جانبه يرى أستاذ الاقتصاد والتمويل بجامعة أرتوكلو، متين أيرول، أن مؤشرات التقارب المصري التركي من شأنها أن تفتح آفاقًا وفرصًا جديدة من التعاون في العديد من المجالات والقطاعات، لافتًا في تصريحاته لـ”الجزيرة” إلى أن حجم التجارة بين البلدين يؤكد التزام كلا البلدين بإستراتيجية فصل الاقتصاد عن أي خلافات مرحلية أو طارئة على الأصعدة السياسية، منوهًا إلى أن ذلك في حد ذاته “بشارة خير” لمستقبل العلاقات والاستثمرات بين البلدين تحديدًا ودول المنطقة بصفة عامة.