عقد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اجتماعًا -هو الأول من نوعه- مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، نفتالي بينيت، في منتجع سوتشي غربي روسيا، على هامش الزيارة السريعة التي قام بها رئيس حكومة دولة الاحتلال للدولة الروسية في إطار مساعي تقريب وجهات النظر وتعزيز التعاون والتشاور بشأن الملفات المشتركة.
المحادثات بين الطرفين كانت “مطوّلة وبناءة” وفق السكرتير الصحفي للرئيس الروسي، ديمتري بيسكوف، الذي وصف المفاوضات بأنها عقدت “في جو من العلاقات الحارة”، وتضمنت الأجندة بشكل خاص “تطوير التعاون الثنائي، وبحثت الأمن الإقليمي والوضع في سوريا وأفغانستان وإيران”، فيما وصف وزير البناء الإسرائيلي، الذي رافق بينيت، المباحثات بأنها “ناجحة” و”مهمة للغاية”.
رئيس وزراء الدولة العبرية قبيل توجهه إلى روسيا قال إن علاقات بلاده وموسكو “لبنة مهمة في السياسة الخارجية الإسرائيلية، لما تمثله روسيا من أهمية إقليمية ودولية” فيما خاطبه بوتين بقوله “لقد طورنا علاقة آمنة إلى حد ما مع الحكومة (الإسرائيلية) السابقة، أتمنى رغم المعارك السياسية الداخلية، أن تنتهج حكومتكم سياسة الاستمرارية في العلاقات”.
والزيارة لروسيا هي الثانية لمسؤول في الحكومة الإسرائيلية الجديدة، ففي منتصف سبتمبر/أيلول الماضي، توجه وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لبيد إلى موسكو، في زيارة استغرقت يومًا واحدًا فقط، ناقش خلالها مع نظيره الروسي سيرغي لافروف، عددًا من الملفات والقضايا الثنائية والإقليمية والدولية.
وتعاني العلاقات الروسية الإسرائيلية في الأونة الأخيرة بعض التوترات الساخنة بشأن تباين وجهات النظر حيال عدد من الملفات أبرزها الملف السوري، وهو ما يحاول مسؤولوا البلدين تبريده من خلال تبادل الزيارات وتعزيز سبل التعاون من أجل التواصل إلى رؤى مشتركة تؤطر لبقاء العلاقات بين البلدين في سياقاتها الحميمية، خاصة وأنها استطاعت الحفاظ على استمراريتها طيلة العقود الماضية رغم الخلافات بين الحين والأخر.
إيران وصراع النفوذ
أبرز الملفات المتشابكة بين موسكو وتل أبيب تتعلق بالنفوذ الإيراني، حيث يرى الإسرائليون في امتلاك طهران لسلاح نووي خطرًا يهدد بقاءهم، معتبرة أن ترك الإيرانيين يوسعون دائرة نفوذهم الإقليمية عبر امتلاك هذا النوع من السلاح يمثل تهديدًا صريحًا لدول المنطقة ومصالح القوى الكبرى في الشرق الأوسط.
ويمثل مناهضة التوسع الإيراني إقليميًا أحد أبرز أضلاع السياسة الخارجية للدولة العبرية، ومن ثمً كانت التغيرات الواضحة في خارطة التحالفات التي دشنتها خلال الأعوام الخمسة الأخيرة تحديدًا، ساعية إلى تدشين تكتل سني لمواجهة التمدد الشيعي، الأمر الذي لاقى استحسانا لدى خصوم إيران في المنطقة، وهو ما يمكن قراءته بوضوح في موجة التطبيع الأخيرة مع دول الخليج تحديدًا.
وفي المقابل لم ترَ موسكو في السياسة التوسعية الإيرانية أي خطر يستدعي الاصطفاف مع الرؤية الإسرائيلية، وعلى النقيض من ذلك تمثل طهران محورًا هامًا لدعم التوجه الروسي الجديد لاستعادة أمجاد الماضي في المنطقة، الأمر الذي دفع البلدين إلى تعزيز أواصر التعاون رغم الخلافات الواضحة بينهما في كثير من الملفات.
لذا كانت روسيا على رأس القوى الداعمة لإيران تحت المظلات الأممية، إذ عارضت أكثر من مرة صدور أي قرار من الوكالة الدولية للطاقة الذرية بإدانة طهران، وأجهضت عشرات القرارات التي طالبت بفرض عقوبات دولية ضدها، هذا بخلاف دورها المحوري في تعزيز مباحثات العودة إلى الاتفاق النووي 2015، فضلًا عن أنها كانت أبرز المنتقدين لانسحاب الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، من الاتفاق قبل 3 سنوات.
ورغم السير عكس الاتجاه الإسرائيلي في هذا الملف إلا أن موسكو تسعى قدر الإمكان، وبمنطق برغماتي بحت، إلى تقليل مخاوف الإسرائيليين من دعمها لطهران، وذلك عبر تعزيز الشراكة مع الكيان المحتل، على كافة المسارات، ومحاولة منحها الأفضلية المرحلية التي تسمح لها بالتفوق على دول الجوار عبر سياسة تبادل الخبرات والمعلومات العسكرية وتعزيز قدرات الجيش الإسرائيلي التسليحية والقتالية.
الملف السوري.. تباين ظاهري
ويمتد التقاطع الروسي الإسرائيلي إيرانيًا من حدود التوسع النووي إلى الملف السوري، حيث هناك استياء متبادل بشأن السياسات العامة الممارسة فوق التراب السوري، فالهجمات الإسرائيلية المستمرة ضد نظام الأسد وحلفاءه تزعج الروس بصورة كبيرة، ما دفعهم لدعم الجيش النظامي هناك بأسلحة دفاعية متطورة، كان لها دورها في إجهاض الكثير من الهجمات التي شنتها القوات الإسرائيلية، ما أحدث تعكيرًا نسبيًا في أجواء العلاقات.
ولعل زيارة وزير الخارجية الإسرائيلية لموسكو سبتمبر/أيلول الماضي، وزيارة رئيس الحكومة اليوم، تأتي في هذا السياق، خاصة بعد ورود أنباء عن استياء روسي واضح من الصواريخ الإسرائيلية، فيما أعربت الخارجية الروسية أكثر من مرة عن امتعاضها الشديد من الاستهداف المتواصل لأهداف تابعة للنظام السوري على أيدي الإسرائيليين.
لم يختلف التعاطي الروسي مع الملف الفلسطيني كثيرًا عن الملف السوري والإيراني من حيث برغماتية التوجه، وتجنب استثارة غضب الحليف الإسرائيلي
هناك ما يمكن تشبيهه بالحرب الباردة بين موسكو وتل أبيب فوق الأراضي السورية، فبينما تكثف دولة الاحتلال هجماتها ضد الأهداف الإيرانية -بما في ذلك مخازن حزب الله والنظام- في سوريا، تعزز موسكو من دعمها التسليحي والعسكري لجيش الأسد وحلفائه، ومن أبرز هذا الدعم الذي حقق نتائج عكسية إزاء الضربات الإسرائيلية، التزويد ببطاريات دفاع جوي متطورة من طراز S-300 عام 2018.
ورغم تأكيد لافروف أكثر من مرة على أهمية الأمن الإسرائيلي بالنسبة لبلاده، إلا أن ذلك لم يمنعه من التصدي للضربات الإسرائيلية، كما انتقد الاستغلال الأمريكي للموارد الطبيعية لسوريا، بجانب دعمهم للأكراد كذلك، في إشارة إلى رغبة موسكو تقليص خارطة المصالح المتشابكة لعدد من الدول في الداخل السوري، سواء كان ذلك خدمة لأجندتها في المنطقة أو تجنبًا للصدام مع الحليف الإسرائيلي.
وهكذا وفي ظل هذا التضارب الواضح في المصالح بين البلدين، تحرص روسيا قدر الإمكان منذ دخولها الملعب السوري في 2015، على تجنب استعداء تل أبيب رغم تجاوزاتها المستمرة، وهو الموقف ذاته لدى الحكومة الإسرائيلية التي تتعامل مع الروس في الداخل السوري على أنهم حلفاء اعتباريين أكثر منهم خصوم مباشرين، وهو ما يفسر استمرار حميمية العلاقات وتبادل الزيارات بين مسؤولي البلدين.
فلسطين.. برغماتية في صالح الاحتلال
لم يختلف التعاطي الروسي مع الملف الفلسطيني كثيرًا عن الملف السوري والإيراني من حيث برغماتية التوجه، وتجنب استثارة غضب الحليف الإسرائيلي، إذ كانت موسكو من أوائل الدول التي رحب بتطبيع العلاقات بين بعض الدول العربية (الإمارات – البحرين- المغرب – السودان) ودولة الاحتلال خلال العام المنقضي.
وتتحرك موسكو في هذا الاتجاه انطلاقًا من توجهاتها السابقة حين ساندت اليهود في تطلعهم لإنشاء دولة يهودية فوق التراب الفلسطيني عام 1947، حيث دعم الاتحاد السوفيتي وقتها خطة التقسيم التي دعت إليها الأمم المتحدة والتي ترمي لإقامة دولة للكيان اليهودي فوق الأراضي العربية، الأمر الذي مثًل صدمة حينها للشارع العربي برمته.
ينطلق الروس في تعاملهم مع قضية الصراع العربي الإسرائيلي من منطلق سياسي بحت، فالروس يجاهدون قدر الإمكان لاستعادة نفوذهم الإقليمي المفقود، لذا تدعم موسكو الحوار المباشر بين الإسرائيليين والفلسطينيين عبر القنوات الثنائية من جانب، وعبر الوسطاء من جانب آخر، وذلك من خلال انضمامها للجنة الرباعية التي شكلت لدعم الحوار الفلسطيني الإسرائيلي والتي ضمت إلى جانب روسيا، كلا من أمريكا والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي.
لغة التسويف التي تنتهجها الخارجية الروسية في تعاملها مع القضية الفلسطينية، والخطاب الهادئ الدبلوماسي في مواجهة الانتهاكات الإسرائيلية، ودعمها المطلق للدولة العبرية في المحافل الدولية، تذهب إلى حقيقة واضحة، مؤداها الدعم الكامل لدولة الاحتلال عبر تجميد أي حلحلة في مسار الأزمة، وإعطاء الإسرائيليين الوقت الكافي والتسهيلات المتواصلة لتنفيذ مخططهم الاستعماري.
علاقات استثنائية
في الـ14 من مايو/أيار 1947 وقف المندوب السوفيتي في الأمم المتحدة، آندريه جروميكو، ليعبر وبشكل واضح عن تأييد بلاده لحق اليهود في قيام دولة صهيونية وتأييده لمشروع التقسيم بحماسة واندفاع غريبين، علمًا بأنه قبل هذا الوقت لطالما ندد السوفييت بالجرائم الصهيونية على مستوى العالم.
وبعد أقل من أربعة أشهر على هذا الموقف، وتحديدًا في الـ26 من ديسمبر/كانون الأول من نفس العام (قبل 3 أيام فقط من صدور قرار التقسيم) وقف السفير الروسي على منبر المنظمة الدولية يدافع عن “الحقوق الشرعية للشعب اليهودي في إقامة دولته لتأمين المأوى والوطن لمئات الألوف من اليهود ممن يعيشون في معسكرات أقامتها لهم الدول الأوروبية”.
وما هي إلا ساعات قليلة من إعلان قيام دولة الاحتلال في الرابع عشر من مايو/آيار 1948 حتى اعترف الاتحاد السوفيتي بتلك الدولة السرطانية الوليدة، كأول دولة تمنح اعترافها القانوني الكامل للاحتلال، الأمر لم يقف عند حاجز الاعتراف فحسب، بل أدان الروس دخول القوات العربية إلى فلسطين الذي جاء ردًا على إعلان قيام الكيان المحتل.
ليس من المستغرب أن يتوغل اللوبي اليهودي (ضئيل العدد عظيم النفوذ) في مفاصل الدولة الروسية في ظل حكم بوتين الديكتاتوري، إذ يتحرك الأخير بمنطق برغماتي بحت، يضع من خلاله مصالح بلاده فوق أي اعتبارات أخلاقية أو تاريخية أو قانونية
وبدلًا من أن تمارس الدولة السوفيتية دورها المحايد كأحد قطبي العالم في ذلك الوقت، إذ بها تزود المحتلين بالأسلحة التي استخدموها في حربهم الأولى مع العرب، وحين قاطعت الدول العربية “إسرائيل” اقتصاديًا في 1953 كان الاتحاد السوفيتي أبرز الداعمين لتل أبيب في مواجهة تلك المقاطعة، مما كان له أهمية كبرى، وربما حاسمة، في استمرار بقاء الدولة الصهيونية الجديدة، وهو الجميل الذي لم ينسه الإسرائيليون حتى اليوم رغم توتر الأجواء بين الحين والأخر.
وفي عام 2008 دخلت العلاقات بين البلدين أجواء ساخنة من التوتير جراء اتهام الروس للحكومة العبرية بدعم جورجيا خلال حربها مع روسيا، الأمر الذي دفع الرئيس الإسرائيلي الراحل، شيمون بيريز، لزيارة موسكو في أغسطس/آب من العام نفسه، لتقريب وجهات النظر وتحسين العلاقات المتدهورة مع الحليف الروسي.
وبعد سلسلة من الزيارات والتصريحات الحميمية، جرى توقيع عدد من اتفاقات التعاون العسكري بين البلدين، قضت بتزويد موسكو للجيش الإسرائيلي بالأسلحة المتطورة منها طائرات بدون طيار، وتطعيم المؤسسة العسكرية العبرية بالخبرات اللازمة، ودعم جهود تل أبيب في الوصول إلى العالمية في مجال الفضاء، فأطلق الروس أقمارًا صناعية لصالح دولة الاحتلال.
اللوبي اليهودي ودوائر صنع القرار الروسي
خلال العقود الماضية، نجح الإسرائيليون في التغلغل داخل مفاصل الدولة الروسية، واضعوا أيديهم على المفاتيح الأساسية التي يمكن من خلالها ضمان الدعم الروسي لإسرائيل واليهود بصفة عامة، مهما تغيرت الأنظمة وتبدلت الحكومات وتعارضت السياسات والتوجهات، حتى لا تقع العلاقات بين البلدين فيما وقعت فيه قبل ذلك.
في تقرير سابق لـ “نون بوست” استعرض مظاهر سيطرة اليهود على دوائر صنع القرار الروسي، لافتا إلى أنه بعد سنوات قليلة من حكم أول رئيس للاتحاد الروسي “بوريس يلتسين”، شغل اليهود ما بين 30 – 50% من المناصب السياسية والثقافية والاقتصادية في البلاد رغم أن نسبتهم لا تتجاوز 1% من إجمالي عدد السكان.
ونجح هذا اللوبي المؤيد لـ”إسرائيل”، المتنامي يومًا تلو الأخر، والمتجذر في المؤسسات العليا التي يملك مفاصلها، في فرض كلمته وتوجهاته على صناعة القرار في روسيا، والذي بات داعمًا على طول الخط للأجندة الصيهونية في العالم.
وفي أبريل/نيسان 2017، تم إشهار ميلاد اللوبي الإسرائيلي في روسيا رسميًا، وذلك حين عقدت الجالية اليهودية في البلاد مؤتمرها الـ11، مؤكدة على ضرورة تعزيز الهوية اليهودية بين يهود روسيا والعالم، وتقوية أواصر المحبة والمودة بين التجمع اليهودي وروسيا.
وفي الأخير.. فليس من المستغرب أن يتوغل اللوبي اليهودي (ضئيل العدد عظيم النفوذ) في مفاصل الدولة الروسية في ظل حكم بوتين الديكتاتوري، إذ يتحرك الأخير بمنطق برغماتي بحت، يضع من خلاله مصالح بلاده فوق أي اعتبارات اخلاقية أو تاريخية أو قانونية، فاستعادة نفوذ بلاده المفقود غاية لا يتورع الرجل في طرق أبوابها بصرف النظر عن شرعيتها وقانونيتها، لتكشف روسيا البوتينية عن وجهها القبيح إزاء واحد من أكثر الملفات التي تمثل اختبارًا حقيقيًا لأخلاقيات الدول وحضاراتها المزعومة.