يشهد لبنان أزمة هي الأكثر خطورة في تاريخه، بسبب تعقيدات تحقيقات تفجير مرفأ بيروت، والطعن المستمر في نزاهة وحياد القضاء، وهي آلية متبعة في البلاد للإفلات من المحاسبة، فالكل يجمع أمام الكاميرات والمحافل الدولية على أهمية المضي قدمًا في إصلاح سياسي واجتماعي حقيقي، لكن دون عدالة انتقالية ومجتمع مدني متمكن وآلية قضائية معزولة ومحمية من الضغط والتدخل السياسي، فالمساءلة بالنسبة للطيف السياسي اللبناني في أغلبه، ليست أكثر من ضمادات واهية على الجروح، وغير مطلوب منها أكثر من ذلك.
أزمة مرفأ بيروت
خلال الأسبوع الماضي، اندلعت أعمال عنف في العاصمة اللبنانية أعادت صورًا داميةً إلى الذاكرة عن الحرب الأهلية التي فجرت دماء اللبنانيين منذ السبعينيات وحتى تسعينيات القرن الماضي، وأسفرت عن مقتل نحو 120 ألف شخص، ونزوح ما لا يقل عن مليون لبناني، وكل ذلك بسبب التعثر في تحقيقات انفجار مرفأ بيروت الذي يعتبر أحد أكبر الانفجارات عبر التاريخ، وليس على مستوى لبنان فقط.
الانفجار الذي نجم عنه مقتل أكثر من 204 أشخاص، وإصابة أكثر من 6500 آخرين، وتسبب في ضرر مباشر لنحو 50 ألف وحدة سكنية، وشرد 300 ألف شخص أصبحوا بلا مأوى، وخسّر البلاد من 10 إلى 15 مليار دولار أمريكي، لم يحرك القوى المختلفة للتوحد للوصول إلى الفاعل الأصلي الذي استخف بالبلاد وأهلها إلى هذا الحد، بل على العكس، تتقاتل القوى المختلفة لعرقلة التحقيق أو لاستغلاله في تصفية حساباتها السياسية والطائفية.
حزب الله من جانبه أطلق حملة تشويه كبرى، واتهم القضاه الذين تعاقبوا على التحقيق في القضية بالتحيز، لا سيما القاضي فادي صوان بسبب خلفيته المسيحية، مع أنه كان معروفًا للجميع بأنه غير حزبي وغير سياسي، لكن الطعون القانونية طالته من مسؤولين لبنانيين ينتمون إلى حركة أمل الشيعية كان قد أدانهم سابقًا في قضايا أخرى، ونجحت الضغوط في تنحيته.
أدان القاضي ميليشيا حزب الله التي تحرس الميناء ولا تخضع للمساءلة باعتبارها تتبع إقطاعيات خاصة
من أجل الوصول إلى حل للموقف والإنجاز في التحقيقات، نقلت محكمة التمييز الجزائية اللبنانية برئاسة القاضي جمال الحجار ملف التحقيقات بانفجار مرفأ بيروت إلى قاضٍ آخر بالتنسيق مع وزيرة العدل ومجلس القضاء الأعلى، ومع أنها خطوة الهدف منها التوافق إلا أنها أثارت حالة من السخط داخل وخارج البلاد أيضًا بسبب التحكم في مواقف القضاة بقرارات سياسية.
عُين طارق بيطار، وهو قاض آخر أكثر مهنية ويحظى بقبول من الجميع، لكن قرارات بيطار قادت البلاد إلى أعمال عنف غير مسبوقة قبل أسبوع، بعد أن أدان تحقيقه ترهل الحكومة التي غضت الطرف عن تخزين 2750 طنًا من نترات الأمونيوم المستخدمة في صنع الأسلحة في الميناء، وأدان أيضًا ميليشيا حزب الله التي تحرس الميناء ولا تخضع للمساءلة باعتبارها تتبع إقطاعيات خاصة.
الشاهد في القضية أن الجميع اتفق على عرقلة التحقيق بالضغوط السياسية والتجاهل والشوشرة، ومن أدانه التحقيق تجاسر على القضاء وعلى رأسهم الوزراء السابقون الذين كانوا في المنصب لحظة الأزمة، بعد أن طلبهم القاضي للشهادة في المحكمة لكنهم رفضوا تمامًا، وردوا بإمطار البيطار بالدعاوى القضائية لإسكاته وإبعاده عنهم.
لكن صلابة القاضي وإصراره على التحقيق كانا محل تقدير من الشارع، وربما هذا ما قاد البلاد إلى اندلاع أعمال عنف بسبب ضغوط شرسة من حزب الله وحلفائه لوقف الإجراءات، رد عليها سمير جعجع رئيس حزب القوات اللبنانية، بضغوط مقابلة وتصاعدت المعركة الكلامية بينهما وانتهت بالتلويح باستخدام القوة وتحريك الخلفية الدينية ودسها في المشهد.
كان من الطبيعي مع هذه الأجواء، إشعال شرارة الصدام، بدأت بإطلاق نار كثيف على تظاهرة لأنصار حزب الله أمام قصر العدل المعروف بقصر المحاكم في بيروت، لتتطوّر الأحداث سريعًا إلى اشتباكات متبادلة أسفرت عن سقوط 7 قتلى وأكثر من 30 جريحًا، وألقى حزب الله باللوم على حزب القوات اللبنانية المسيحية في مقتل أنصاره.
الاتهام نفاه زعيم القوات سمير جعجع، وأدان في المقابل تحريض حزب الله ضد القاضي بيطار، وبين سخط هذا وذاك، سارع الجيش لتطويق المنطقة والانتشار في أحيائها وعلى مداخلها وهدد الجميع بالاشتباك المباشر مع أي مسلح يظهر أمامه.
ردًا على الأحداث خرج حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله، يلوح للجميع بما يملكه من عتاد وعقيدة قتالية لـ100 ألف مقاتل، متهمًا القاضي بيطار بتسييس التحقيق في قضية انفجار المرفأ.
وبدا واضحًا أن نصر الله يوجه تحذيرًا لكل القوى السياسية اللبنانية الرئيسية، وخاصة مسيحيي البلاد وسمير جعجع على وجه التحديد، أن الحزب قوي للغاية سياسيًا وعسكريًا ولا سبيل للنيل منه بأي طريقة كانت قضائية أم ثورية أم عسكرية.
بين القضاء والسياسة
تتميز السياسة اللبنانية ببنية تسمح دائمًا بالتدخل المستمر من القوى والبلدان الخارجية، حيث يمتد دور الانتماء الديني في الأحزاب السياسية الحاكمة إلى خارج الحدود، تيار المستقبل السني يولي وجهه شطر المملكة العربية السعودية وحزب الله مدعوم من الشيعة في إيران والمسيحيين مع فرنسا والغرب.
استند النظام السياسي الذي تم إنشاؤه بعد الاستقلال عن فرنسا عام 1943 إلى هيكل طائفي لتقاسم السلطة، وضمان تمثيل جميع الطوائف الدينية الثمانية عشر في البلاد بالحكومة والجيش والخدمة المدنية.
على هذا الأساس جرى تقسيم المناصب الحكومية الرئيسية الثلاث: الرئيس ورئيس الوزراء ورئيس مجلس النواب، بين مسيحي ماروني ومسلم سني ومسلم شيعي، في محاولة لضمان المساواة بين الجميع في أعلى مراتب السلطة.
لكن هذا النظام أثبت في كل الأحداث المفصلية أنه معيب للغاية، إذ يقسم السلطة بين النخب، ولا يضمن أبدًا الحكم الرشيد للشعب اللبناني، حيث تسود المحسوبية والولاء على حساب الكفاءة.
وعلى الرغم من تهافت هذا النظام وهشاشته، لكن مصالح النخب السياسية تقف خلف صموده، فقد استطاع بالفعل البقاء رغم الأحداث الجسام في التاريخ اللبناني، الحرب الأهلية والغزو الإسرائيلي عام 1982 والاحتلال السوري لأجزاء في البلاد من 1976-2005 والحرب الأخرى مع “إسرائيل” عام 2006، نهاية بالاحتجاجات الشعبية منذ 2019 وحتى الآن.
معضلة اتفاق الطائف
حاول اتفاق الطائف الذي أبرم عام 1989 وأنهى الحرب الأهلية اللبنانية تحديث النظام السياسي دون تغيير أركانه من خلال حصر الانقسام الطائفي في مجلس الشيوخ الجديد وإلغائه في البرلمان.
لكن هذه التغييرات لم يتم تنفيذها أبدًا على الأرض بسبب رغبة النخب اللبنانية في الإبقاء على النظام الذي ضمن استمرار مصالحها، فأي سياق جديد أكثر ديمقراطية يعني إخضاعها للمساءلة وتوسيع مساحة الفرص أمام الجميع وإلغاء امتيازاتها الخاصة.
النظام السياسي الطائفي في لبنان استطاع الاستمرار رغم كل الضغوط
ترتب على ذلك تفشى الفساد داخل الدولة اللبنانية، وترسيخ ثقافة الإفلات من العقاب وتقويض القضاء، إذ تتعامل الأحزاب السياسية الحاكمة مع مؤسسات الدولة كمصدر للدخل وليس أكثر، والطوائف المعارضة إما تتواطأ بنشاط في الفساد وإما تغض الطرف عن جرائم خصومها لحماية نظام يعمل لصالحها.
في المقابل يسعى الساسة باستمرار للسيطرة على الوزارات المختلفة وتوجيه مواردها إلى حلفائهم للحفاظ على ولائهم لهم، ولهذا تسيطر بعض القوى على وزارات بعينها، مثل حزب الله الذي يستحوذ على وزارة الزراعة لتأمين واردات نترات الأمونيوم اللازمة لتصنيع المتفجرات، ولهذا يتمسك الحزب دائمًا بمنصب وزير الزراعة.
وربما يكمن السبب الأساسي في ثورة غضب حزب الله واتهامه للقضاة من خلفيات مسيحية بتسييس التحقيق في مرفأ بيروت، استشعاره محاولة القوى الطائفية المناوئة له بالبلاد، الرغبة في السيطرة على موارد الطاقة التي جرى التلاعب بها تاريخيًا كأداة طائفية للسيطرة على الوقود والمواد الخام المطلوبة في تعزيز التسليح وتطويره باستمرار.
تسيس القضاء = تفكك الدولة
يمكن القول إن النظام السياسي الطائفي في لبنان استطاع الاستمرار رغم كل الضغوط، لكن أزمة الطعن في القضاء الحاليّة مختلفة تمامًا، وقد تؤدي في النهاية إلى انهيار اتفاق الطائف، وعودة أشباح الحرب الأهلية من جديد، فانعدام الإرادة السياسية تجاه استقلال القضاء يعرضه باستمرار لمخاطر التدخل السياسي، وفقدان الأمل في إيجاد لآلية مساءلة نزيهة، تتمتع باستقلالية كافية للتحقيق ومحاكمة الأفراد والكيانات.
تتطلب العدالة في لبنان وضع حد لثقافة طويلة الأمد أسست للإفلات من العقاب، ما يسمح لاحقًا بتكرار ما هو أسوأ من تفجير مرفأ بيروت، لكن القادم لن ينتهي بثورة أرز جديدة تطيح بحزب الله وحزب القوات المسيحي كما حدث مع تداعيات مقتل رفيق الحريري ومغادرة القوات السورية بعد 29 عامًا من الوجود في البلاد، فحزب الله لن يغادر ولا حزب القوات وسيصبح الاسئصلال من كل طرف تجاه الآخر هو الحل!