في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، تفشت في المملكة المتحدة موجة أفلام رعب منخفضة الميزانية، ذات جودة فنية – في الأغلب – رديئة، تركز في متنها الفني على المغالاة في العنف حد التطرف، وتتعمد الإسراف في الدماء بحيث ترسم صورًا دمويةً فجةً Graphic Images تعطي انطباعًا عامًا عن تلك النوعية، التي تهتم بنثر الدماء وخلق صور مرعبة أكثر من الاهتمام بالقصة ذاتها وتقنيات السرد الفني، فهي تؤصل – دون أن تشعر – للصورة ككيان قائم بذاته لا يحتاج الكثير من العوامل المساعدة، وتقدس الدماء والعنف كمستهل ومنتهى.
أثارت تلك الموجة جدلًا واسعًا في ثمانينيات القرن الماضي، وما زالت حتى الآن – أو ما بقي منها داخل الأفلام – تلاقي نقدًا في بعض الأحايين.
من تلك النقطة يبدأ فيلم Censor بالانبلاج، يستمد قوة حكايته من منظومة منعٍ تعمل كمضاد، وتنصب نفسها كحاكم على أفلام كانت مثار جدلٍ داخل المملكة المتحدة آنذاك، من فرط الاستنكار، أطلقت عليها الصحافة البريطانية اسمًا يشي بما هو مخبأ داخل تلك الأشرطة السوداء ذات الدوائر الصغيرة، اسمًا أليق من كونها أفلام درجة ثانية، وأشد وطأة من كونها أعمالًا فنية في المطلق، إنها أفلام الفيديو المروعة/المقرفة ــ Video Nasty Films.
كانت تلك التسمية مجرد رد فعل اجتماعي على استفحال تلك النوعية في الأرجاء البريطانية، وكانت منظمات المنع والقص تصنع قوانينًا لمنع تلك النوعية من التفشي داخل مجتمع المملكة المتحدة مثل المجلس البريطاني لتصنيف الأفلام “BBFC” والـObscene Publications Act – قانون المنشورات الفاحشة عام 1959، والـVideo Recordings Act – قانون تسجيل الفيديو عام 1984.
بدأت تلك القوانين كرد فعل على انتشار الصناعة الإيروتيكية والترويج لها كشيء عادي في ذلك الوقت، ثم تطورت لردع موجة الأفلام المقرفة ليس فقط عن طريق التضيق، لكن عن طريق الضغط الإعلامي الذي يربط ارتفاع منسوب الجرائم داخل المملكة المتحدة لانتشار تلك الموجة الفيلمية الدامية، وخلعها عن سياقها الفني وإقحامها في دور اجتماعي مدمر للمنظومة الاجتماعية.
ما بعد الصدمة
يستهل فيلم Censor سرديته بمشهد يشوبه روح أفلام النوار Film noir، رجل وامرأة يجلسان داخل غرفة مغلقة، مدققين في مقطع فيديو لفتاة يتم جرها وقتلها، للوهلة الأولى سيبدو المشهد كأنه تحقيق في جريمة أو محاولة للإيقاع بقاتل، لكن مع بداية الحديث، تتكشف الخيوط، ونعرف أنهم جزء من لجنة رقابة على الأفلام، يدققون في مقطع من فيلم رعب ينتمي لموجة الأفلام المقرفة، للإقرار إذا كان من اللائق عرضه أم لا، وإذا كان من اللائق عرضه، كم من المشاهد سيتم قصها في نسخة شرائط الفيديو.
يتقصى الفيلم بعد ذلك المراقِبة إنيد باينز (الممثلة نيامه ألغار)، ويتتبع حياتها كعضو في لجنة مسؤولة عن حفظ المجتمع وحمايته من تلك الأفلام التي كانت تبدو في ذلك الوقت شرًا مطلقًا، بيد أنها في الغالب لم تستطع حماية نفسها من تلك الشرائط.
تتدفق الحكاية بشكل متمهل، ومع البطء يتأتى لنا ملاحظة شخصية البطلة، تكرس إنيد نفسها للعمل بشكل شبه كامل، كأنها تحاول الهروب من شيء ما، أو على النقيض البحث عنه، تتطور الحكاية عندما تقابل إنيد والديها، ويعطيانها شهادة وفاة لأختها المفقودة منذ نحو عشرين عامًا.
يحاول والداها من خلال اجتراح هذا الفعل، التحرر من وطأة الذنب أو حتى الهروب منه والعيش في سلام نفسي، لقد نفدت كل حلول الأرض، لم يعد للفتاة وجود إلا في قلب أختها التي لم تقبل بتلك النهاية، وتخبرهم أن في ذلك التصرف إجحافًا وتعسفًا ضد الأقدار، ومن هنا يتعرف المشاهد على الصدمة التي عانتها إنيد، وأن سنواتها السابقة كانت مجرد اضطراب ما بعد صدمةٍ مروعة بفقد أختها، التي تلوم نفسها عليه كل يوم.
وعليه تبدأ آثار تلك الصدمة بالانكشاف خلال أفعال إنيد، وتظهر أعراضها في محاولات لاستخدام ما يسمى في علم النفس بآليات التأقلم Coping mechanisms للهروب من ذلك الذنب، عن طريق تقليل الاحتكاك مع العالم خارج نطاق العمل، وندرة اللقاءات مع الأسرة، بما تسببه هذه اللقاءات من تضخيم الشعور بالذنب والإضافة إليه، وبهذا تطرد عن نفسها كل شؤون الحقيقة، وتمنع عن نفسها كل ألسنة الواقع، وتغرق نفسها في شرائط الفيديو، في محاولة لطرد الحقيقة، واستدعاء الأمل في نجاة أختها، وأنها لم تمت بل على قيد الحياة.
نلاحظ ذلك في التخيلات التي تضرب دخيلة إنيد في نومها أو حتى خلال يقظتها، والكوابيس التي تلاحقها بشأن أختها، لكن الحق أنها تفضل العيش في هذه الكوابيس التي ترى فيها أختها تختفي داخل كوخ خشبي في الغابة، على أن ترد نفسها للواقع وتستسلم لحقيقة كون أختها ضاعت إلى الأبد ولا سبيل لعودتها مرة أخرى.
لقد هَوَت إنيد داخل أخيلتها حد الأذنين، ودفعت عن نفسها كل شيء عدا عملها، لكن حتى في عملها لم تتمكن من التخلص من تلك الأخيلة، حتى وقع في يديها فيلمٍ لمخرج مغمور يسمى فريدريك نورث (الممثل أدريان شيلر)، يعرض هذا الفيلم قصة فتاة تدلف إلى كوخ ليظهر لها رجل ضخم متوحش، ويحاول قتلها.
يهيأ لإنيد أن الممثلة هي أختها التي فقدتها منذ زمن، وتحاول بكل الطرق والذرائع أن تجد مخرج الفيلم أو تستدل على عنوان للممثلة التي تشبه أختها.
هذا اليقين التام دفعها للذهاب أبعد ما يكون، أبعد من كون الحقيقة واضحة مثل الشمس، وأن تنحدر في سقوطٍ مدوٍ داخل شريط فيديو طوباوي من صنع دماغٍ أرهقته الأخيلة والظلال.
الحياة داخل شريط فيديو
في لحظة معينة داخل الفيلم، بالتحديد اللحظة التي وجدت فيها إنيد الفيلم الذي يسرد قصة موازية لقصتها، انفصلت زمانيًا ومكانيًا عن سياق الواقع، وانقطعت عن الواقع المعاش، مثلما تقطع – هي نفسها – أحد مشاهد تمزيع الأعضاء في أفلام الرعب الرديئة.
هذا الانسكاب داخل الحلم جعل الفيلم ينتقل من خط سردي إلى آخر موازٍ له، لكنه لا يخضع للمنطق ذاته ولا للقواعد ذاتها، عالم طوباوي يصنعه الإنسان بإرادته، يمسك بالذراع ويتحكم في سير الحكاية من الأول إلى الآخر، بحيث لا يسمح بوجود هامش للخطأ.
وهذا بالضبط ما حدث داخل الفيلم، حيث عبرت الشخصية إلى عالم موازٍ لعالمها، عالم جديد منفصل، أوجدت فيه أختها، وأنقذتها من الرجل المتوحش، حتى لو ارتكبت – من أجل غرضها الرئيسي – أفظع الجرائم، فهذا العالم – بالضرورة – يعطي شرعية لأفعال مؤسسه، يتحول الفيلم في النهاية من أجواء خانقة وأضواء نيونية إلى أجواء نهارية أكثر انفتاحًا، يصدح الراديو بأخبار عن انخفاض معدل الجرائم إلى صفر، وتحول المملكة المتحدة إلى جنة، وتنطلق إنيد مع أختها إلى والديها، وتتحد العائلة مرة أخرى.
بيد أن هذه الحكاية التي تشبه حكايات الجنيات في كتب الأطفال، يتخللها تقطعات تشوه الصورة الطوباوية، مثل صرخات الفتاة التي تخرج مثل انفلاته شعورية من عقل إنيد، كأن العقل الباطن لا يستطيع السيطرة على الحلم بشكل كامل، لأنه لا يشمل اثنين أو ثلاثة، بل يشمل عالمٍ بأكمله، تلك الانفراجات الشعورية تصور الإرادة الأخرى التي تصارع أحلام إنيد الطوباوية، إنها حقيقة متمثلة في أن إنيد نفسها تدمر حيوات الآخرين بأحلامها الفجة وارتمائها في أحضان الصدف والتخيلات.
الفيلم هو تصور للعقل الباطن الذي يسيطر على الدماغ بشكل كلي، ولا يقوم بعمله في كبح الذكريات المؤلمة وتخزينها في أعماق الوعي تحت طبقات من الحوادث والوقائع، إنما العقل الباطن في هذه الحالة لم يسيطر على الذكرى، بل هي من سيطرت عليه بشكل كامل، ومن هنا يترك المخرج نهايةً مفتوحةً، لا يلمح حتى بالنهاية، كل ما يشاهده المتلقي في النهاية، هي المرأة المراقبة التي تقطع الأفلام، تصنع فيلمها الخاص، وتكبح العالم عن الموجود، كأنه ليس موجودًا، تلك التنويعات على الذاكرة والواقع صنعت من الفيلم سردية مرهقة، مفتوحة للتوقعات، تتأمل في حالة متفردة، تصنع رعبًا مغايرًا، رعب الإلغاء والسطوة والإغراق الذي لا استفاقة منه.
فيلم Censor
فيلم Censor هو من أفلام الرعب المتأنية، التي تتقدم على مهل Slow burning movies، يبتعد عن نمطية أفلام الرعب المعهودة، ويتماس مع موضوع سينمائي في مضمونه، محاولًا مزج وظيفة التقطيع والمنع المضادة، مع انفجار اللاوعي المكبوت الذي يرمز للانفتاح والحلم.
فيلم censor هو التجربة الروائية الطويلة الأولى للمخرجة برانو بيلي ـ بوند، عُرِض لأول مرة في مهرجان صاندانس السينمائي لعام 2021.
ينجح الفيلم في تكوين صورة مبهرة تتناسب مع رتم الفيلم البطيء، وتعطيه الكثير من الحيوية عبر تباين استخدام الألوان والإضاءة النيونية الشاحبة، والموسيقى التصويرية المحفزة.
تضافر تلك العناصر السينمائية نجح في الإمساك بالقصة المتواضعة في داخلها والهشة في متنها وإنقاذها من السقوط في هوة الملل المنفر، لكن رغم المجهود الهائل الذي بذلته المخرِجة ومديرة التصوير ومصممة الإنتاج المذهلة باولينا رزيسوفسكا لرفع النسق وتكثيف الحدث والتأسيس لأجواء خانقة والاستعانة بممرات وأماكن ضيقة لتصدير شعور بالانحباس والإحاطة بالشخصية الرئيسية داخل تكوينات فنية، بالإضافة للحضور القوي للممثلة نيامه ألغار وباقي الطاقم، فإن الفيلم لم يستطع المحافظة على رتمِه لمدة طويلة، بجانب وقوعه في فخ ثنائية سردية منفصلة، لم يستطع الربط بينهما بشكل جيد، بل عمل على الانتقال بشكل ناعم لكنه يدفع للتشتت.
الفيلم بشكل عام جيد، وعلى الرغم من النزعة النسوية المتخفية داخل الفيلم، ليس فجًا ولا يعرض وجهة نظر متطرفة، فهو يلقي الضوء على العنف ضد النساء، باستحضار مقاطع من تلك الموجة من الأفلام/الفيديو التي عرضت داخل العمل، التي كانت تمثل ممارسة لعنفٍ ضد النساء، بيد أن هذا العرض كان داخل سياق العمل الأساسي، أي الرقابة على الأفلام.