قبل فترة ليست بالطويلة كان من الصعب رؤية صهريج واحد لتخزين المياه فوق أسطح المنازل في المناطق النائية بالأردن، اليوم باتت تلك الصهاريج ظاهرة عامة تزين الأسطح كافة، كبيرها وصغيرها، ليس في المحافظات البعيدة فقط بل في قلب العاصمة عمّان، في إشارة واضحة إلى أزمة نقص المياه التي بدأت تعاني منها المملكة.
وفاقمت أزمة تناقص المياه من الوضعية المتدهورة داخليًا، حيث الاقتصاد المترهل والأحوال المعيشية المتدنية، الأمر الذي بات يمثل صداعًا مزمنًا في رأس الحكومة التي لم تكد تخرج من عثرة حتى تعرقل في أخرى، وبصرف النظر عن أسباب تلك الأزمة التي يأتي على رأسها تراجع نسبة هطول الأمطار والإفراط في استخدام المياه خلال عمليات الإغلاق على خلفية جائحة كورونا، إلا أنها تمثل ضغطًا على السلطات الحاكمة للبحث عن حلول عاجلة لها.
وبحسب الإحصاءات الرسمية فإن حصة المواطن الأردني من المياه في العام تراجعت إلى 80 مترًا مكعبًا فقط بدلًا من 3400 في مطلع القرن الحاليّ، ويتوقع أن تتفاقم تلك الأزمة عامًا تلو الآخر مع الزيادة الطبيعية في أعداد السكان، ما ينذر بفقر مائي مدقع قد يدفع البلاد إلى تقديم العديد من التضحيات، إن لم يكن على المستوى الداخلي عبر إستراتيجيات التقشف وتقليل معدلات الاستهلاك إجباريًا، فعلى مستوى سيادة قرارها الخارجي واستقلاليتها الوطنية، عبر طرق أبواب “إسرائيل”.
نقص حاد
يقول عماد سليمان (بائع للمياه في صهاريج) في العاصمة الأردنية، إن شح المياه أنعش تجارة صهاريج مياه الشرب بصورة غير مسبوقة منذ عقود، لافتًا في حديثه لـ”رويترز” إلى أن العام الحاليّ شهد ارتفاعًا تراوح بين 70 -80% على المياه المبيعة مقارنة بالسنين الماضية، وسط مخاوف من تفاقم الوضع.
ويضيف البائع أنه يقف بالساعات بجانب إحدى الآبار الخاصة في عمان لاستخراج المياه من جوف البئر ويضعها في الشاحنة كي يبيعها للزبائن في المدينة مترامية الأطراف، مشيرًا إلى زيادة أعداد المستهلكين بين سكان العاصمة البالغ عددهم 4 ملايين نسمة، بعدما باتت مياه الصنبور ضيفًا عزيزًا لا يأتي إلا يوم واحد فقط في الأسبوع، على حد قوله.
الناطق باسم وزارة المياه والري عمر سلامة ، أشار إلى أن نسبة فاقد المياه تقدر بـ45% على مستوى البلاد، هذا بخلاف تعرض ما يقرب من 70% من كميات المياه المتوافرة للسرقة إما عبر عدم دفع فواتيرها وإما الاعتداءات على خطوط الإمداد، بجانب البنية التحتية المتهاكلة التي تزيد من نسب الفقد.
ويلفت في تصريحات صحفية له أن هناك تراجعًا واضحًا في معدلات ملء السدود، مرجعًا ذلك لعدة أسباب أبرزها تراجع نسبة هطول الأمطار العام الماضي بنسبة 50%، ما انعكس على نسبة ملء السدود وأدى إلى فقدان 80 مليون متر مكعب عن الأعوام الماضية، يتزامن ذلك مع تزايد واضح في معدلات الاستهلاك.
الحكومة لم تتحسب لاحتمال أن يكون العام 2021 جافًا في مجمله، رغم أن البلاد شهدت العام الماضي موسمًا مطريًا جيدًا كان يمكن التعامل معه بشكل أفضل، ما أدى إلى فقدان الغالبية العظمى من المياه دون الاستفادة منها للأعوام القادمة
أزمة إدارة قبل الموارد
تعمقت الأزمة أكثر بفعل سوء إدارتها على المستوى الرسمي، وهو ما كشفه وزير المياه والري الأردني محمد النجار، الذي أشار إلى أن الحكومة لم تتحسب لاحتمال أن يكون العام 2021 جافًا في مجمله، رغم أن البلاد شهدت العام الماضي موسمًا مطريًا جيدًا كان يمكن التعامل معه بشكل أفضل، ما أدى إلى فقدان الغالبية العظمى من المياه دون الاستفادة منها للأعوام القادمة، مضيفًا “بل على العكس أهدرنا المياه، بتزويد المزارعين بكميات إضافية كبيرة للري، فوق حصتهم المعتمدة”.
الموسم الحاليّ لم يتجاوز المعدل المطري حاجز الـ60% من المعدل السنوي الطبيعي لها، والحديث للوزير الأردني، فيما لم تختزن سدود المملكة الأربعة عشر إلا 45% فقط من سعتها، ومع استمرار جائحة كورونا وزيادة الطلب على المياه تفاقمت الأزمة، وتحولت إلى شبح يطارد الجميع، ما انعكس بطبيعة الحال على الإقبال المتزايد على صهاريج التخزين فوق المنازل تحسبًا لأي نقص محتمل خلال الفترة المقبلة.
ونتاجًا لتلك الأزمة المتفاقمة، طالبت وزارة المياه المواطنين بترشيد الاستهلاك، الذي يتخذ أسلوب التزويد غير المستمر، من خلال برنامج أسبوعي أو نصف شهري ببعض مناطق الشمال، وهو الأمر الذي أثار حفيظة المواطنين الذين تساءلوا عن مصير الأمطار التي تهطل كل شتاء بكميات كمبيرة، محملين الحكومة وسوء إدارتها للأزمة مسؤولية تفاقم الأوضاع إلى هذا الحد.
وكان تقرير محلي قد كشف أن الجائحة تسببت في زيادة الطلب على المياه بنسبة تتراوح بين 10% و40%، نتيجة زيادة استهلاك المورد الحيوي في أثناء الحظر والإغلاقات، منوهًا أن العام الماضي شهد ارتفاعًا في الضغط على مصادر المياه الرئيسة، التي تعاني التراجع أصلًا، وهو ما أحدث هذه الفجوة الكبيرة بين الطلب والمعروض.
هل تكون “إسرائيل” الحل؟
تلك الوضعية المائية الحرجة للبلاد دفعت الحكومة الأردنية إلى طرق باب “إسرائيل”، إذ وقعت اتفاقية مع الحكومة العبرية لشراء 50 مليون متر مكعب إضافية، بجانب مثلهم منصوص عليه في اتفاقية السلام الموقعة بين البلدين عام 1994، ما يعني أن عمّان يفترض أن تحصل من دولة الاحتلال على 100 مليون متر مكعب سنويًا.
لكن يبدو أن هذا الحل غير مقبول لقطاع من الأردنيين، فلا يجد عضو البرلمان موسى هنطش، مبررًا بأي شكل من الأشكال، لتوقيع الحكومة اتفاق مياه مع الكيان الصهيوني، لافتًا إلى أن بلاده أمامها العديد من البدائل والخيارات التي يمكن من خلالها حل الأزمة دون الارتماء في أحضان الاحتلال.
وأوضح البرلماني الأردني أن علاج أزمة الفقد ربما يكون حلًا سحريًا للخروج من تلك الشرنقة، خاصة أن تلك النسبة تصل إلى 40% وفي بعض الأحيان تتجاوز حاجز الـ50%، فضلًا عن إمكانية شراء المياه من أكثر من 1500 بئر خاصة (غير مرخصة ومخالفة) تستطيع تقليل حالة النقص والشح في الماء التي يعيشها الأردن، وفق تصريحات له.
وكما ذهب آخرون، يعتقد هنطش أن أزمة المياه في البلاد أزمة إدارة، على مساراتها كافة، متراكمة على مدار سنوات وعقود سابقة، بجانب السرقات التي يرتكبها كبار المسؤولين لمصادر المياه المحورية، وهو ما يعمق الوضعية الحرجة، في الوقت الذي لم تتحرك الحكومة إزاء أي من هؤلاء للعديد من الاعتبارات، فيما تكتف بمناشدات المواطنين بترشيد الاستهلاك.
الصورة المستقبلية أكثر تشاؤمًا وفق ما ذهبت إليه تلك الدراسة التي أجرتها جامعة ستانفورد الأمريكية 2021، وتوصلت إلى أن نصيب المواطن في المملكة من المياه يمكن أن ينخفض إلى النصف بحلول نهاية هذا القرن
هل من بدائل أخرى؟
بدائل عدة يرى خبراء أنها قادرة على تعويض النقص في المياه وإن كان يعترضها الكثير من العراقيل، من بينها مشروعات تحلية المياه وأبرزها فكرة إنشاء القناة المقترحة من البحر الأحمر إلى الميت، لكنها تحتاج إلى ميزانية ضخمة في وقت تعاني فيه المملكة من أزمة اقتصادية طاحنة، جعلت المساعدات والمنح الخارجية ضلعًا أصيلًا في بنيان الاقتصاد الوطني.
كما يمكن للبلاد الحصول على المياه من دول الإقليم المجاورة، كالعراق وسوريا، لكن تطورات الوضع هناك تلقي بظلالها القاتمة على المشهد، لذا تحاول عمان خلال الآونة الأخيرة فتح قنوات اتصال مع دمشق من أجل حزمة من الأهداف من بينها الحصول على المياه بما يضمن الحد الأدنى من الاستهلاك حتى لا تتعرض المملكة لحرج قد يهدد استقرارها وأمنها المجتمعي واستقلالها السياسي.
جدير بالذكر أن تراجع نصيب الفرد من المياه لم يكن مشكلةً أردنيةً خالصةً، بل ظاهرة عربية من الدرجة الأولى، إذ تشير إحصاءات التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام 2020 إلى أن نصيب الفرد من المياه العذبة سنويًا في المنطقة العربية يبلغ 800 متر مكعب عام 2019، ومن المتوقع أن يتناقض ليصل إلى 667 مترًا مكعبًا عام 2025.
المشكلة إذًا لم تكن في تلك الأزمة الأردنية الراهنة التي يمكن حلها وفق البدائل المطروحة، لكن فيما هو قادم، وهو ما يمثل ضغطًا على الحكومة الحاليّة التي يجب أن تضع هذا الملف على قائمة جدول الاهتمام والدراسة، فالصورة المستقبلية أكثر تشاؤمًا وفق ما ذهبت إليه تلك الدراسة التي أجرتها جامعة ستانفورد الأمريكية 2021، وتوصلت إلى أن نصيب المواطن في المملكة من المياه يمكن أن ينخفض إلى النصف بحلول نهاية هذا القرن، وعليه فإن عددًا قليلًا فقط من الأسر يمكنها الحصول على 40 متر مكعب كحد أقصى لنصيب الفرد، في الوقت الذي يبلغ فيه حد الفقر المائي 1000 متر مكعب سنويًا.