كبقية الدول التي يرتكز اقتصادها على الريع الطاقي ويتأثر بأسواق النفط العالمية، ما زالت الجزائر تعيش عقدة الإقلاع وتحقيق التنمية المستدامة، بسبب منوالها التنموي الذي لم يتغير منذ الاستقلال عن المستعمر الفرنسي، فهي إلى الآن تسطر ميزانيتها وتصنع سياستها المالية بناءً على توقعات انتعاش السوق العالمية وليس على قدراتها الإنتاجية الأخرى.
الاقتصاد الجزائري يُعاني من الارتهان لريع الطاقة من غاز ونفط، وبالتالي فإن الانتعاش والتدهور مرتبط بشكل أساسي بالأسعار العالمية للبرميل، فإذا كان السعر دون الـ50 دولارًا فإن عملية إصلاح الوضع المالي ستكون عسيرة ولن يسمح لها هذا الرقم بتحقيق فوائض تمكنها من تنفيذ خطط تنموية أو استثمارية في الاتجاه الصحيح.
أزمة اقتصادية
تعيش الجزائر على وقع موجة غلاء غير مسبوقة في أسعار السلع والمنتجات، وسط تحذيرات من انهيار القدرة الشرائية للمواطنين، ويأتي هذا الارتفاع بالتزامن مع المصاعب الاقتصادية التي تواجهها البلاد منذ 2020، بسبب تراجع أسعار النفط والتبعات السلبية لجائحة كورونا، وتذبذب أسعار الصرف في السوق المحلية.
#الجزائر..موجة غلاء حادة في أسعار السلع والمنتجات ومخاوف من انهيار القدرة الشرائية للمواطنين#العربي_اليوم pic.twitter.com/OZTYXLz45g
— التلفزيون العربي (@AlarabyTV) October 13, 2021
كما يشهد البلد الواقع في شمال إفريقيا، اتساعًا في عجز المالية العامة وعجز الحساب الخارجي من جديد في عام 2020، إذ انخفض احتياطي النقد الأجنبي إلى 48.2 مليار دولار أمريكي في نهاية 2020، فيما يتوقع أن يتجاوز النمو الاقتصادي 3% العام الحاليّ.
من جهة أخرى، تسارع متوسط التضخم السنوي إلى 4.1% في يونيو/حزيران 2021، ويرجع ذلك جزئيًا إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية العالمية وفترة الجفاف في الجزائر، فيما قُدرت نسبة انكماش الاقتصاد بـ9.4%، كما ارتفعت نسب البطالة خاصة لدى الشباب ما بين 16 و24 سنة لتصل إلى حدود 26.96%.
تأثيرات كورونا
تسببت جائحة كورونا في تراجع أسعار الغاز الطبيعي والنفط وفي انخفاض عائدات الهيدروكربونات في الجزائر بنسبة 33%، أي من 33 مليار دولار عام 2019 إلى 22 مليار دولار في العام الماضي، وعلى الرغم من عودة انتعاش التصدير إلى حد ما في عام 2021، فمن غير المرجح أن تغطي عائداته نفقات الدول على التنمية وسد الاختلالات في الموازنة العامة.
لماذا كان تأثير #كورونا على اقتصاد #الجزائر أكثر ضرراً من دول أخرى؟ #اندبندنت_عربية_تغنيك https://t.co/9MMm5DIdkb
— Independent عربية (@IndyArabia) November 30, 2020
على صعيد متصل، تسببت الجائحة في تجفيف التحويلات الأجنبية بما فيها تحويلات المغتربين التي تمثل ما يقرب من 1% من الناتج المحلي الإجمالي، عام 2020، وذلك نتيجة عمليات الإغلاق التي طالت أنحاء أوروبا.
كما سهام الإغلاق الذي فرضته الجزائر وطال حدودها البرية والبحرية والجوية في تجميد الاقتصاد غير الرسمي الذي يُمثل نحو 33% من الناتج المحلي الإجمالي، في توسيع دائرة تأثير الجائحة اجتماعيًا واقتصاديًا، فقد شهدت البلاد نقصًا في المواد الغذائية الأساسية واضطرابات في مسالك التوزيع وسلسلة الإمدادات.
من جهة أخرى، فإن سلسلة الإجراءات التي أقرتها السلطات الجزائرية لتخفيف أثر وباء كورونا على الاقتصاد، كتأجيل استخلاص الضرائب وزيادة الإنفاق الصحي وتوفير بدلات العاطلين عن العمل، إضافة إلى تحويلات مالية للفئات محدودة الدخل المنخفض، أضعف المالية العمومية وأنهك الموازنة لكثرة الإنفاق الذي لا يُقابله إيرادات مستقرة.
الدينار والسيولة
رغم سعى المسؤولين لإجراء تخفيض تدريجي للدينار الجزائري كوسيلة لتحفيز الصادرات وتشجيع الطلب على المنتجات المصنوعة محليًا، فإن هذه السياسة لم تنجح في دفع المواطنين إلى وقف اعتمادهم على العملة الأجنبية وعلى السوق السوداء.
في هذا الجانب، قدر الرئيس الجزائري في وقت سابق حجم الاقتصاد الموازي في البلاد (خارج النظام المالي الرسمي) بنحو 10 تريليونات دينار، ما يعادل 75 مليار دولار، قائلًا: “لا أحد ينكر وجود أموال ضخمة متداولة في السوق الموازية”.
قدّر الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، حجم الاقتصاد الموازي في #الجزائر (خارج النظام المالي الرسمي) بنحو 10 تريليونات دينار، ما يعادل 75 مليار دولار.
الرئيس عبد المجيد تبون دعا خلال تنصيب المجلس الاقتصادي والاجتماعي إلى ضخ هذه “الأموال المخبأة” في الاقتصادhttps://t.co/ATsKqOZwyI
— ANADOLU AGENCY (AR) (@aa_arabic) September 29, 2021
كما تُرجح التقديرات أن ما يصل إلى 35% من جملة الأموال الموجودة في الجزائر لا تمر عبر المسالك الرسمية والنظام المصرفي في البلاد، ما يُعمّق أزمة السيولة التي غالبًا ما تتسبب في تعطل صرف المخصصات الشهرية للمتقاعدين، وتوقف المشاريع المملوكة للدولة، وصرف البنوك للقروض.
أمام هذا الوضع المالي، لم تجد السلطات الجزائرية حلًا إلا العودة لطباعة النقود وهو اقتراح أعلنه في وقت سابق الرئيس عبد المجيد تبون، لكن هذا الإجراء لن يؤدي في الحقيقة إلا إلى زيادة الضغوط التضخمية الناتجة عن تخفيض قيمة الدينار.
هذا الإجراء وجد معارضة من الخبراء والاقتصاديين الجزائريين، ومع استحالة العودة إلى طباعة الأموال التي لا تزال رخصتها القانونية سارية المفعول إلى 2022 نظرًا لتداعياتها على الاقتصاد، واستبعاد اللجوء إلى الاستدانة الخارجية من صندوق النقد الدولي، تبدو الحلول بعيدة عن المتناول في ظل عجز الدولة عن إجراء تعديلات جوهرية على المنوال التنموي القائم على الريع.
الاقتصاد الريعي والمخاطر
رغم دخول الجزائر بعد الاستقلال في مجال الصناعات الثقيلة، فإن فشلها في إيجاد أسواق خارجية وضعف الاستهلاك الداخلي، أدى في نهاية المطاف إلى سقوطها في دوامة الريع الاقتصادي القائم النفط والغاز واستبدال الإنتاج بالاستيراد في محاولة لتوفير الموارد المالية للدولة.
ولئن أوقعت هذه السياسة البلاد في أزمات مالية متتالية في فترة الثمانينيات والتسعينيات، إلا أن صناع القرار واصلوا على هذا المنوال التنموي دون استثمار الموارد الضخمة للبلاد والطفرات النفطية الناجمة عن ارتفاع الأسعار خاصة في الـ70 والفترة الممتدة بين 2005 و2013، في إعادة تشكيل منوال تنموي قائم على تنويع مصادر الدخل.
مع تراجع أسعار النفط العالمية في السنوات الأخيرة، تأثرت المالية العامة الجزائرية بشدة في ظل اعتمادها على إيرادات تصدير الخام (60% من الميزانية)، مدفوعة بالعوامل الاجتماعية كارتفاع البطالة والديمغرافية (45 مليون نسمة) من حيث ارتفاع نسب الاستهلاك والانفاق ما تسبب في تآكل مخزون الاحتياطي من النقد الأجنبي (من 200 مليار دولار في 2013 إلى قرابة 45 مليار دولار حاليًّا).
ً#الجزائر الرئيس عبد المجيد تبون يقرّ بصعوبة الوضع المالي في البلاد ويتعهّد برفع صادرات بلاده غير الطاقية. قطاع الطاقة يساهم بـ93% في إجمالي مداخيل الصادرات وبنحو 60٪ في ميزانية الجزائر.
— Bassam Bounenni بسام بونني (@bbounenni) August 18, 2020
الارتباط الوثيق للاقتصاد بالريع النفطي، يعني بالضرورة الهشاشة والتذبذب لاقترانه بنسبة الطلب العالمي واستقرار الأسواق والعلاقات الدولية، وفي حال تراجع سعر البرميل، فإن الدولة ستعرف اختلالًا في ميزانها التجاري وفي موازنتها العامة ولن تقدر على تغطية نفقاتها، وبالتالي ارتفاع مخاطر اللجوء إلى المديونية الخارجية.
أما على الصعيد السياسي، فالاعتماد على الريع يدعم الديكتاتوريات ويُحرك النخبة ويشكل سلوكها ورغبتها في السيطرة والاستحواذ على مصادر الدخل، لإدامة آليات إعادة إنتاج الهيمنة والسيطرة والنفوذ، ما يؤدي إلى غياب الديمقراطية والتوزيع العادل للثروات واختلال التنمية جغرافيًا.
في الجانب الاجتماعي، غالبًا ما تدخل الشعوب بسبب الريع وعائداته في حالة استكانة وجمود فكري وإبداعي بسبب انعدام حوافز التطوير والارتقاء، كما يغيب العدل والمساواة وتكثر أمراض المجتمع الأخرى كالفقر والبطالة والفساد وعدم تكافؤ الفرص والمحسوبية وغيرها من التشوهات الأخرى.
الإقلاع.. الشروط والفرص
إن الإبقاء على السياسة الاقتصادية الحاليّة في الجزائر يعني بالضرورة مواصلة البقاء في دائرة المخاطر وعدم الاستقرار المالي والاجتماعي، وبالتالي فإن السلطات القائمة عليها تعديل منوالها التنموي وإرساء نظام اقتصادي يُراعي المقدرات البشرية والموارد الطبيعية التي تزخر بها البلاد، إضافة إلى الحلول الأخرى المطروحة من بينها:
– إرساء نظام سياسي ديمقراطي يقطع مع الفساد والمحسوبية وتدخل المؤسسة العسكرية في الشأن العام.
– تخفيض تكلفة تأمين الحدود (ليبيا وتونس ومالي) والتوتر مع دول الجوار عبر اتفاقيات التهدئة (المغرب).
– القطع مع تحويل موارد الدولة لتمويل الاحتياجات الاقتصادية التي تهدف للتغطية على غايات سياسية ضيقة.
– إجراء إصلاحات عميقة وهيكلية على الاقتصاد وإرساء روافع إنتاجية جديدة.
– تنويع مصادر الإنتاج ودعم الطاقات الشبابية على بعث المشاريع الجديدة القائمة على الابتكار لامتصاص نسب البطالة المرتفعة.
– اعتماد إستراتيجية ثلاثية الأبعاد تقوم على الكفاءة والإبداع والابتكار.
– الاستثمار في الاقتصاد الذكي.
– القطع مع سياسة شراء السلم الأهلي واستبدالها بمشاريع تنموية كبرى.
– دعم القطاع الخاص وإشراكه في النهوض بالاقتصاد المحلي.
– تقليص القيود المفروضة على الاستثمار وسن قوانين مشجعة على استقطاب مشاريع الأجانب.
– دعم الفلاحة وتعصيرها وحسن استغلال المساحة الجغرافية.
– دعم قطاع السياحة والتشجيع على الاستثمار في القطاعات المرتبطة به.
– وضع سياسة صناعية ملائمة ذات إستراتيجية اقتصادية شاملة متوسطة إلى طويلة الأجل.
– تحسين الحوكمة الاقتصادية ودعم سياسة خلق الفرص والثروة.
في السياق ذاته، فإن السلطة الجزائرية بقيادة عبد المجيد تبون مدعوة إلى حسن استثمار الريع وتحويله من إستراتيجية يقوم عليها الاقتصاد إلى فرصة لتحقيق الإقلاع والنهضة، بالإضافة إلى استغلاله لتمويل تنمية جديدة مرتكزة على الطاقة البديلة، بإعادة إحياء مشروع “ديزارتاك” لتوليد الطاقة الشمسية وتصديرها إلى أوروبا (شراكة ألمانية).
ماذا خسرت الجزائر بتفويت مشروع “ديزرتاك” الألماني للطاقة الشمسية؟https://t.co/RwkPcTMmbc
— جريدة تحت المجهر من أمريكا (@almjharNews) April 8, 2021
فالطاقة المتجددة تُعد بديلًا حقيقيًا وفعالًا للريع النفطي، إذ يمكنها قيادة قاطرة التنمية باستثمار خيرات الصحراء الكبرى (قرابة مئة مليون هكتار من الأراضي) في قطاع الفلاحة، وذلك بالاعتماد على الأقمار الصناعية والطائرات من دون طيار في مراقبة الإنتاج الزراعي، وهو ما يُتيح أيضًا تأهيل هذه المناطق وتحسين مراقبتها من مخاطر الإرهاب والجريمة المنظمة.
بالمحصلة، على الجزائر أن تتجه تدريجيًا نحو نموذج اقتصادي جديد يضع الاستثمار في قلب ديناميكية خلق الثروة والوظائف، مدعومًا بمشروعات طموحة ورائدة يُمكنها إعادة توازن مؤشرات الاقتصاد الكلي ووضعه على طريق النمو المرن والمستدام.