ترجمة وتحرير: نون بوست
قبل خمسين سنة، بدأت القوات الأمريكية بتشييد قاعدة عسكرية في جزر شاغوس، وهي منطقة بريطانية في وسط المحيط الهندي. تم إبعاد سكان المنطقة الذين يبلغ عددهم عدة آلاف بالقوة لإفساح المجال أمام بناء القاعدة البحرية.
لم يتلق السكان أي تعويض عن خسارة وطنهم، بينما حصلت بريطانيا على الصفقة المربحة، إذ منح البنتاغون البحرية الملكية البريطانية تخفيضا لبناء أسطولها الأول من الغواصات النووية.
ساعدت هذه الصفقة بريطانيا على الحفاظ على بعض من إرثها الإمبراطوري وعزز العضوية الدائمة للمملكة المتحدة في مجلس الأمن بعد انهيار الإمبراطورية.
لكن الأسلحة النووية لن تكون كافية للبقاء في أعلى هرم النظام العالمي الجديد. أثناء طرد سكان جزيرة شاغوس، قام المسؤولون البريطانيون بنشاط استعماري جديد، وهذه المرة لضمان استمرار السيطرة على طرق إمداد النفط العالمية.
عُرفت العملية باسم “إنترادون”، وشهدت تسليم أراضي قبيلة عربية مستقلة تفخر بجذورها إلى ديكتاتور موال للغرب، كما تعرض معتقلون للتعذيب على يد القوات البريطانية، ومات جندي من القوات الخاصة البريطانية في عملية مظلية ليلية.
جرت الحادثة في منطقة مسندم، وهي شبه جزيرة جبلية تطل على مضيق هرمز، وممر بحري ضيق بين إيران والجزيرة العربية يتم من خلاله شحن ثلث إمدادات النفط العالمية كل يوم.
على الرغم من وجودها في مفترق طرق للاقتصاد العالمي، بمثل أهمية قناتي السويس وبنما، إلا أن قبيلة الشحوح في مسندم، والتي عانت لفترة طويلة من التدخلات الخارجية، اعتبرت نفسها دائما قبيلة مستقلة.
قامت بريطانيا بغزو مسندم، وقتلت وأسرت عددا من المقاومين، وضمت المنطقة لدولة عمان التي لا تشترك معها في حدود برية. وكانت بريطانيا قد خططت في حال كشف وسائل الإعلام عن تفاصيل العملية في مسندم، للقول بأنها مهمة إنسانية لتحسين “رفاهية سكانها الذين تم إهمال احتياجاتهم في الماضي”.
تعرضت شبه الجزيرة للقصف من البحرية الملكية البريطانية سنة 1930 “لإجبار أحد الشيوخ على الاستسلام”، وانتهى الوجود الأجنبي على شبه الجزيرة بشكل تام في تشرين الثاني/ نوفمبر 1970، وخشيت بريطانيا من أن تصبح المنطقة قاعدة لـ “تمرد محتمل”.
كان وزير خارجية من حزب المحافظين آنذاك، أليك دوغلاس هوم، يعتقد أن حوالي 70 مقاتلًا شيوعيًا من مناطق أخرى في الخليج كانوا يختبئون في مسندم ويستغلون عزلتها النسبية لتدبير مؤامرات ضد المصالح البريطانية في المنطقة.
تُظهر الملفات التي تم العثور عليها في الأرشيف الوطني البريطاني أن رئيس الأركان كان يشعر بالقلق من أن هؤلاء المنشقين يمكن أن يطلقوا العنان لـ “حملة إرهابية معادية لبريطانيا”.
كان يُعتقد أن المتمردين جزء من الجبهة الوطنية الديمقراطية لتحرير عمان والخليج العربي، وهي حركة قومية عربية يسارية يديرها عمانيون ولها خلايا في جميع أنحاء المنطقة، وكان هدفهم طرد القوى الأجنبية من الخليج.
لمنع هذه المجموعة المقاتلة من الحصول على موطئ قدم آخر، وافق رئيس الوزراء إدوارد هيث على عملية إنترادون، وهي خطة معقدة للسيطرة الكاملة على مسندم بالقوة. اشتملت العملية على نشر سرب من قوات الخدمات الجوية الخاصة البريطانية، المعروفة بـ (SAS)، باستخدام المظلات والمروحيات وعبر البحر بمساعدة من خدمة القوارب الخاصة وسلاح الجو الملكي.
قامت بريطانيا بغزو مسندم، وقتلت وأسرت عددا من المقاومين، وضمت المنطقة لدولة عمان التي لا تشترك معها في حدود برية. وكانت بريطانيا قد خططت في حال كشف وسائل الإعلام عن تفاصيل العملية في مسندم، للقول بأنها مهمة إنسانية لتحسين “رفاهية سكانها الذين تم إهمال احتياجاتهم في الماضي”.
قبل العملية، لم يكن لبريطانيا ولا حاكم عمان الذي تم تنصيبه حديثًا، السلطان قابوس، حضور قوي في مسندم. اعترف المسؤولون البريطانيون بذلك، مشيرين إلى أن شبه الجزيرة كانت “منطقة غير خاضعة للإدارة بالكامل”، وشهدت “سنوات من الإهمال”.
اعترف السير ستيوارت كروفورد، الدبلوماسي الكبير السابق في وزارة الخارجية: “في الوقت الحالي لا توجد سيطرة إدارية في هذه المنطقة، والممثل الوحيد للسلطان هو الوالي [الوصي] في خصب [ميناء في شمال مسندم]”. وأضاف: “سكان شبه الجزيرة مستاؤون من أي نوع من السلطة ومعادون للأجانب”.
وأشار قائد القوات البريطانية في الخليج آنذاك، المارشال كريستوفر جيبس، إلى أنه تجنيد أحد رجاله في المنطقة، وقد كان محظوظًا للغاية بالخروج على قيد الحياة، حيث أنقذه شيخ منطقة بخا.
كان شيخ بخا هو زعيم قبيلة الشحوح في مسندم، والذين لم يحكمهم أي طرف خارجي منذ سنوات طويلة، وفقًا لدوغلاس هوم. لاحظ المخططون العسكريون أن القبيلة ترفع علمها وتتحدث “لهجة عربية تكاد تكون لغة خاصة بها”.
لم تكن هناك شرطة في مسندم، وقد أكدت القوات البريطانية في الخليج أن قبيلة الشحوح كانت “معارضة للسلطة بشكل مقلق ولم تتعرض في الذاكرة الحديثة لأي نوع منها”. في برقية أخرى، وصف مسؤولون بريطانيون الشحوح بأنه “من المعروف على نطاق واسع أنهم مستقلون”.
تجاوز الأمم المتحدة
كان اختيار توقيت الغزو مهما للغاية. كان من المقرر أن تبدأ عملية إنترادون في وقت متأخر من سنة 1970 ، لتقليل حجم “رد الفعل السلبي” في الجمعية العامة للأمم المتحدة التي تنتهي أشغالها في منتصف كانون الأول/ ديسمبر.
أما التأخير إلى ما بعد هذا التاريخ، فقد كان من شأنه أن يحبط فرص “الدول العربية المتطرفة” – مثل مصر أو العراق أو جنوب اليمن – لـ”إثارة أكبر قدر من الجلبة” وإقناع مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بإرسال مراقبين إلى مسندم.
سنة 1967، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارًا يوجه اللوم إلى المملكة المتحدة بسبب “تنصيب وتعزيز أنظمة لا تمثل الجميع” في عمان “دون اعتبار للحقوق الأساسية للشعب”.
كان من الواضح أن عملية “إنترادون” – أي الضم الفعلي لمسندم – تتعارض مع قرار الأمم المتحدة، وقد قررت الحكومة البريطانية عدم دعوة أي صحفي بريطاني لمراقبة المهمة، مشيرة إلى أنه “لا ينبغي أن نشجعهم” على القيام بذلك.
كان مصدر الخطر الوحيد الذي واجهته القوات البريطانية هو الطريقة المعقدة التي اعتمدوها لاقتحام المنطقة. حاول العريف بول ريدي القفز بالمظلة من ارتفاع 11000 قدم، لكنها لم تُفتح بشكل صحيح، وتوفي على الفور في 22 كانون الأول/ ديسمبر 1970.
كتب باري ديفيز، وهو جندي من القوات الخاصة الأمريكية شارك في عملية “إنترادون”، في مذكراته أن العملية كانت ضرورية “لوقف تحول سياسي كبير في المنطقة” و”حماية مضيق هرمز، الذي يمر عبره نصف نفط العالم”. (انخفضت هذه النسبة بشكل طفيف منذ سنة 1970، لكنها لا تزال كبيرة).
عندما انطلقت العملية في 17 كانون الأول/ ديسمبر، هبطت قوات الخدمات الجوية الخاصة في المكان الخطأ. يتذكر ديفيز أنه “لم يكن هناك أكثر من ستة قرى على طول هذا الساحل المعادي، لكننا اخترنا القرية الخطأ”، مضيفًا أن قوات “ساس” فشلت في العثور على أي خلايا شيوعية أجنبية في مسندم.
لكن البريطانيين وجدوا قادة محليين رفضوا إنزال علمهم القبلي، قبل أن يهددهم الغزاة بحرق إحدى أكبر مدنهم، مدينة بخا.
في الواقع، كان مصدر الخطر الوحيد الذي واجهته القوات البريطانية هو الطريقة المعقدة التي اعتمدوها لاقتحام المنطقة. حاول العريف بول ريدي القفز بالمظلة من ارتفاع 11000 قدم، لكنها لم تُفتح بشكل صحيح، وتوفي على الفور في 22 كانون الأول/ ديسمبر 1970.
ومن بين أبناء قبيلة الشحوح، أصيب مدني واحد خلال المرحلة الأولى من العملية، وهو سلطان سيف القيطف الشحي. وقال مصدر محلي لموقع “ديكلاسيفايد” إن الجنود البريطانيين دخلوا منزل الرجل وأطلقوا عليه النار أربع مرات في رقبته وساقه وظهره، مضيفا أن السبب هو أن الرجل رفض تسليم خنجره التقليدي. رغم من أن هذا الحادث كان مروعًا، إلا أن ما حدث لقبيلة الشحوح لاحقا كان أسوأ بكثير.
ظروف مأساوية
كجزء من خطة الغزو، أكد وزير الخارجية دوغلاس هوم أن “فريقا صغيرا من المحققين سيكون مطلوبًا”. كان فريق الاستجواب الذي أُطلق عليه “وحدة التحكم رقم 1″، يتمركز في البداية في الشارقة، قريبا من دبي، فيما يُعرف اليوم بدولة الإمارات العربية المتحدة.
كان “الرائد هـ. سلون” يقود فريق المحققين، ولم يرد اسمه الأول في البرقيات التي رفعت عنها السرية، لكن السجلات تُظهر أن فيلق استخبارات الجيش البريطاني كان في صفوفه آنذاك الرائد هنري ماكلارين سلون، ويبدو أنه الشخص المقصود.
نصت أوامر الفريق على خضوع السجناء لـ”فحص طبي والتأكد من أهليتهم للاستجواب”، على أن يتم فحصهم مرة أخرى عند الخروج، والاحتفاظ بسجلات كلا الاختبارين.
بحلول 19 كانون الأول/ ديسمبر 1970، أي بعد يومين من انطلاق عملية إنترادون، لم يتم القبض على أي شخص حتى يتمكن الفريق من استجوابه. كان الفريق يفكر بالعودة إلى المملكة المتحدة، عندما طلب القائد البريطاني في جيش السلطان قابوس، العقيد هيو أولدهام، من الفريق الانتقال إلى العاصمة العمانية مسقط.
أكد العقيد أنه تم اكتشاف معلومات استخبارية جديدة حول”نشاط تخريبي” في عمان، وهي معلومات “يمكن أن تقدم أدلة مفيدة للفريق”. جاءت المعلومات الاستخباراتية من نزوى، وهي مدينة في وسط البلاد، كانت قد شهدت في تلك الفترة اعتقال عدد من أعضاء الجبهة الوطنية الديمقراطية لتحرير عمان والخليج العربي.
استقبل فريق الاستجواب البريطاني بمسقط في كانون الثاني/ يناير 1971 أول أربعة معتقلين، ولا تزال هوياتهم وانتماءاتهم السياسية غير مؤكدة حتى الآن.
تم استجواب الرباعي حوالي 59 ساعة، في جلسات امتدت 7 أيام. تمت تغطية رؤوسهم لمدة 30 ساعة في المتوسط، بينها 15 ساعة تعرضوا خلالها لأصوات من مولدات عالية بلا انقطاع.
تم اعتماد أساليب التعذيب بالصوت وتغطية الرأس “فقط قبل جلسات الاستجواب أو أثناء فترات الراحة”. وبعيدا عن أوقات الاستجواب، احتُجز الرجال في “ظروف مأساوية” داخل الزنازين سيئة السمعة في بيت الفلج، وهو منشأة عسكرية بالقرب من مسقط.
توقفت الاستجوابات مؤقتا بعد احتجاز الأشخاص الأربعة، قبل أن تُستأنف ما بين أيار/ مايو وحزيران/ يونيو 1971، عندما تم استجواب 31 شخصًا آخر على امتداد خمسة أسابيع. ومرة أخرى، فإن هوية هؤلاء المعتقلين غير واضحة من خلال السجلات الأرشيفية المتاحة، بخلاف أنهم “أمضوا حوالي 30 يومًا في السجن” في عهد السلطان.
زود باحث من مسندم موقع “ديكلاسيفايد” بأسماء عشرة أفراد من قبيلة الشحوح يُعتقد أنهم من بين المعتقلين الذين عذبهم البريطانيون سنة 1971، ومنهم الرجل الذي أصيب بطلقات نارية أثناء الغزو.
ننشر فيما يلي أسماءهم لأول مرة باللغة الإنجليزية:
– علي محمد عليوه الشحي
– سليمان محمد عليوه الشحي
– مرشد محمد الشحي
– علي محمد الشحي
– راشد علي محمد المحبوبي الشحي
– أحمد محمد علي المحبوبي الشحي
– سعيد العقيدة الشحي
– علي محمد سليمان الشحي
– سلطان سيف القيطف الشحي
– محمد زيد الشحي
تُظهر الوثائق الأخرى أنه من بين هذه المجموعة المكونة من 31 معتقلاً، تم استجواب 27 معتقلا من قبل الوحدة البريطانية لمدة ثماني ساعات ونصف في المتوسط، بينما خضع الأربعة الباقون لمعاملة أقسى، حيث تراوحت استجواباتهم بين 32 ساعة وثلاثة أيام ونصف.
ورغم أن بعض القوات البريطانية قد تعرضت طوعًا لظروف مماثلة في الدورات العسكرية، إلا أن أقصى فترة استجواب تدريبي لم تكن تتجاوز ثماني ساعات.
في عمان، كانت عمليات الاستجواب قاسية للغاية. المعتقل الذي تم استجوابه لمدة 32 ساعة توقفت جلسته لأنه تم اعتباره “متخلفا عقليا لدرجة أنه لا جدوى من استجوابه مرة أخرى”. خضع الثلاثة الآخرون لجلسات استمرت 49 و53 و84 ساعة، باعتبار أنهم كانوا “أكثر صمودا”.
توضح إحدى الوثائق أن أساليب “تغطية الرأس والوقوف على الحائط والضوضاء… تم استخدامها في كل مناسبة لضمان العزلة الكاملة… وفرض درجة من الانضباط التي ساعدت على خلق بيئة عمل مناسبة”.
وقد علم “ديكلاسيفايد” أن الرجال العشرة كانوا يعتقدون أنه يتم استجوابهم في الشارقة أو أبو ظبي، في حين تشير الوثائق أنه تم استجوابهم في مسقط. كان من الصعب عليهم في ظل تغطية رؤوسهم وعزلهم “عزلة تامة” أن يعرفوا على وجه التحديد مكان احتجازهم.
طرق التعذيب
ربما لم تكن جلسات الاستجواب الماراثونية في عُمان لتظهر أبدًا لو لم يتم استخدام أساليب مماثلة في أيرلندا الشمالية بعد شهرين من تلك الجلسات.
في آب/ أغسطس 1971، أطلق الجيش البريطاني عملية ديميتريوس. تم القبض على مئات الأشخاص وسجنهم دون محاكمة للاشتباه في أنهم يدعمون الجيش الجمهوري الأيرلندي، وهو جماعة مسلحة تقاتل لإنهاء السيطرة البريطانية على أيرلندا الشمالية.
من بين المعتقلين، تم اختيار 14 شخصا لـ”استجواب معمّق”، وتم نقلهم إلى مكان سري، وخضعوا لما أصبح يُعرف بالتقنيات الخمس.
تم تغطية رؤوسهم وإجبارهم على الوقوف مقابل الحائط لساعات في أوضاع مؤلمة، مثلما حدث في عمان قبل ذلك بأسابيع. كان البريطانيون يجبرون أي معتقل يفشل في البقاء في ذلك الوضع على أن يبدأ من جديد. تم استخدام الضوضاء البيضاء لإنهاك حواسهم ، وحُرموا من الطعام والماء والنوم لإضعاف مقاومتهم.
تم تصميم أساليب الاستجواب الخمس بعناية حتى لا تترك أي أثر واضح، لكنها كانت مؤلمة للغاية، لدرجة أن شعر المحتجز شون ماكينا، وهو ناظر مدرسة يبلغ من العمر 42 عامًا، تحوّل من الأسود إلى الأبيض، ومات ماكينا بعد أربع سنوات من اعتقاله بنوبة قلبية.
عندما كشفت التقارير عن الاستجوابات في وقت لاحق سنة 1971، عمّت حالة من الغضب في البرلمان البريطاني لدرجة أن حكومة المحافظين اضطرت إلى فتح تحقيق برئاسة كبير قضاة إنجلترا، اللورد باركر.
وجد التحقيق أن أساليب الاستجواب لم تكن قانونية بموجب القوانين المحلية. وفي الكواليس، ذهب عدد من الوزراء إلى أبعد من ذلك، حيث وصفت ميرلين ريس، وزيرة إيرلندا الشمالية السابقة، الأساليب الخمسة بأنها “أساليب تعذيب”.
لكن هذه الأساليب لم تُستخدم في أيرلندا الشمالية وعمان فقط. منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، استجوب البريطانيون بطرق عنيفة النشطاء المناهضين للاستعمار في عدة دول، من كينيا سنة 1956 إلى اليمن سنة 1967.
تم الاحتفاظ بالأشرطة الصوتية لاستجوابات عمان من قبل فريق الاستجوابات بالجيش البريطاني حتى سنة 1977 على الأقل، عندما سألت وزارةُ الدفاع وزارةَ الخارجية إذا كان لديها أي اعتراض على التخلص من الأدلة.
كان جهاز المخابرات البريطانية -الذي درّب الجنود على تلك الأساليب- مستعدا لكشف تلك الحقائق خلال تحقيق باركر، لكن قائد الجهاز أخذ الأمور في منحى واحد قائلا: “عُمان حالة خاصة لا ينبغي تعميمها”.
في ملاحظة مكتوبة بخط اليد، علق مسؤول بريطاني بأن “إجمالي أوقات الاستجواب في أيرلندا الشمالية يمكن مقارنتها [مع عُمان] – أربع حالات فقط من أصل 14 تجاوزت 20 ساعة”.
كان أطول استخدام لأساليب الاستجواب مع أي محتجز في أيرلندا الشمالية كان حوالي 56 ساعة، مقارنة بـ 84 ساعة كحد أقصى في استجوابات عمان.
كان كبار المسؤولين في المملكة المتحدة يدركون جيدًا أن القوات البريطانية قد أخضعت المعتقلين في عمان لجلسات تعذيب أقسى من السجناء الأيرلنديين قبل شهرين فقط من عملية ديميتريوس، لكنهم كانوا يأملون في إخفاء الأمر عن تحقيق باركر.
قررت وزارة الدفاع أنه “لا ينبغي اتخاذ أي خطوات للإشارة إلى استجوابات عمان كدليل إلى لجنة [باركر]”، ولم يكن الجيش مستعدًا للإفصاح عما حدث في مسقط إلا “إذا أُثيرت هذه القضية على وجه التحديد”.
لم يذكر تقرير باركر النهائي عُمان بشكل صريح، لكنه أشار إلى استخدام “بعض أو جميع” الأساليب الخمسة في “الخليج الفارسي” بين عامي 1970 و1971.
عندما طلب النائب المعارض أليكس ليون مزيدًا من المعلومات حول مكان وتاريخ تلك الاستجوابات، لم يرد ذكر عمان في رد الوزارة، مما أدى إلى تضليل البرلمان.
ذهبت التغطية على تلك الأحداث إلى أبعد من ذلك، حيث تم الاحتفاظ بالأشرطة الصوتية لاستجوابات عمان من قبل فريق الاستجوابات بالجيش البريطاني حتى سنة 1977 على الأقل، عندما سألت وزارةُ الدفاع وزارةَ الخارجية إذا كان لديها أي اعتراض على التخلص من الأدلة.
العودة إلى مسندم
بينما تم احتجاز بعض أفراد قبيلة الشحوح واستجوابهم، حاول الباقون في مسندم (دون جدوى) الصمود أثناء المفاوضات مع الغزاة البريطانيين.
في حزيران/ يونيو 1971، أثناء عمليات الاستجواب والتعذيب، أكد خمسون من أفراد قبيلة الشحوح لضابط مخابرات في الجيش البريطاني أن القبيلة “أجمعت على معارضة الخضوع لحكم السلطنة”.
خلص الضابط إلى أن القبيلة لا تزال بحاجة إلى “مزيد من الإقناع، وليس الإجبار على الخضوع”. مع ذلك، لم تكن القوة العسكرية بعيدة عن مسندم، حيث استمرت قوات الخدمات الجوية الخاصة في القيام بدوريات حتى سنة 1971.
عندما قام الشحوح ببعض المناوشات في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر، وفتحوا النار على قوة درك عمانية في سيارة لاند روفر، تم إرسال 30 جنديا بريطانيا في غضون ساعة ونصف الساعة. استمر القتال بالأسلحة النارية لعدة أيام، واستخدمت بريطانيا قذائف الهاون لقمع الشحوح.
وتشير ملفات وزارة الدفاع إلى إصابة اثنين من أفراد القبيلة، فيما قال مصدر محلي لموقع “ديكلاسيفايد” إن ثلاثة رجال قتلوا في تلك الأحداث، وهم أحمد عبد الله العصامي الشحي، وأحمد سعيد سلطان العصامي الشحي، وعلي أحمد شمس الشحي.
رغم ذلك، فإن المعارك الرئيسية ضد السلطان قابوس وحلفائه البريطانيين في تلك الفترة لم تحدث في شبه جزيرة مسندم، لكن في ظفار، وهي منطقة جبلية أخرى ذات نزعة انفصالية في الجانب الآخر من عمان.
استمرت القوات البريطانية والمرتزقة في قتال الظفاريين لعدة سنوات، لكن سفير المملكة المتحدة في مسقط أوضح سنة 1980 أن مسندم “بسبب موقعها من مضيق هرمز النفطي المهم، هي مور معركة ظفار”.
حاليا، تعتبر مسندم منطقة محظورة على الزوار، ما لم يكن لديهم تصريح أمني. سنة 2019 ، زار الأمير وليام شبه الجزيرة، وأُجريت تدريبات عسكرية بريطانية وسط مخاوف من أن تكون المنطقة بؤرة توتر إذا حاولت إيران إغلاق مضيق هرمز.
يُعتقد أنه بسبب الموقع الاستراتيجي، قامت مكاتب الاتصالات الحكومية البريطانية ببناء محطة مراقبة في مكان ما في مسندم، لاعتراض الاتصالات من جميع أنحاء الخليج. سمح السلطان قابوس لشركة يديرها ضابط سابق في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية بتشييد جزء كبير من البنية التحتية في شبه الجزيرة.
يشتكي سكان مسندم من استمرار السلطات العمانية في التعدي على أراضيهم وهدم منازلهم، لكنهم يواجهون عقوبات قاسية بسبب التعبير علنا عن رفض سياسات الدولة.
عندما شارك ستة من أفراد قبيلة الشحوح رسائل احتجاج على واتساب واتصلوا بمنظمة العفو الدولية، تم اعتقالهم على الفور، وحُكم عليهم سنة 2018 بالسجن مدى الحياة.
ورغم الاشتباه بأن دولة الإمارات المجاورة تعمل على إثارة المشاعر الانفصالية في مسندم، إلا أنها تعاونت مع عُمان في اعتقال أفراد قبيلة الشحوح الستة.
تم العفو عن المحكومين الستة بعد حملة ضغط شنها نواب بريطانيون، وأكد سفير عمان في لندن بشكل غير مقنع أنه “لا يوجد تمييز ضد أفراد قبيلة الشحوح”.
لا يعدّ ضم مسندم إلى سلطنة عمان الإرث الوحيد لعملية إنترادون. بعد اندلاع ثورات الربيع العربي سنة 2011، ظهرت تقارير جديدة عن عمليات تعذيب مألوفة بشكل لافت للنظر.
أقرت حكومة بوريس جونسون هذه السنة قانونا جديدا سيجعل من الصعب على الشحوح المطالبة بحقوقهم، حيث وضع قانون العمليات الخارجية حدًا زمنيًا لمطالب التعويض ضد وزارة الدفاع، بست سنوات من تاريخ وقوع الحادث. هذا القانون يمنح الجيش البريطاني حصانة ضد الانتهاكات التي ارتكبها في الخارج، مثلما حدث في عملية إنترادون.
اتهم مركز الخليج لحقوق الإنسان قوات الأمن العمانية باستخدام “تغطية الرأس، والإخضاع للموسيقى الصاخبة 24 ساعة في اليوم، والحرمان من النوم، والتعرض لدرجات حرارة قصوى” أثناء استجواب المعتقلين.
وفيما تواصل السلطات العمانية استخدام هذه الأساليب، فإنها عادت إلى دائرة الضوء في أيرلندا الشمالية خلال السنوات الأخيرة. وقد أحالت ماري ماكينا، التي توفي والدها شون بعد استجوابه مطلع سبعينيات القرن الماضي، القضية إلى المحكمة العليا في المملكة المتحدة.
في غضون ذلك، حصل سكان شاغوس على تعويضات من وزارة الخارجية بسبب تهجيرهم، بينما قضت محكمة العدل الدولية سنة 2019 بأن الجزر ليست ملكًا لبريطانيا. تجاهلت حكومة المملكة المتحدة الحكم، لكن الأمم المتحدة والرأي العام العالمي يقفان بحزم إلى جانب سكان شاغوس.
في المقابل، مازال وضع قبيلة الشحوح غامضا. أقرت حكومة بوريس جونسون هذه السنة قانونا جديدا سيجعل من الصعب على الشحوح المطالبة بحقوقهم، حيث وضع قانون العمليات الخارجية حدًا زمنيًا لمطالب التعويض ضد وزارة الدفاع، بست سنوات من تاريخ وقوع الحادث. هذا القانون يمنح الجيش البريطاني حصانة ضد الانتهاكات التي ارتكبها في الخارج، مثلما حدث في عملية إنترادون.
لم ترد وزارة الدفاع البريطانية على طلب الموقع للتعليق على ما جاء في هذه الوثائق.
المصدر: ديكلاسيفايد يو كي