ترجمة حفصة جودة
لعدة سنوات، اعتاد إياد شلوف – مزارع يملك قطعة أرض قرب شاطئ غزة – ملء الخزانات بالمياه النقية ليستخدمها الناس في حيه، واليوم يستطيع إياد بالكاد أن يشتري مياهًا لري محاصيله.
مع تفاقم مشكلة المياه في غزة، يواجه المزارعون – خاصة في المنطقة الغربية بالقطاع المُحاصر – وطأة أزمة تلوث المياه بسبب قرب أراضيهم من مياه البحر الملوثة، وبدلًا من استخدام مياه الآبار للري، فإنهم يشترون المياه عدة مرات في الشهر لتجنب الإضرار بالمحاصيل.
يقول شلوف – 45 عامًا – من رفح جنوب غزة: “هنا في منطقة المواسّي – المحاذية للبحر – نتحمل معاناة لا يعلمها إلا الله، فمحاصيلنا تتعرض للضرر نتيجة المياه المالحة الملوثة، لذا نتجنب الآن استخدام طرق الري التقليدية ونشتري المياه بدلًا من ذلك لري المحاصيل”.
“أمتلك بالفعل بئر مياه كانت لتوفر لي الكثير من النقود إذا استخدمتها للري، لكن ارتفاع تركيز الكلور في المياه ومستويات الملوحة جعلت البئر بلا فائدة، لا يمكننا استخدامها حتى للاستحمام لأن المياه تضر ببشرتنا”.
يقول شلوف إنه حاول زراعة أنواع مختلفة من المحاصيل في الماضي، لكن الأمر ينتهي دائمًا بالتعرض لخسارة كبيرة بسبب الضرر الذي تسببه جودة المياه المنخفضة.
تدهور جودة المياه
تسبب الحصار الإسرائيلي طويل المدى في تدهور خطير بجودة المياه بغزة، ما جعل 97% من المياه ملوثة وفقًا للمرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان في جنيف (منظمة غير حكومية)، يتعقد الموقف نتيجة أزمة الكهرباء الحادة التي تعيق محطات تشغيل آبار المياه ومعالجة الصرف الصحي، ما يتسبب في صرف 80% من مياه الصرف الصحي في غزة غير المعالجة في البحر، بينما تتسرب الـ20% الباقية إلى المياه الجوفية.
أضافت المنظمة أن البيانات الحديثة تبين أن ربع الأمراض المنتشرة في غزة سببها تلوث المياه، و12% من حالات وفاة الأطفال والرضع مرتبطة بأمراض معوية لها علاقة بالمياه الملوثة.
قال محمد شحادة رئيس البرامج والاتصال في المرصد في بيان ألقاه في الدورة 48 لمجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان أول الشهر: “يضطر السكان المدنيون المحاصرون في الأحياء السامة منذ مولدهم وحتى وفاتهم إلى مشاهدة التسمم البطيء لأطفالهم وأحبابهم بسبب المياه التي يشربونها والتربة التي يزرعونها إلى ما لا نهاية ودون أي تغيير يلوح في الأفق”.
نتيجة تلوث المياه، يضطر المزارعون وأصحاب الأراضي في معظم المنطقة الساحلية لدفع شيكلين (نحو 0.60 دولار) لكل خزان سعته ألف لتر من أجل الزراعة.
تحولت مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية إلى مناطق سكنية بسبب نقص المياه
يقول شلوف: “نستخدم كمية كبيرة من المياه لري المحاصيل، هذا الخزان ذو الألف لتر يُعدّ لا شيء، إذا كنا سندفع شيكلين لكل خزان فإن العملية بأكملها تصبح في بعض الأحيان غير مجدية”.
ينفق شلوف نحو ألف دولار شهريًا لشراء المياه وملء أحواض المياه الاصطناعية في أرضه من أجل الري، في بعض الأحيان تسبب التكلفة الباهظة للمياه والأسمدة إضافة إلى نقص الوقود والكهرباء المستخدمين لضخ المياه، في خسائرة ضخمة للمزارعين.
“اليوم، قررنا كمزارعين أن نزرع أنواعًا معينة من المحاصيل مرتبطة تمامًا بمدى توافر المياه، فعلى سبيل المثال لن ترى المزارعين يزرعون الخيار أو الفراولة في تلك المناطق لأن هذه المحاصيل تحتاج إلى كمية ضخمة من المياه النقية، لكننا نزرع بدلًا من ذلك الفلفل الأخضر ومحاصيل أخرى لا تحتاج كل هذا الكم من المياه”.
في المنطقة التي تقع بها مزرعة شلوف، تحولت مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية إلى مناطق سكنية بسبب نقص المياه، يقول شلوف: “يعتقد الكثير من المزارعين أن الأمر لا يستحق الاستمرار في زراعة المحاصيل التي ستفسد في النهاية بسبب المياه الملوثة أو نقص المياه النقية، لذا قرروا بيع أراضيهم أو بناء منازل وشقق سكنية عليها”.
غير صالحة للاستهلاك البشري
ازدادت أزمة المياه سوءًا منذ بداية الحصار الإسرائيلي ووصلت ذروتها عام 2020، ففي عام 2020 قدرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة “اليونيسيف” أن 10% فقط من سكان القطاع المحاصر يستطيعون الحصول بشكل مباشر على مياه شرب نظيفة وآمنة، بينما يفتقر أكثر من مليون مواطن – نحو نصف السكان – إلى المياه والصرف الصحي.
أجبرت المياه مرتفعة الملوحة في عدة مناطق بالقطاع، مئات آلاف السكان على شراء المياه للشرب والاستحمام، فينما تبلغ ملوحة مياه البحر نحو 30 ألف جزء في المليون، فإن المياه المنزلية في بعض المناطق بغزة تصل إلى ثلث هذا الرقم.
هذا الرقم يعادل 10 غرام من الملح لكل لتر من المياه، وهي نسبة مرتفعة للغاية وفقًا لما يقوله أحمد صافي الخبير الفلسطيني في علوم المياه والبيئة، يقول صافي: “تلوثت الكثير من مياه غزة ومن بينها مياه الشرب بالنترات إضافة إلى الملح ومستويات عالية من الكلور الذي يسبب أمراضًا عديدة للسكان، في بعض المناطق لا تستطيع أن تستخدم هذه المياه حتى للاستحمام”.
“السبب الرئيسي لأزمة المياه في غزة استخدام المياه الجوفية بشكل مبالغ فيه نظرًا للزيادة السكانية نتيجة عدة عوامل أولها تدفق مئات آلاف اللاجئين في أثناء النكبة الفلسطينية عام 1948”.
يعيش أكثر من 2.1 مليون شخص في هذا القطاع الساحلي على مساحة 360 كيلومترًا مربعًا، ما يجعل القطاع واحدًا من المناطق ذات الكثافة السكانية العالية على وجه الأرض، 70% من هؤلاء السكان لاجئون هُجّروا من مدنهم وقراهم في مناطق أخرى من الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1948.
يقول صافي: “تعد معالجة مياه الصرف مشكلة معقدة أخرى، فلعدة سنوات اعتمد نظام الصرف الصحي على حفر في الأرض تجمع مياه الصرف التي تتسرب في النهاية إلى المياه الجوفية وتلوثها بالنترات، ما زال هذا النظام مستخدمًا في بعض الأماكن حتى الآن”.
نتيجة لذلك هناك زيادة بنسبة 13-14% في أعداد مرضى الفشل الكلوي كل عام في القطاع وفقًا للدكتور أحمد القيشاوي رئيس قسم الغسيل الكلوي في مستشفى الشفاء بغزة.
يقول الدكتور أحمد: “لدينا الآن ألف مريض يأتون لقسم الغسيل الكلوي 3 مرات أسبوعيًا، من بين هذه الحالات هناك 20% على الأقل مرضى نتيجة تلوث المياه، هنا في قسم غسيل الكلى ستلاحظ أن معظم المرضى يأتون من مناطق متاخمة للحدود حيث لا تزال أزمة المياه في ذروتها”.
قال القيشاوي إنه رغم عدم وجود دراسات متخصصة في غزة تعالج العلاقة بين ارتفاع عدد حالات الفشل الكلوى وتلوث المياه، فإن الأطباء يفترضون أن المياه الملوثة هي السبب في مشاكل الكلى.
وأضاف “عادة ما يحدث الفشل الكلوي نتيجة أمراض أخرى مثل السكري وارتفاع ضغط الدم وحصوات الكلى، ومع ذلك فإن عددًا كبيرًا من المرضى المشخصين بالفشل الكلوي في غزة لا يعانون من أي من هذه الأمراض، ما يشير إلى أن السبب في ذلك تلك المياه غير الصالحة للاستهلاك البشري”.
انقطاع الكهرباء
ما زالت إمدادات الكهرباء في غزة معتمدة على الوضع السياسي، ففي أثناء التوترات بين الإسرائيليين والمقاومة الفلسطينية، تقوم السلطات الإسرائيلية عادة بتعليق شحنات الوقود وإغلاق معبر كرم سالم بين غزة و”إسرائيل”، ما يجبر محطة توليد الكهرباء الوحيدة على الإغلاق.
بسبب نقص الوقود، فإن محطات المعالجة التي تعالج مياه الصرف الصحي تعمل بطاقة أقل مما يضطر سلطة المياه إلى التخلص من مياه الصرف الصحي الملوثة والمعالجة جزئيًا في البحر
في أفضل الأحوال يحصل سكان غزة على الكهرباء بالتناوب لمدة 8 ساعات، حيث يحصلون على الكهرباء لمدة 8 ساعات يليها 8 ساعات من انقطاع التيار، في أثناء تلك الساعات الطويلة من قطع التيار يتأثر تشغيل البنية التحتية للقطاع بشدة، كما أن المولدات التي تضخ المياه النظيفة من الآبار للمنازل تتوقف عن العمل، ما يتسبب في قطع موارد المياه عن نسبة كبير من السكان المحليين.
تقول أريج محمد – 29 عامًا ، وأم من غرب غزة -: “يعتمد جدولنا اليومي على توافر المياه والكهرباء، عندما توجد الكهرباء فهذا يعني أن هناك مياهًا للاستحمام والطبخ وغسيل الأطباق والتنظيف والشرب، عندما تنقطع الكهرباء عدة ساعات تتوقف حياتنا ببساطة”.
“عندما تنقطع المياه والكهرباء نجلس هنا فقط ننتظر عودتهما، لقد أعدنا جدولة كل مهامنا وأعمالنا اليومية وفقًا لجدول المياه والكهرباء”.
كشف تقرير ميداني للظروف الصحية في الأراضي الفلسطينية المحتلة نشرته منظمة الصحة العالمية في 2016، أن أكثر من ربع الأمراض في غزة مرتبطة بتلوث المياه، وهي السبب الرئيسي أيضًا في أمراض الأطفال.
في 2017 موّل الاتحاد الأوروبي واليونسيف محطة تحلية مياه البحر في غزة بمبلغ 10 ملايين يورو لتحسين وصول مياه الشرب لآلاف السكان، لكن مع استمرار أزمة الطاقة لا تستطيع المحطة العمل بكامل طاقتها.
ومع ذلك، بسبب نقص الوقود، فإن محطات المعالجة التي تعالج مياه الصرف الصحي تعمل بطاقة أقل، ما يضطر سلطة المياه إلى التخلص من مياه الصرف الصحي الملوثة والمعالجة جزئيًا في البحر.
بنية تحتية مدمرة
في هجمات الجيش الإسرائيلي المتتابعة على قطاع غزة منذ 2008، استهدفت القوات الإسرائيلية البنية التحتية للمياه والصرف والصحة “WASH” عدة مرات، من بينها مناطق تحتوي على آبار مياه وخطوط أنابيب ومنشآت للصرف الصحي بالإضافة إلى مباني البلدية التي تدير خدمات الصرف الصحي.
في هجومها الأخير في مايو/أيار، شنت “إسرائيل” عملية عسكرية مدتها 11 يومًا على غزة استهدفت بشكل مباشر البنية التحتية المدنية الحيوية وتسببت في أضرار طويلة المدى.
كشف تقييم سريع للأضرار والاحتياجات أجراه البنك الدولي بعد الهجوم، أن القطاع تعرض إلى أضرار مادية قيمتها 380 مليون دولار وخسائر في الاقتصاد قيمتها 190 مليون دولار، ما يؤثر بشكل مباشر على حقوق السكان في الوصول إلى مياه نظيفة.
قبل الهجوم في مايو/أيار، كان متوسط الاستهلاك اليومي للمياه في قطاع غزة للفرد نحو 88 لترًا وهو رقم متوسط بين توصيات منظمة الصحة العالمية بحاجة الفرد ما بين 50 إلى 100 لتر في اليوم لتلبية الاحتياجات الأساسية والحد من المشكلات الصحية.
بعد الهجوم قال تقرير لمنظمة “أوكسفام” إن 400 ألف مواطن في غزة لا يستطيعون الوصول إلى إمدادات المياه نتيجة التدمير الشديد في البنية التحتية، واليوم يضطر مئات آلاف السكان في غزة إلى شراء المياه من محطات تحلية مياه خاصة.
يقول أبو سامح عمر – 40 عامًا، مواطن من وسط غزة -: “قبل عامين عانى ابني الأصغر من إسهال شديد وآلام في البطن واتضح أن ذلك نتيجة تناول مياه الصنبور المنزلي، منذ ذلك اليوم بدأت شراء المياه من الشاحنات”.
“عادة ما نتمكن من تحمل شراء الحد الأدنى من مياه الشرب كل شهر، إنها أغلى من المياه التي نحصل عليها في المنزل لكن هذا الخيار غير صالح للشرب، ما لا أستطيع تحمله هو السماح لأطفالي بتناول تلك المياه والإصابة بالمرض”.
المصدر: ميدل إيست آي