على مدى 10 سنوات، ظل المغاربة ينتظرون تحقق ذلك الوعد بتحقيق الازدهار في البلاد، لكن الحكومة السابقة بقيادة حزب العدالة والتنمية الإسلامي، طيلة ولايتَين امتدتا من عام 2011 إلى عام 2021، أظهرت عجزًا في إزالة الاختلالات الهيكلية وتحقيق القفزة الاقتصادية الكبرى، فعوض أن تتقلص الفوارق الاجتماعية، اتسعت الهوة إلى مستوى لا يطاق.
نتيجة لتباطؤ وتيرة النمو الاقتصادي وتفاقم الفوارق، خيم على البلاد مناخ اتسم بأزمة ثقة، بحسب ما ورد في تقرير النموذج التنموي الجديد، فإن “الإصلاحات المعلن عنها من أعلى مستوى في الدولة، تعاني من بطء في التنزيل، ما يفضي إلى نتائج ليست في مستوى التطلعات، ويثير تساؤلات المغاربة عنها ويسهم في أضعاف الثقة” يقول التقرير الذي أصدرته لجنة خاصة، بإيعاز من العاهل المغربي محمد السادس، وجرى إعداده على مدى طويل، استنادًا إلى جلسات الإنصات للناس في مختلف المناطق، وخاصة المعزولة والمهمشة.
المناخ ثابت رئيسي
خلال العام الاستثنائي 2020، صارع الاقتصاد المغربي الصمود أمام جائحة كورونا، وفضلت المملكة الحفاظ على صحة مواطنيها، مجازفة باقتصادها الذي انكمش بنسبة 6.3%، بعدما تضررت العديد من القطاعات بالأزمة الخانقة، إلا أن البلد كان متفائلًا خيرًا بالسنة الحاليّة، استنادًا إلى عوامل عديدة على رأسها ظهور لقاحات ضد كوفيد-19، وتسجيل موسم زراعي جيد بفضل الظروف المناخية المواتية.
وما زال الوضع الاقتصادي في المغرب بعيدًا عن المبتغى، ما دام مرتبطًا بالتساقطات المطرية وغيرها من العوامل المناخية، التي تعتبر أحد الثوابت الرئيسية في بلد تساهم فيه الفلاحة بمتوسط يتراوح بين 12 و14% في الناتج الداخلي الإجمالي، وقد نزل إلى 11% وصعد إلى 17% وفقًا للتقلبات المناخية.
يبدو للوهلة الأولى كم هذه النسبة متواضعة، لكل كيف للقطاع الفلاحي أن يؤثر بهذه القوة على معدل النمو؟ يجيب الخبير الاقتصادي نجيب أقصبي قائلًا: “للفلاحة مُدخلات ومُخرجات في قطاعات أخرى، مثل الأسمدة والبذور والمكننة، إلخ.. أضف إلى ذلك الصناعات التحويلية والخدمات والتجارة والنقل”. يتابع أقصبي في حديثه إلى “نون بوست”، أن كل هذه القطاعات ترتبط مباشرة بالفلاحة وتتأثر بها.
ليس هذا فقط بل هناك عامل ثانٍ، وهو أهمية السكان القرويين، يوضح الأستاذ الباحث في معهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة، قائلًا: “النشيطون في القرى ما زالوا يمثلون ما يقرب 35% من السكان، و80% منهم يعيشون على الفلاحة، فعندما يكون الموسم الفلاحي مزدهرًا، ترتفع القدرة الشرائية لهؤلاء”. يضيف أقصبي، أنه عندما يعم الكساد في الفلاحة فإنه يجر سلبًا الناتج الداخلي الخام، على اعتبار أن هذا القطاع لا يزال مهيمنًا، لكن عندما تتساقط الأمطار بغزارة وفي وقتها من الموسم، يرتفع إلى الأعلى الناتج الداخلي الفلاحي، الذي بدورها يؤثر إيجابًا على النمو الاقتصادي برمته.
المغرب إلى الآن لم يستطع الانسلاخ عن “طاغوت الأمطار”، إذ يؤكد الخبير الاقتصادي المهدي فقير لـ”نون بوست”، أنه من الصعب الحديث عن نسبة النمو بشكل مطلق، ما دام المغرب يعتمد على التساقطات، “وهذه واحدة من الاختلالات الهيكلية، التي أثبت الأداء الحكومي قصوره في تجاوزها، خلال العقد الأخير، ما استدعى مقاربة تنموية جديدة”، على حد تعبير الخبير الاقتصادي المتخصص في تقييم السياسات العمومية.
نمو ضعيف جدًا
وفقًا للإحصاءات الحكومية، فإن معدل النمو الاقتصادي بدءًا من 2010 إلى 2020، ارتفع أقصاه إلى 5% سنة 2011، وانحدر إلى 1% سنة 2016، هذا باستثناء عام الجائحة -6%.
الواضح من خلال أرقام المندوبية السامية للتخطيط (حكومية)، أن وتيرة النمو ضعيفة وتضعف وهي غير مستقرة ومتقلبة، خلال العشرية الأخيرة إذا ما أخذنا النصف الأول بين 2010 و2015، نجد أن الوتيرة الإجمالية تقترب من 4%، وفي المقابل سنجد الوتيرة هبطت إلى أقل من 1% خلال النصف الثاني، حتى لو استثنينا 2020، يبقى نفس المشكل مطروحًا، ذلك أن وتيرة النمو تقلصت إلى أقل من 3%.
يلاحظ نجيب أقصبي أن معدل النمو خلال هذه الفترة ضعيف جدًا، ليس في حد ذاته، لكن بالنسبة للطموح والبلدان المماثلة، ويضيف موضحًا “إذا أرد المغرب أن يقوم بالقفزة الاقتصادية، يجب أن يحقق نسبة نمو بين 7 و8%، خلال 15 إلى 20 سنة، حتى يصل إلى مستوى البلدان المماثلة، كتركيا وماليزيا وتشيلي”.
وفي تقدير المهدي فقير، فإن البلد يواجه تحديات الانتقال إلى التصنيع والاعتماد على القيمة المضافة غير الفلاحية، هذا فضلًا عن التحول الرقمي نحو اقتصاد المعرفة.
لا أثر للأزمات العالمية
كان العام 2006 مبشّرًا باكتساب النشاط الاقتصادي قوة دفع، بعدما حقّق نموًا استثنائيًا بـ 8.1% بفضل إنتاج فلاحي وفير فاقَ التوقعات، هذا مع إطلاق مشاريع مهيكلة كي تكون رافعة للاقتصاد الوطني، كما سجّلت الميزانية العمومية نتائج مشجِّعة، وتحسّنت النتائج المتعلقة برصيد التجارة الخارجية وسعر الصرف والمديونية على نحو طفيف.
لكن سرعان ما انكمشَ النمو في العام الموالي حيث نزل إلى 2.7% مخيّبًا بذلك التوقعات، كما تباطأ برسم العام 2008 الذي سجّل نموًا بـ 5.8%، أي أقل بنقطة ممّا كان منتظرًا، لكن الأزمة الاقتصادية العالمية آنذاك لم تجرف سلبًا الاقتصاد المغربي لسببَين رئيسيَّين، يتعلق أولهما بالإطار التنظيمي الذي يتميّز بالتقيُّد الصارم بقواعد المخاطر التي تنصّ عليها اتفاقية بازل 2.
ويتعلق ثانيهما بضعف اندماج النظام المالي الوطني في النظام المالي العالمي، حيث إن حصة الأصول الأجنبية من إجمالي البنوك المغربية لا تمثل إلا أقل من 4%، كما أن حصة غير المقيمين في رسملة بورصة المقيم بالدار البيضاء، باستثناء المشاركات الاستراتيجية، تقلُّ عن 1.8% في نهاية عام 2007.
وفي المقابل تأثّر الاقتصاد المغربي بالركود الذي عرفه الشركاء الاقتصاديون في أوروبا وخاصة فرنسا وإسبانيا، هي 4 مجالات حيوية؛ المبادلات التجارية والنشاط السياحي وتحويلات المغاربة بالخارج وتدفُّقات الاستثمار الأجنبي المباشر.
تحويلات الجالية المغربية المقيمة في الخارج تمثّل 6.5% من الناتج الداخلي الخام برسم عام 2020، حيث ارتفعت إلى 7.4 مليار دولار، لتدحض مخاوف التراجع بسبب جائحة كورونا، مقابل 6.9 مليار دولار عام 2019، وهو المبلغ نفسه عام 2018.
للبطالة نصيب أيضًا من أثر الجائحة حيث تجاوزت 12% من القوى العاملة خلال عام 2020 -بعدما استقرَّت على 10% قبله بعقد، وأقل من ذلك قليلًا في العشرية الأولى من الألفية الحالية-، وهو رقم كبير لمشكلة صعبة تؤرق البلد، إذ حاول تقليصها بخلق فرص شتّى، بدءًا من تحفيز الاستثمار الأجنبي والوطني وتأهيل العمالة، وليس انتهاءً بالتوظيف الجهوي، الذي بُغيَ منه تنمية المجال قصد تقليص الفوارق الاجتماعية.
ورشة استثمارية مفتوحة
ولا ننسى أن المغرب أضحى أرضية جاذبة للاستثمار الأجنبي المباشر، لما يوفره من حريات أساسية للمستثمرين، مثل حق تحويل الأرباح وحق تحويل المنتجات والتفويت تحت شروط معينة، هذا فضلًا عن الإصلاحات الاقتصادية والقانونية لتأمين وتسهيل إقامة المستثمرين الأجانب عن طريق التسهيلات الضريبية المشجعة.
أما على مستوى الاستثمار الوطني، فقد تحول البلد إلى ورشة مفتوحة للاستثمارات في جميع المناطق، من مشاريع تطوير الموانئ والمطارات والطرق إلى المشاريع الثقافية والسياحية، وكذا مشاريع الطاقة المتجددة التي تعد أكثر طموحًا على مستوى العالم، متبوئًا الريادة على مدى العشر سنوات الماضية في مجال الطاقات النظيفة والابتكار في القطاعات الخضراء، بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
من أجل إحداث مشاريع ذات عوائد مالية، توجهت الحكومة إلى الاقتراض الخارجي بشكل كبير، وتجدد التحذير من احتمال عودة المغرب إلى سياسة التقويم الهيكلي، التي تمتد تداعياتها لعقود، وتسلب من الدولة حريتها في التوجهات الاقتصادية، إنها واحدة من أخطر السياسات على الدول، إذ تفقدها حرية التدبير الذاتي وتجعلها خاضعة لقرارات المؤسسات المالية الدولية، التي لا تراعي، بل تُهدر الرأسمال البشري، في قطاعي الصحة والتعليم على وجه الخصوص.
يشير المهدي فقير إلى أن “هذه الديون توجه إلى الاستثمار وليس لتغطية النفقات، والعرف يقتضي أنه عندما تستثمر فإنك تربح”. يضيف فقير، أن المجلس الأعلى للحسابات (محاكم مالية حكومية) حذر من ارتفاع رقم المديونية لإنجاز استثمارات كبيرة، لكنه في نفس الوقت تساءل عن مدى نجاعة هذه الاستثمارات في رد الديون.
دوامة المديونية
إذا كانت المندوبية السامية للتخطيط تعتبر أن مستوى مديونية المغرب ما زال قابلًا للتحكم فيه، فإن الخبير الاقتصادي نجيب أقصبي، يعتقد أن الوضع حرج جدًا، موضحًا قوله: “إذا أخذنا بعين الاعتبار أرقام 2019 وأضفنا إليها مديونية 2020، أعتبر أننا لسنا بعيدين عن 100% من الناتج الداخلي الإجمالي”.
وفقًا لأرقام صندوق النقد الدولي، تراجع الناتج المحلي الإجمالي للمغرب من 119.70 مليار دولار سنة 2019 إلى 113.54 مليار دولار سنة 2020، ومن المتوقع أن يعود للنمو بشكل ملحوظ 2021 بوصوله إلى 124 مليار دولار.
إن الأبحاث الميدانية والإحصائية والتجارب المتراكمة، تحذر من تجاوز مستوى المديونية نسبة 60%، لأن ذلك يعني الوقوع في المتاعب، بينما تتسامح أبحاث أخرى وتقول بنسبة تتراوح بين 80 و90% من الناتج الداخلي الإجمالي.
يقول أقصبي: “لقد دخل البلد في دوامة المديونية، ذلك أن الحكومة تقترض سنويًا ديونًا جديدةً، ليس من أجل توجيهها نحو الاستثمار وتأدية نفقات من شأنها تحريك الاقتصاد، بل تقترض من أجل أن تدفع ما عليها من ديون سابقة”.
بين حل روبينهود وتنمية المجال
يصنف المغرب عالميًا ضمن خانة الفوارق الاجتماعية الشاسعة، إذ تبلغ الفوارق في مداخيل الأسر 46.4%، أي يفوق العتبة المسموح بها اجتماعيًا وهي 42%، ولعل الحكومة الحاليّة، بقيادة حزب التجمع الوطني للأحرار، استشعرت خطورة الوضع، ملتزمة بتخفيض معدل الفوارق إلى 39% خلال السنوات الخمسة المقبلة.
يعتقد الخبير الاقتصادي المهدي فقير أن اتساع الفوارق الاجتماعية دليل على فشل السياسيات العمومية في تنمية المناطق الهشة ومحاربة الفقر، من خلال الاستثمار وإحداث مشاريع من شأنها خلق مناصب شغل.
ولا يتفق المهدي فقير مع ما يسميه “مبدأ روبينهود” كحل سحري لتقليص هذه الفوارق، “هذا شكل من أشكال الريع المرفوض الذي يشجع على الاتكالية”، ويضيف فقير قائلًا: “ليس الحل هو أن ترفع الضرائب على الأغنياء وتعطي للفقراء، ليس من العدل أن نعطي الفقير معاونة تم انتزاعها من الغني”.
على طرف النقيض، يرى أقصبي أن “النظام الضريبي في المغرب غير عادل وغير منصف، لأن من يدفع الضرائب هم الفقراء والطبقات الوسطى”، وعلى حد تعبيره، لا وجود لضرائب تصاعدية على الدخل المرتفع، ولا ضرائب على الثروات الكبرى، على الإرث وعلى رأسمال غير المنتج.
ويشير الخبير ذاته إلى غياب إرادة سياسية للتحول إلى نظام ضريبي له مردودية، يزود الخزينة بسيولة مهمة، ويساهم من جهة أخرى في تقليص الفوارق، “النخبة لا تسمح أن نذهب في هذا الاتجاه، بل العكس هو ما يحدث”، كما يشدد نجيب أقصبي على أن البلد في حاجة إلى سياسات من شأنها ترشيد النفقات العمومية، ورفع مستوى الحد الأدنى للأجور (في حدود 300 دولار)، ثم توجيه مساعدات مباشرة للطبقات المتوسطة والفقيرة.
مشكلة المغرب الكبيرة أنه لم يستطع إلى يومنا هذا رفع وتيرة النمو، ما زال الناس يرفعون أكفهم إلى السماء استجداءً للأمطار، لأن اقتصاد البلد عجز عن تحقيق استقلاله الذاتي تجاه التقلبات المناخية.
البلدان المتطورة هي التي تقوم بدعم وتوسيع الطبقة الوسطى، بينما في المغرب يحدث العكس، حتى إنه في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، كانت الطبقة الوسطى أفضل مما عليه اليوم، وهذا يبعث على القلق من اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء.