قررت المفوضية الرضوخ مرة أخرى وأعلنت أنها ستعيد العد والفرز في 234 محطةً، وهو ما يعتبر فرصةً لتغيير أرقام القوائم، وإعطاء القوائم الممثلة للمليشيات مقاعد أكثر، لكن ذلك لا يعني شيئًا من نتيجة اكتساح التيار الصدري لها، وهو ما يقودنا للمشكلة الحقيقية: الصراع الحاليّ ليس صراع مقاعد ولا مناصب، وإنما صراع على من يقود البيت الشيعي في العراق، فما سيحصل قد حصل مسبقًا.. لن يشغل التيار الصدري منصب رئيس الوزراء مباشرة، وسيتم التوافق لاختيار شخصية قريبة من الفصائل الموالية لإيران أو برضى منها، بينما سيتم تقاسم المناصب بين البقية، لكن، إذا كان الأمر كذلك، لماذا تلوح المليشيات بالسلاح؟
الصدر لن يشغل منصب رئاسة الوزراء
لن يرشح التيار الصدري مرشحًا مباشرًا منه لفعل ذلك، حصل ذلك عام 2018، حين كانت كتلة سائرون هي الكتلة الأكبر، ورغم ذلك تركت الأمر لعادل عبد المهدي المقرب لكتلة الفتح التي لم تكن الفائزة. صحيح أن الفارق بين الكتلتين اتسع، لكن المبدأ هو نفسه، إن شغور التيار الصدري لموقع المسؤولية المباشرة والتنفيذية عن حل مشاكل العراق – أو عدم حلها – سيفقده موقعه الذي طالما لعبه: دور المعارض الممثل لمطالب الطبقة الفقيرة.
يمر البيت الشيعي بظروف حرجة أكثر، فهناك متغيرات كثيرة حصلت منذ ذلك الوقت
رغم أن الصدريين يحتلون المناصب الرئيسية والوزارات الفاعلة منذ العام 2003، فإنهم يسوقون أنفسهم كممثل للطبقة السحيقة في المجتمع، وشغل منصب رئاسة الوزراء سيفقده هذه الميزة.
بالطبع، يستطيع التيار الصدري مواجهة مشاكل من نوع المليشيات والفساد، لأن مرشحهم سيكون مدعومًا بكتلة جماهيرية صلبة، لكنهم لن يفعلوا ذلك لأنهم جزء من المشكلة نفسها، إذ يملك التيار الصدري مليشيا سرايا السلام، حاله حال الفصائل الإيرانية الأخرى، وأغلب أعضائه في الحكومة متورطون في الفساد إلى أخمص أقدامهم!
وعليه لن يتعدى دورهم الحكومي التوافق على رئيس الوزراء والبقاء ككتلة محصنة خارج أي قرار تنفيذي يمكن أن يضر بمصالحهم داخل أو خارج الحكومة، ليبقى الصراع على من سيتصدر البيت الشيعي في الجنوب.
وكلاء إيران: الإبحار في مياه مضطربة
شهد العراق في العام 2018، أول رئيس وزراء من خارج حزب الدعوة منذ العام 2003، والحقيقة أن هذا لم يكن تغييرًا كبيرًا، فالمهم أن يكون رئيس الوزراء تحت النفوذ الإيراني وليس المهم من أي طرف بالتحديد. حصل ذلك في انتخابات العام 2010، حين فازت الكتلة العراقية برئاسة إياد علاوي في الانتخابات متفوقة على كتلة القانون، لكن توافقًا ما حصل لتكون دولة القانون هي الكتلة الأكبر التي تشكل الحكومة.
الآن، وبعد 10 أعوام تقريبًا، يمر البيت الشيعي بظروف حرجة أكثر، فهناك متغيرات كثيرة حصلت منذ ذلك الوقت:
– منذ ما بعد 2003، تم توحيد الجمهور الشيعي بسلاح الخوف من عدو مشترك، فكانت العملية سهلة لأن العدو كان واضحًا وجليًا وقريبًا إلى أذهان الكثيرين الذين عاشوا في فترة حكم البعث وصدام حسين، كان حزب البعث لا يزال قويًا والرئيس نفسه موجودًا، وكانت القوى السنية مسلحةً وتخوض معارك كبيرة ضد الجيش الأمريكي والقوات العراقية التي كانت تساندها، حيث كانت مؤلفة في الغالب من الجنوب الشيعي. كل الظروف كانت تساعد على التحشيد والتجميع في بوتقة واحدة تقودها إيران، وهو ما حصل في تشكيل الائتلاف الوطني الموحد في انتخابات ديسمبر/كانون الأول 2005، التي ضمت القوى الشيعية الكبرى وقتها: حزب الدعوة الإسلامي والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية – قبل انفصال منظمة بدر عنه – والتيار الصدري، ليفوز بعد ذلك بـ109 مقاعد ويشكل الحكومة بأريحية كبيرة، وهي الفترة التي كانت تشكل مرحلة تأسيس الدولة العراقية والسيطرة عليها.
– مع انحسار العدو السني المسلح بانتهاء المقاومة العراقية وعقد الاتفاقية الأمنية عام 2009 وانسحاب القوات الأمريكية عام 2011، بدا أن التحالف القديم ماضٍ إلى التفتت أكثر من ذي قبل، وخلال الفترة الثانية لولاية المالكي (2010- 2014) تهيأت القوى الشيعية للدخول منفردة في الانتخابات المقبلة، ولم يكن الأمر مجرد تنافس انتخابي، وإنما كان انقسامًا واضحًا في توجهات البيت الشيعي، مع غياب عدو واحد يجمع الجميع، ووجود مغنم كبير يؤثر كل طرف على الحصول عليه.
– مع دخول داعش للموصل، تمكنت إيران من حشد القوى كلها مرة أخرى تحت بوتقة الحشد الشعبي، وهو الذي شاركت فيه كل الفصائل والقوى الشيعية المقاتلة، إلى جانب المتطوعين العاديين، وتم القضاء في النهاية على داعش، وجرت المعارك كلها في المحافظات السنية التي دفعت ثمن دخول داعش وخروجه، وهو ما أنهى رسميًا إمكانية استخدامهم مجددًا كأداة لتخويف الفرقاء الآخرين، وهنا بدأت المشكلة.
– كانت انتخابات عام 2018، المرحلة التي أعقبت خروج داعش من الموصل والقضاء عليها، فصلًا جديدًا في السياسة العراقية تحديدًا، وصلت القوى الشيعية إلى انقسام واضح، فلم تعد أي من القوى القديمة على حالها، كل التيارات تقريبًا كانت تعاني من انقسام في المصالح وبالتالي التوجهات، لكن تلك الاختلافات كانت منتظمة بسلاسة قيادتين هما سليماني وأبو مهدي المهندس.
– منذ مظاهرات أكتوبر/تشرين الأول عام 2019، ظهر مؤشر خطير جدًا على القوى يتمثل في النفوذ الإيراني في العراق، فلأول مرة تخرج مظاهرات – تحولت لاعتصامات – بهذا الحجم، في كل المحافظات الجنوبية تقريبًا. في هذا الوقت، طرأ تحول كبير في شريحة الشباب، فأكثرهم الآن عشرينيون لا يعرفون صدام ولا البعث ولا يعنيهم الولي الفقيه، وكل ما يريدونه حياة مماثلة لأقرانهم في البلدان الخليجية المجاورة، إنه انفصال تام بين البرنامج الإيراني والتوجهات الشعبية، وما زاد الطين بلة، الطريقة التي تعاملت معها المليشيات المسلحة، وتسبب بسقوط أكثر من 600 قتيل وعشرات آلاف الجرحى كثير منهم من حالات العوق الدائمي. كانت مفارقة كاملة، فهذا ما زاد الفجوة بين الجمهور الشيعي العادي والجمهور الولائي المؤدلج، ولأول مرة: الخطر الآن سيكون من الداخل على النفوذ الإيراني، وليس من الخارج، يحصل هذا، وعراب الفصائل جميعًا ليس موجودًا: لا سليماني ولا المهندس.
إذا ما أضفنا العوامل الإقليمية الأخرى من سيطرة طالبان على أفغانستان والحصار الأمريكي لإيران وتبعثر الوضع في لبنان والوضع السوري المهلهل، يمكن معرفة التحديات الإيرانية في السيطرة على كل هذه الأطراف.
لا شك أن العراق هو الساحة الأهم، ليس بسبب موقعه وحسب، وإنما بسبب طبيعة العلاقة بين تلك الفصائل وإيران، فهي لا تنفق دولارًا واحدًا عليها، بل إن إيران من يستفيد اقتصاديًا وسياسيًا من هذه التبعية! تشهد هذه الساحة تغييرات عنيفة تتطلب حزمًا ومواجهةً لا يُقبل فيها التراخي، وإلا انفرطت الأمور مرة واحدة وللأبد.
البحث عن يد غير مرتعشة
في مثل هذا الانقسام الحاصل في البيت الشيعي، ترى المليشيات الولائية أن أنصاف الحلول أو التراخي لا يمكن قبوله، خاصة مع صعود القوى المناوئة لإيران، الممثلة بالمستقلين والشخصيات الممثلة لانتفاضة تشرين خطرًا إضافيًا عليها، فهؤلاء الذين كان يهتفون في ساحة التحرير، أصبح الآن لديهم صوت رسمي محصن قانونيًا، وربما يكون لديهم وزير يمثل جزءًا من الحكومة، وهي بداية قد لا تُحمد عقباها لو تطورت الأمور على هذا النحو في الانتخابات المقبلة، هناك خطر أن يكون كل السلاح الولائي المُناط به حفظ تماسك البيت الشيعي تحت المظلة الإيرانية خارج القانون أو على الأقل محل تساؤل.
في المقابل، تحصل الكتل الولائية للمرة الأولى على مقاعد لا تتجاوز 19 مقعدًا، ما يعني أن السلاح الموجود في الشارع مكشوف سياسيًا وشعبيًا، ولا أحد يتحدث الآن بالطبع عن إمكانية حل الحشد أو دمجه في الجيش والقوى الأمنية، لكن القوى التقليدية لن تكون بنفس القوة التي يجب أن تكون عليها في مواجهة هذا الانفصال العنيف في الرأي العام الشيعي.
إن اندلاع تشرين ثانية – ستكون بالتأكيد أقوى من سابقتها – سيجعل من مواجهتها تحديًا كبيرًا، فحتى مع مجيء رئيس وزراء من الكتل الموالية لإيران نفسها، إلا أن غياب ظهر سياسي خلفه سيجعل كل إجراءاته موضع ضعف وتساؤل كما هو الحال مع عادل عبد المهدي، والتيار الصدري لن يمنح هذا الغطاء لأن مصالحه تقتضي لعب دور القوة الممثلة للجمهور ومزاجه، وهذا بالضبط ما يشكل معضلة للقوى الولائية، التي ترى أن الأمور سائرة إلى ضعف وترهل جديد في موقفها، ضعف قد يجعل منها مكشوفة إلى درجة العري، ولا تنتظر إلا ضربة قاضية تطيح بها تشرين ثانية ربما!