القبائل العربية في تركيا
“لا تقلقي أنا عثماني من ماردين، أفهم القرآن وأعرف العربية” هذه كانت إجابة سائق التاكسي التركي عندما شاهد صدمتي وهو يسألني باللغة العربية: يمين أم يسار؟ ثم أخبرني باللغة العربية المطعّمة باللكنة التركية بأن أصوله تعود إلى قبائل عربية في جنوب تركيا، لكنه يعمل في إسطنبول باحثًا عن رزقه، مثل الكثير من أبناء القبائل العربية المنتشرين في الولايات التركية – كما يقول – ويعملون بالدوائر الحكومية والأمن والشرطة وأيضًا بمهن مختلفة أخرى.
من هنا بدأت رحلة البحث عن حقيقة القبائل العربية في تركيا، والتعرف على أصولها ومآلاتها إلى وقتنا الحاضر، فلو عدنا إلى حقيقة التكوين العرقي في المجتمع التركي منذ آلاف السنين، نجد أن العنصر التركي يشكل نحو ثلثي السكان، يليه بالمرتبة الثانية الأكراد، ثم العرب، عدا عن وجود أقليات قومية ودينية أخرى أهمها الأرمن واليونانيين واليهود، بالإضافة إلى وجود أقليات طائفية أبرزها الأقلية العلوية.
الوجود العربي في تركيا
سجّل التاريخ وجود العرب في تركيا في عصر ما قبل الإسلام، أي سنة 600 ميلادية تقريبًا، وذلك عندما بدأت الهجرات العربية من أرض الجزيرة العربية نحو العراق وبلاد الشام وامتدت إلى تركيا، وقد كوّنت تلك القبائل العربية مستقرًا لها في الأراضي التركية، وذلك بتشكيل حدود خاصة تتبع توزيعهم القبلي، وسُميت كل منطقة بالقبيلة التي استوطنتها، وتمتد تلك المناطق من منابع نهري دجلة والفرات إلى التقائهما بالقرب من البصرة العراقية.
وقد غدا هذا الانتشار أكثر تأطيرًا بعد ضعف الدولة العثمانية وزوالها، ثم تأسيس الجمهورية التركية وما تبعها من التزامات بسبب تغيرات سياسية وجغرافية على الحدود السورية التركية.
اتفاقيات ترسيم الحدود التركية السورية
في مقال “تبدلات الحدود السورية التركية في فترة ما بين الحربين” للباحث في التاريخ الاجتماعي والسياسي السوري مهند الكاطع، أوضح أن ترسيم الحدود بدأ من خلال اتفاقية سيفر (Sevr) التي تم توقيعها في 20 أغسطس/آب 1920، وهي أول اتفاقية يوقعها الجانب التركي بشأن مسألة تعيين الحدود مع سوريا.
الذي يهمنا من الاتفاقية ضمن هذا السياق، أن الحدود التركية الجديدة ضمّنت تبعية كل من الإسكندرونة وكامل كيليكا وكلس وبيره جك وعينتاب وأورفا وماردين ونصيبين وجزيرة ابن عمر للأراضي السورية، لكن الاتفاقية لم تدخل حيز التنفيذ، بسبب رفض المقاومة التركية آنذاك التقسيم، إلى أن اضطرت فرنسا إلى ضم مزيد من الأراضي السورية لصالح تركيا بعد توقيع اتفاقية أخرى عام 1921.
ولا بد هنا أن نذكر اتفاقية فرانكلين – بويلون (Franklin-Bouillon) التي تُسمى أيضًا “معاهدة أنقرة الأولى”، وهي اتفاقية وقعت بين فرنسا وتركيا في 20 أكتوبر/تشرين الأول عام 1921، فقد أوقفت المعاهدة الحرب التركية الفرنسية وفق نص المادة الأولى، كما تضمنت المادة السابعة إدارة خاصة للواء الإسكندرونة، وكان أثرها الأكبر تعديل خط الحدود بين سوريا وتركيا الذي أقرته معاهدة سيفر.
إلى أن جاءت اتفاقية لوزان سنة 1923، التي اعتمدت الحدود بين سوريا وتركيا بموجب المادة 8 الواردة في اتفاقية فرانكلين-بويلون دون تعديل، ولم تنس المادة الأخيرة (المادة 13) للاتفاقية أن تضمن حقوق القبائل والعشائر الرحل في الرعي على جانبي الحدود في مناطق رعيها التقليدية.
امتداد القبائل العربية في تركيا
في حديث خاص لموقع “نون بوست” مع المتحدث الرسمي باسم مجلس العشائر والقبائل السورية مضر حماد الأسعد، خضنا معه في تفاصيل هيكلية القبائل العربية في تركيا وامتدادها، فقال: “القبائل العربية موجودة من شمال سوريا وجنوب تركيا، وتمتد إلى الحدود الإيرانية والعراقية، فقد فُرض على أبناء القبائل العربية التقسيم السياسي: قسم في العراق وقسم في سوريا وقسم في إيران وقسم في تركيا”.
ويفصّل الأسعد أسماء بعض المناطق على هذا الامتداد: “بتليس، وان، نصيبين، قزل تبه، ماردين، جيلان بينار (رأس العين)، ويران شهر، دياربكر، سيرت، أورفا، تل أبيض، حلوان، أديامان، مرعش، سروج، نزّب، بيريجيك، عنتاب، العثمانية، الإصلاحية، أنطاكيا، لواء إسكندرون، الريحانية، مرسين، أضنة”.
أبرز القبائل العربية في تركيا
يعرض الأسعد، الذي ينحدر من قبيلة “الجبور”، أبرز أسماء القبائل في المنطقة: “البوحمدان، عنزه، النعيم، شمر، حرب، عدوان، الشيخان، بنو شيبان، المحَلّمية، الشرابيين، بني زيد، المشهور، السخانة، الحبيط، عبادة، المجادمة، العجيل، العساسنة، الحديديون، بنو خالد، الموالي، البوشعبان، العبادلة، البوبنا، بني سعيد، الفواعرة، المشاهدة، البوليل، البوخابور، العقيدات، العبيد، بني أسد، بني صخر، الخرشان، بني محمد”.
ثلاث لغات
تتنوع اللغات التي يتكلم بها أفراد هذه القبائل، بين اللغة العربية والتركية وكذلك الكردية، كما يخبرنا الأسعد، وتعتبر اللغة التركية اللغة الرسمية لأنها لغة الجامعات والمدارس والدوائر الحكومية، رغم ذلك “أبناء القبائل متمسكون باللغة العربية في أثناء التكلم، لكن لا يتقنونها كتابة، وذلك لندرة معاهد تدريس العربية، أما بعد عام 2012 أي في زمن الثورة السورية وعند عودة أبناء القبائل المقيمين في سوريا والتقائهم مع أقربائهم في تركيا، تطوّر مستوى اللغة العربية لديهم وبدأوا في إتقان الكتابة”.
أما اللغة الكردية فقد تعلمها قسم من أبناء العشائر من جيرانهم الأكراد “تبادلوا اللغات، الأكراد تعلموا العربية، والعرب تعلموا الكردية”.
لمن الانتماء؟
يؤكد الأسعد أنه رغم توزّع العشيرة الواحدة بين عدة دول، فإن الانتماء السياسي لأبنائها يرتبط بالدولة التي تقيم فيها العشيرة، ويضيف “هذا الأمر لا يُضعف الوحدة الاجتماعية والدينية بين القبائل، فمثلًا أنا من قبيلة الجبور وكان لنا تواصل مع أقربائنا في تركيا والعراق منذ عشرات السنين ولم ينقطع نهائيًا، ويعود سبب قلّة التواصل وفقًا لبعض الظروف السياسية، ويحكمها الخلافات بين الدول مثل الخلاف بين سوريا وتركيا، وسوريا والعراق سابقًا”.
قبل الثورة السورية وما بعدها
أدى التغير بالمعادلة السياسية منذ انطلاق الثورة السورية ثم لجوء السوريين إلى الأراضي التركية، إلى تغيّر العلاقات للأفضل مع أبناء القبيلة الواحدة وغدا في أعلى درجاته، ثم يضيف “عندما جئنا من سوريا إلى تركيا كلاجئين ساهمنا بعودة القبيلة العربية إلى أصولها وأساسها”.
ويؤكد الأسعد أنه رغم كل الظروف السياسية ما قبل الثورة السورية، فإن الوجهاء من القبيلة يأتون من تركيا إلى سوريا للمشاركة بالمناسبات الاجتماعية الكبيرة سواء بالأفراح أم الأحزان من أجل التعارف وبناء جسور المحبة، وكذلك الأمر بالاتجاه المعاكس.
ويبدي الأسعد فخره بأن أبناء العشيرة في تركيا “يرون فينا المنقذ لإعادة القبيلة العربية إلى أصولها لانقطاعهم عن الأعراف العربية منذ أكثر من سبعين عامًا، والآن وجودنا في تركيا أعاد لهم أصولهم القَبيلية الصحيحة”.
ويضيف “أيضًا كان لنا دور في فض النزاعات العشائرية في تركيا، ويعود ذلك إلى أن شيوخ وأمراء معظم العشائر العربية في تركيا يقطنون في سوريا والعراق”.
تَحْجيم القبائل العربية في عهد أتاتورك
لم يكن حال القبائل العربية بخير بعد استلام مصطفى كامل أتاتورك سدة الحكم في 29 أكتوبر/تشرين الأول لعام 1923، يقول الأسعد: “في بداية تشكيل الدولة التركية في عهد أتاتورك، تعرضت القبائل العربية إلى ضغط أمني كبير، ومنعوا من ارتداء اللباس العربي، وأبعدوا أبناء العشائر العربية من وظائف الدولة والجيش والشرطة، أما مناطقهم بقيت نائية دون تطوير ولا خدمات، فلا يوجد فيها مشافٍ ولا مدارس ولا طرق صالحة للسير”.
ويستنكر الأسعد ذلك رغم أن للقبائل العربية جهودًا في تحرير مناطقهم من الاستعمار الفرنسي واليوناني والبريطاني، كما قدموا آلاف الشهداء في أورفا وعنتاب وتل أبيض ونصيبين ومرسين وأضنة ومناطق أخرى.
انفراجة في عهد العدالة والتنمية
منذ أن استلم حزب العدالة والتنمية البلاد تغيّر حال أبناء القبائل العربية في تركيا إلى الأفضل – بحسب الأسعد – من عهد نجم الدين أربكان وصولًا إلى عهد الرئيس التركي الحاليّ رجب طيب أردوغان، فقد تطورت مناطقهم بشكل كبير وتوافرت كل الخدمات، وكذلك انخرطوا في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والتعليمية والرياضية.
الجنسية التركية
من الملفات التي حظيت بالمتابعة في عهد تركيا الجديدة حصول أبناء العشائر على الجنسية التركية، فمنهم من حصل عليها وآخرون لم يأخذوها بعد، ويساهم في نيلها، كما يوضح الأسعد، من قدم إثباتات للحكومة التركية أن أجداده من مواليد تركيا، أو من لديه إثبات بتملّك أراضٍ أو منازل وسندات تمليك أميرية عثمانية.
التمثيل العشائري
ولأجل تعزيز التعاون بين أبناء العشائر العربية الذين انتقلوا من سوريا إلى تركيا، تأسّس كيان يوحد القبائل باسم “مجلس القبائل والعشائر السورية” قبل سبعة أعوام، ويوضح الأسعد دوره قائلًا: “هو مجلس اجتماعي إنساني خيري يجمع القبائل التركية والعربية والتركمانية والكردية والسريانية واليزيدية، ويساهم في تعزيز الأخوة والصداقة والتعاون بين الشعبين السوري والتركي، ويعمل على ردم الهوة والخلاف بينهما”.
وفي ذات الوقت يخدم المجلس التواصل مع تلك القبائل التي تعيش في تركيا، وإن حصلت أي مشاكل بين العشائر، يطلب الوالي أو المحافظ أو رئيس البلدية وحتى قيادات الشرطة حل المشكلة في مجلس العشائر ثم إعلامهم بالنتيجة لثقتهم الكبيرة به.
أتراك يجهلون أصولهم العربية
صهيب جابر شاب من دير الزور، ينحدر من قبيلة “البوخابور” التي لها امتداد في ولاية أورفا التركية، يلفت نظرنا إلى أن “بعض العرب لا يعرفون امتداد قبائلهم في تركيا”.
وفي الاتجاه المقابل هناك الكثير من الأتراك أصلهم من دير الزور ولا يعرفون ذلك والسبب حدوث تهجير في عهد المماليك عام 1819 لأهالي دير الزور إلى تركيا، بعد أن دُمّرت المدينة وردمت في الأرض ولم يعد لها وجود، ومع مرور الأجيال نُسيت الأصول العربية.
أسطح المنازل للتواصل بين دولتين
من جانب آخر، يجد جابر أنه في العصر الحديث هناك الكثير من العشائر الممتدة مدنها على الشريط الحدودي بين سوريا وتركيا تعرف بعضها، خاصة في مناطق شمال شرق سوريا، ويذكر جابر أمثلة على البلدات المقسّمة مناصفة مثل مدينة “تل أبيض” في الجانب السوري واسمها في الجانب التركي “أقجه قلعة”، وأيضًا مدينة “جيلان بينار” في الجانب التركي واسمها في الجانب السوري “رأس العين”.
“ورغم أن الشريط الحدودي قسم المدن بالمنتصف بين دولتين، هناك ارتباط وثيق لدرجة أن بعض الناس يقفون على سطح المنزل بين الطرفين، ويتكلمون مع بعض وهم أبناء عشيرة واحدة، وبقي هذا الأمر ممتد لسنوات” بحسب وصف جابر.
سواد اللكنة العربية
يشيد جابر بارتباط أبناء العشائر المقيمين في تركيا باللغة العربية واللكنة العتيقة، “مثلًا أهل الرقة ما زالوا يستخدمون اللكنة الرقاوية العتيقة ومفرداتها ومحافظين عليها في تركيا، لدرجة أن أهل الرقة الذين جاؤوا من سوريا في السنوات الأخيرة والتقوا مع عشائرهم تفاجأوا بأنهم ما زالوا يستخدمون اللهجة القديمة”.
التمثيل السياسي والأمني
يرى جابر أن الحكومة التركية تولي اهتمامًا بالعشائر العربية، ونوّهت بأهمية وجودهم في كل أشكال التمثيل السياسي والحكومي بخطاباتها، ويشير إلى تغلغل أبناء القبائل العربية في مفاصل الدولة والحكومة، كوزراء وأعضاء مجلس نيابي وقيادات في الأحزاب السياسية ورؤساء بلديات، وفي قيادات الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية، وفي سلك التدريس الأكاديمي في الجامعات، وكذلك في جانب الأعمال وإدارة الشركات.
استقبال اللاجئين وتدريسهم
كما اهتم أبناء القبائل العربية في تركيا بأبناء عشيرتهم القادمين في موجة اللجوء، يقول جابر: “هم أول من استقبل واحتضن السوريين عمومًا وليس فقط أبناء القبائل، وهم أول من بادر بالمساعدة وتقديم الخدمات”.
بالإضافة إلى ذلك حرص المكون التركي العربي على تدريس الطلاب اللاجئين في مناطق الجنوب، لسهولة التقارب بين الطالب والأستاذ باعتبار الامتداد الثقافي الواحد، عدا عن معرفتهم باللغة العربية التي تسهّل توصيل المعلومات الموجودة في المناهج التركية للطالب السوري.
أعداد العرب في تركيا
تثبت الإحصاءات أن العرب جزء من المجتمع التركي حتى قبل الهجرة الأخيرة بعد الثورة السورية، وقد توصّلت دراسة من جامعة “أكدينيز” لعام 2011 بأن عدد الأتراك من أصل عربي بلغ نحو 8.309.540 مواطن، أي بنسبة 11.12% من مجموع سكان تركيا في ذلك الوقت، وتلك النسبة تعلو في مناطق الأقاليم السورية الشمالية ولواء إسكندرون، كما تُشكّل أكثر من 10% من السكان في المناطق الأخرى القريبة من حدود سوريا والعراق والمناطق الكبرى مثل شرناق وموش وبدليس وبطمان وسِعِرد.
فهل سيأتي يوم تنتهي فيه الحدود السياسية التي مزّقت ثوب القبيلة الواحدة التي ما زالت تستجمع رقع عباءتها إلى اليوم؟ لعلها تكون المنقذ لشتات شعوب متجاورة يجمعها الأصل واللغة والمبادئ الإنسانية وكذلك التاريخ والتراث المشترك.