تسببت مقابلة تليفزيونية جديدة على قناة CBS الإخبارية الأمريكية، لصالح برنامج “60 دقيقة” الشهير، بحالة واسعة من الجدل على عدة مستويات سياسية، سواء كانت بين واشنطن والرياض من جهة، أم بين حكام الأخيرة ومُنافسيهم على حكم الدولة الخليجية الكبرى العامرة بالنفط من جهة أخرى.
يعود السبب في ذلك إلى أن المحطة الأمريكية استضافت أحد أبرز خصوم ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، الدكتور سعد الجبري، إن لم يكن أبرزهم على الإطلاق، للتحدث في موضوعات حساسة للغاية تخص قصة صعود ولي العهد إلى ذلك المنصب، وطريقة إدارته للبلاد، وأسلوب تعامله مع معارضيه خارج البلاد، وأمور أخرى دقيقة تخص عملية انتقال الحكم من الملك عبد الله بن عبد العزيز إلى الملك سلمان ونجله الذي صار وليًا للعهد لاحقًا.
جذور الخلاف
في البداية، نحتاج إلى أن نعرف القارئ على جذور الخلاف بين هذين الخصمين اللذين تصدرت صورهما وجهًا لوجه أغلفة الصحف الأولى للمجلات السياسية حول العالم خلال الساعات الأخيرة بعد بث ذلك اللقاء الذي يمكن مشاهدة مقتطفات منه على منصة القناة الأمريكية على موقع “يوتيوب”.
خلافًا لما قد يبدو للقارئ للوهلة الأولى إزاء ذلك الصراع، فإن الجبري أو الدكتور الجبري نظرًا لحصوله على شهادة الدكتوراة من إحدى الجامعات في إسكتلندا في تخصص هندسة الكومبيوتر (الذكاء الاصطناعي)، ليس منافسًا مباشرًا لابن سلمان على الحكم.
وإنما يعد الرجل الثاني لمنافس محمد بن سلمان على الحكم في السعودية، الأمير محمد بن نايف، ولي العهد بعد صعود الملك سلمان إلى السلطة عقب وفاة الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز، وذلك قبل إطاحة ابن سلمان بابن نايف من منصب ولاية العهد عبر خطة محكمة 2017.
بشكل من الأشكال، يُعد ابن نايف وذراعه اليمنى سعد الجبري محسوبين على عدة مستويات متشابكة يرى فيها ولي العهد السعودي الحاليّ محمد بن سلمان الطامح إلى الحكم خطرًا عليه، مثل أن ابن نايف والجبريّ محسوبان على الحرس القديم سياسيًا وعمريًا، وعلى البيروقراطية الشُرطية في المملكة التي تعد القوة الأهم داخل البلاد، وأن نفس الشخصين مدعومان من بعض الدوائر الأمريكية بسبب علاقاتهما السابقة مع الأجهزة الأمنية الأمريكية خلال سنوات محاربة تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية.
ابن سلمان قال في حوار بينه وبين ابن نايف إنه يمتلك الدوافع والقدرة على التخلص من الملك عبد الله بن عبد العزيز، وذلك من خلال مصافحته عبر خاتم يحتوي على سُم معين استطاع جلبه من روسيا
قبل هذا اللقاء التليفزيوني، كانت السردية المتداولة عن بداية الخلاف بينهما تشير إلى فكرة اختلاف طريقة كل من الحرس القديم والإدارة الجديدة التي يمثلها ابن سلمان في التعاطي مع السياسة الخارجية للمملكة.
إذ كان ابن سلمان يرى أن الحل الأمثل للتعامل مع الخطر الجنوبي يتمثل في شن حرب شاملة على الحوثيين في اليمن، وهو ما حدث في عاصفة الحزم عام 2015، فيما يرى الجبري الذي انتقل من مجال هندسة الكومبيوتر إلى أمن المعلومات في الداخلية السعودية حتى صار لواءً مسموع الكلمة، أن الحرب خيار غير راشد ستكون له عواقب وخيمة على المنطقة.
تطورات الخلاف
فيما بعد، اتخذ الخلاف بين الطرفين، ابن سلمان والجبري، مسارًا محددًا يقوم على قيام الأول بمباغتة الأخير، وذلك على أساس كونه طامحًا إلى السلطة بأي ثمن، فقد نجح ابن سلمان في تعيين رجله في جهاز الشرطة السعودي “الهويريني” على رأس الجهاز، بعد أن أطاح برجال ابن نايف من الجهاز.
وفي منتصف عام 2017، قام محمد بن سلمان بالإطاحة نهائيًا بابن نايف نفسه فيما سمي وقتها بـ”انقلاب القصر”، الذي كان ملخصه إبعاد ابن نايف عن ولاية العهد لصالح ابن سلمان، ووضعه تحت الإقامة الجبرية، وبدء حملة تحريض سياسي وقانوني ضده من رجال ولي العهد.
في هذه الأثناء، نجح سعد الجبري ومعظم أسرته وعلى رأسها ابنه الكبير خالد في الفرار من البلاد، خوفًا من المصير الذي طال كل من يمثل تهديدًا على ولي العهد، وهو الاعتقال ومصادرة الأموال، فكانت وجهتهم إلى الولايات المتحدة عبر ألمانيا، باستثناء نجليه الشابين عمر وسارة اللذين كانا يبلغان من العمر نحو 18 عامًا آنذاك.
منذ ذلك الوقت تقريبًا اكتسب الصراع بين هذين الطرفين طابعًا شخصيًا، إلا أنه ظل على نفس الوتيرة، طرف يلاحق طرفًا آخر، ابن سلمان يلاحق الجبري، وذلك عن طريق احتجاز نجليه في السعودية، ثم إحالتهما إلى القضاء لاحقًا بتهم ذات طابع سياسي، وصولًا إلى ما كشفه الجبري بخصوص محاولة ابن سلمان اغتياله بنفس طريقة الصحفي المعارض جمال خاشقجي لاحقًا.
خلال مدة وجوده في الخارج فارًا من سياط ولي العهد، وقبل إدلائه بتلك التصريحات المثيرة في اللقاء الذي أذيع يوم الأحد الماضي، فإن الجبري حاول تحجيم خطر ابن سلمان عليه من خلال إعلان احتمال تعرضه للاغتيال، وصولًا إلى مخاطبة السلطات القضائية الأمريكية في دعاوى رسمية بذلك.
رد ابن سلمان على تلك الاتهامات بدعاوى قضائية مماثلة في كندا التي يتنقل الجبري بينها وبين الولايات المتحدة، على خلفية اتهامات بفساد مالي ضخمة تصل إلى مئات ملايين الدولارات، قال محامو ابن سلمان إن كلًا من ابن نايف والجبري قاما باختلاسها خلال عملهما في ملف مكافحة الإرهاب إبان حكم الملك عبد الله.
من القضاء إلى الإعلام.. من الدفاع إلى الهجوم
بشكل من الأشكال، تعد المقابلة التليفزيونية التي جمعت بين الجبري والمحطة الأمريكية نوعًا من أنواع تغيير إستراتيجية إدارة معركته ضد ابن سلمان، إذ قرر لأول مرة أن ينتقل من موقع المدافع إلى موقع المهاجم، وأن يخرج من ساحات القضاء إلى أروقة الإعلام.
على نحو صريح، قال الجبري في المقابلة إن أحد الأسباب التي دفعته إلى مقابلة الإعلام الغربي متحدثًا عن تفاصيل تخص الأسرة المالكة، هو أن ابن سلمان، في نظره، لا يعد خطرًا على المجتمع السعودي فقط، وإنما يعد خطرًا على الولايات المتحدة والعالم بأسره.
قاله الجبري فإنه لم يقبل بالظهور على CBS لكي يحذر العالم من هذا الشخص المتهور، وإنما من أجل مطالبة الإدارة الأمريكية الحاليّة أيضًا بالعمل على تحرير نجليه المحبوسين في الرياض
أحد الشواهد التي دلل من خلالها الجبري على خطورة ابن سلمان على الجميع وفقًا لسرديته، هي أن ميوله العدائية لم تكن وليدة حادثة اغتيال الصحفي المعارض جمال خاشقجي في إسطنبول قبل 3 أعوام فقط، وإنما كان قد هدد من قبل باغتيال الملك عبد الله نفسه، وذلك في حضور محمد بن نايف عام 2014.
بحسب الجبري، فإن ابن سلمان قال في حوار بينه وبين ابن نايف إنه يمتلك الدوافع والقدرة على التخلص من الملك عبد الله بن عبد العزيز، وذلك من خلال مصافحته عبر خاتم يحتوي على سُم معين استطاع جلبه من روسيا، من أجل سرعة تصعيد والده إلى حكم المملكة.. وهو ما يقول الجبري إنه تهديد جرى التعامل معه على نحو جاد حينها.
في إجابة له عن سؤال عما إذا كان ابن سلمان يخاف منه بشكل شخصي، قال الجبري نافيًا إن ابن سلمان لا يخاف منه، بقدر ما يخاف من المعلومات التي يمتلكها وقد تدينه وتهدد مساعيه للوصول إلى حكم السعودية في المستقبل القريب بشكل سلس، ومن بينها تسجيلات فيديو من نسختين لولي العهد خلال تصريحه لابن نايف بإمكان اغتياله للملك عبد الله.
مخاوف شخصية على حياته
لهذه الأسباب يعتقد الجبري كما أدلى في المقابلة أن ابن سلمان لن ينام قرير العين حتى يتأكد من أن الرجل الذي نجح في الهروب من مصير مظلم في السعودية، اعتقالًا أو تقييدًا جبريًا كما حدث مع غيره من أبناء العائلة، قد قُتل في الخارج.
لا يستدلُّ الجبري على كون ابن سلمان يخطط للتخلص منه من خلال معرفته بشخصيته “التي لا تحمل أي قدر من التعاطف” على حد قوله، أو إقدامه على اغتيال خاشقجي في الخارج قبل ذلك في أكتوبر/تشرين الأول 2018 فقط، وإنما يقول إنه تلقى تحذيرات من الولوج إلى أي مقر دبلوماسي سعودي في الخارج بسبب كونه “على رأس المطلوبين” من السلطات السعودية.
حاول ابن سلمان استمالة الجبري في وقت ما إلى صفه عبر مطالبته بأن يلعب دورًا في القبض على معارضين سعوديين مقيمين في الخارج وإعادتهم إلى البلاد، وعندما رفض الجبري أداء هذا الدور، ساءت العلاقة بينهما زيادة على الأسباب السابقة.
وفقًا لما قاله الجبري فإنه لم يقبل بالظهور على CBS لكي يحذر العالم من هذا الشخص المتهور، الذي سبق واختطف رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري من قبل ورفض الاستماع إلى تحذيرات خطورة التورط في اليمن فقط، وإنما جاء من أجل مطالبة الإدارة الأمريكية الحاليّة أيضًا بالعمل على تحرير نجليه المحبوسين في الرياض.
وقد منح الجبري المحطة الأمريكية مقطعًا قصيرًا (بلا صوت) يشرح خلاله بعض التفاصيل المهمة عن كواليس الحكم، جرى تصويره في السعودية والولايات المتحدة، على أن يبثه البرنامج الأمريكي على الرأي العام، إذا نجح ابن سلمان في مساعيه الخاصة بتهديد حياة الجبري.
ردود الفعل
أثارت الحلقة عاصفة من التغريدات والمقالات ليس على مستوى المنطقة وحسب، بل في أنحاء واسعة من العالم، وذلك بسبب ثقل البرنامج وشخصية الضيف وتوقيت الظهور ومضمون الحلقة، إلا أن أحد أبرز التعقيبات التي رصدناها على الحلقة كان تعليق المعارض السعودي البارز المقيم في كندا، عمر بن عبد العزيز الزهراني.
يستنتج الزهراني أن ظهور الجبري في هذا التوقيت على قناة أمريكية بحضور ضابط مخابرات أمريكي، هو تكتيك من إدارة بايدن للضغط على ابن سلمان لتحسين الوضع الحقوقي في البلاد
علق الزهراني على بعض النقاط المهمة في الحلقة، على رأسها واقعة تهديد ابن سلمان، قبل أن يتولى أي منصب رفيع، بإمكان التخلص من الملك عبد الله، حيث قال إن هذه الواقعة ذكرت ضمنًا في كتاب: “النفط والدم” للصحفي في “وول ستريت” برادلي هوب، مشيرًا إلى أن الصحفي وثق أن الملك طرد حينها ابن سلمان خارج البلاد، إلى إسبانيا، عام 2014، وجرده من المناصب الحكومية بعد أن أبلغه ابن نايف بتهديد ابن سلمان.
من جهة أخرى فقد دلل الزهراني على واقعية تهديد ابن سلمان من خلال الاستشهاد بواقعتين: الأولى هي اغتيال مسلح سعودي كان يقاتل مع قوات طالبان في أفغانستان على يد المخابرات الروسية بمجرد فتحه رسالة مطوية، وهي واقعة شهيرة محليًا على حد قوله، والثانية، هي محاولة الاحتلال اغتيال القيادي في حماس خالد مشعل خلال وجوده في الأردن على نحو مشابه، وهي محاولة موثقة قبل سنوات.
ويستنتج الزهراني أن ظهور الجبري في هذا التوقيت على قناة أمريكية بحضور ضابط مخابرات أمريكي، هو تكتيك من إدارة بايدن للضغط على ابن سلمان لتحسين الوضع الحقوقي في البلاد، بعد تقرير فبراير/شباط الماضي الذي اتهم ولي العهد بالضلوع في التخطيط لاغتيال خاشقجي.
وذلك مع الإشارة إلى تحركات محتملة من بعض أبناء الملك عبد الله في الخارج لتأليب الرأي العام العالمي ضد ولي العهد السعودي الذي جرد الأسرة من كثير من الامتيازات المادية واعتقل عددًا من أبناء الملك الراحل خلال وبعد أحداث “الريتز”.
من جانبها وعلى غرار ما حدث من جانب السفارة المصرية قبل لقاء السيسي الشهير على ذلك البرنامج، والمطالبة بعدم إذاعته بسبب ظهور الرئيس المصري في موضع دفاعي غير معتاد خلال اللقاء، فقد اتهمت السفارة السعودية في واشنطن الجبريَّ قبل اللقاء بأنه متورط في قضايا فساد مالي كبيرة يحاول التعمية عليها من خلال هذه الأنشطة الإعلامية، فيما اتهم الإعلام السعودي غير الرسمي الجبري بعد اللقاء بأنه عميل للولايات المتحدة وقطر ومتورط مع اليسار الأمريكي!