الادريسي
عندما يكون الرحالة عالمًا فإن النتاج الذي ننتظره من رحلته لن يكون عاديًا أو مألوفًا، فما تعودناه في أدب الرحلات العالمي من وصف للبلدان وأحوالها وصفات أهلها وأشكال أبنيتها وطبيعة ثقافتها وطرق الوفود إليها والخروج منها، ومن يحكمها والدين الذي يتبعه ناسها، كانت وما زالت أبرز وجوه توثيق الرحلات وأغلب ما أُنتج في هذا المجال، لكن الادريسي أسس علمًا مستقلًا يدرس اليوم في المدارس والجامعات نتاجًا لرحلاته في البلدان، ليتوج رحلاته بمساهمته القيمة بتأسيس علم جغرافية البلدان الذي أصبح أحد علوم النهضة الأوروبية.
فمن هو الادريسي؟ وما رحلته؟ وكيف وضع أول خريطة حقيقية للعالم وأسس علم الجغرافية الحديثة وما يحتويه “كتابه نزهة المشتاق في اختراق الآفاق” من علوم ومعرفة؟
من هو الادريسي؟
هو أبو عبد الله محمد بن محمد الادريسي الهاشمي القرشي وهو حفيد المعتلي بالله أبو زكريا يحيى بن علي بن حمود (385هـ – 427هـ) تاسع خلفاء الأندلس، ولد في مدينة سبتة في المغرب الأقصى عام 493هـ (1100م) وتوفي عام 559هـ 1166م، لقب بالصقلي لأنه اتخذ جزيرة صقلية موطنًا له بعد سقوط الدولة الإسلامية، ولقب بسطرابون العرب تيمنًا للجغرافي الإغريقي الكبير سطرابون.
يُعتبر من كبار الجغرافيين والرحالة في التاريخ الإنساني ومن مؤسسي علم الجغرافيا الحديثة، كما كانت له إسهامات في مجالات مختلفة كالأدب والشعر والنبات والفلسفة والطب والنجوم في قرطبة، واستخدمت مصوراته وخرائطه في سائر كشوف عصر النهضة الأوروبية.
خليج سان بطرسبرغ يظهر في خريطة للإدريسي، ويظهر بحر الشمال مرمرة وشبه جزيرة غاليبولي وبحر إيجة ودلتا نهر ماريتسا ومنطقة مقدونيا وأجزاء من وسط اليونان
اختار الادريسي الانتقال إلى صقلية بعد سقوط الدولة الإسلامية، لأن الملك النورماني في ذلك الوقت روجر الثاني كان محبًا للمعرفة، شرح الادريسي لروجر موقع الأرض في الفضاء مستخدمًا في ذلك البيضة لتمثيل الأرض، شبه الإدريسي الأرض بصفار البيضة المحاط ببياضها تمامًا كما تهيم الأرض في السماء محاطة بالمجرَّات.
يقول الصفدي في كتاب “الوافي بالوفيات” عن الملك روجر الثاني: “وهو الذي استقدم الشريف الادريسي صاحب كتاب “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق” ليصنع له شيئًا في شكل صورة العالم”.
رحلة الإدريسي وكتابه
لم يطف الادريسي العالم بجسده، لكنه برع في تحويل أوصاف الرحالة السابقين إلى خرائط دقيقة جدًا، فكان يجول العالم وهو قابع في صقلية، فقد وضع الإدريسي أول أطلس حقيقي للعالم وكان عبارة عن جهد علمي حثيث جامعًا فيه علوم الرحالة المعاصرين والسابقين، بالإضافة لعلوم الجغرافيا التي برع فيها وقدرته العالية على رسم الخرائط وتخيل المواقع عبر استماعه لوصفها فقط، فأنتج الإدريسي كتابه الشهير “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق” الذي يعتبر أعظم ما وصلنا من إنجازاته وأطلق على هذا الكتاب اسم “كتاب روجر” نسبة للملك روجر ملك صقلية الذي طلب من الإدريسي تأليفه ليكون مرجعًا لكل من أراد معرفة الأرض وما فيها من بلدان.
خريطة الادريسي
لم يكتف الادريسي بكتابه، بل صنع إحدى أعجايب الدهر في ذلك الزمان، وهي كرة فضية نقش عليها خريطة الأرض بتفاصيلها الكاملة المعروفة حتى ذاك الوقت، واعتمد الادريسي فى صنع كرته الأرضية وخريطته للعالم على كل ما توافر له من المصادر حينها، فجمعها ثم شذبها وأضاف لها الجديد، فاعتمد أولًا على كتب الجغرافيين القدامى من اليونان مثل بطليموس، وعلى المسلمين مثل اليعقوبي والأصطهري والسعودي وابن حوقل والعُذري وغيرهم.
خريطة الادريسي التي رسمها للملك روجر الثاني، ويلاحظ أن الخريطة مقلوبة لأن الناس في تلك الأيام كانوا يعتبرون أن الجنوب يوجد في الأعلى.
ثم أعاد تأكيد أو نفي معلومات الجغرافيين القدماء بناءً على رحلاته التى جاب خلالها ربوع العالم القديم شرقًا وغربًا من خلال مشاهداته وملاحظاته، فضلًا عن الاستماع وتوثيق روايات الرحالة والتجار الذين يجوبون بقوافلهم التجارية فى أطراف العالم.
واستفاد من ميزة وجوده في بلاط روجر ببالرمو فكان يسألهم ويستوضح منهم ليكون عمله على مستوى عالٍ من المصداقية، وكان يدون أوصافهم للمدن والطرق ويدرسها مستخدمًا إياها فى رسم الخرائط، لكن للأسف فقدت هذه الكرة بعد ثورة حدثت في صقلية بعد الملك روجر بزمن قصير، لكن الكتاب تم حفظه ليكون من أشهر الكتب التي أنتجتها الحضارة العربية الإسلامية في علوم الجغرافيا، وهذا المرجع استفادت منه أوروبا كأحد أفضل المصادر الرصينة التي وضعت معلومات دقيقة عن بلاد المشرق وجغرافيتها وتضاريسها.
استغرق إنجاز كتاب نزهة المشتاق 15 عامًا من العمل المتواصل، وضع الادريسي نهجًا غير معروف سابقًا لدى الجغرافيين والرحالة العرب، فقد وصف العالم ككل ثم قسمه إلى سبعة أقاليم وعمد إلى رسم خرائط صغيرة منفصلة لكل إقليم من أقاليم العالم ثم قسم كل إقليم إلى عشرة أقسام رئيسية، ثم وصف كل قسم ورسم له خريطة وتحاشى فيه الخلط بين التاريخ والجغرافيا وظل كتابه مرجعًا للجغرافيا في العالم لما يزيد على ثلاثة قرون.
عند الاطلاع على خرائط الإدريسي ومقارنتها بما لدينا من خرائط وفق التكنولوجيا الحديثة تدرك التفاوت الكبير بين الدقة العالية المبهرة لبعض الخرائط التي وضعها الإدريسي فيما كانت الأخرى أقل دقة وعامية ومبهمة إن صح التعبير، وذلك لأن الإدريسي عندما رسم تلك الخرائط وضع بعضها نتيجة مشاهدته وقياساته الشخصية الدقيقة، فيما وضع البقية وفق الروايات التي وصلتهم واعتمدوا عليها، ما جعل التباين في الجودة واضحًا.
مخطوطة يصف فيها الإدريسي فنلندا
كانت خرائط الإدريسي أكثر دقة من الخرائط المعروفة من قبل، ويمكن تبين ذلك بوضوح في خرائطه، إذ لجأ إلى تحديد اتجاهات الأنهار والبحيرات والمرتفعات، موضحًا تضاريس البلدان التي رسمها، وقد وضع أيضًا وصفًا للمدن وحدود الدول والأقاليم واستخدم خطوط العرض أو الخطوط الأفقية في رسم العالم والكرة الأرضية التي صنعها، ورغم أن خطوط الطول استخدمت قديمًا قبل الإدريسي، فإنه أعاد تدقيقها وضبطها لتكون واضحة ومفيدة في تبيان حدود الدول وامتداداتها.
مع انتهاء الإدريسي من كتابه هذا توفي الملك روجر وخلفه الملك غليوم الأول، ومع ذلك فقد بقي الإدريسي في مركز بلاط الملكية واستمر في جهده المعرفي لينتج كتبًا لا تقل أهميةً عن كتابه الأول، فوضع كتاب “روض الأنس ونزهة النفس” لكن للأسف لم يصلنا إلا مختصرًا صغيرًا للكتاب؛ عبارة عن مخطوط محفوظ في مكتبة حكيم أوغلو علي باشا بإسطبنول وهو كتاب في الجغرافيا أيضًا، ووضع كتابًا خاصًا تحت اسم “أنس المهج وروض الفرج” الذي نشر منه قسمًا متعلقًا بشمال إفريقيا وبلاد السودان.
ختامًا.. تمكن الإدريسي من دمج العلوم والمشاهدات التي وثقها في رحلاته التي جال فيها العالم مع علوم ومشاهدات الرحالة الآخرين ليخرج لنا بهذا الإنتاج الرائع، مقدًما دليلًا على أنه لا ضير من جمع علوم من سبقنا وتطويرها ودمجها بما نمتلك من معرفة للخروج بإنتاج مميز قادر أن يدوم طويلًا ككتاب نزهة المشتاق الذي دام ثلاثة قرون كمرجع أساسي لجغرافية العالم.