في الذكرى الخامسة والعشرين لسقوط جدار برلين يترجم نون بوست المقال التالي من صحيفة “سيدني هيرالد” محاولين إلقاء الضوء على ما كان يجري في الجانب الآخر من عاصمة القوة الأوروبية الأكبر حاليًا، وإذ تُظهر التطورات الحالية في أوروبا (من كساد مقبل وبزوغ لشمس الرؤى اليمينية العنصرية في الانتخابات) أن انقسام مشابه لما قبل انهيار الجدار قد بدأ في التجذر؛ يكتسب المقال التالي أهمية كبيرة لفهم ما ستجلبه الأيام من تغيرات سياسية واجتماعية في القارة العجوز.
كان المعتقل السياسي السابق “كليفي يورتزا” يجلس في أحد البارات مثل هذا اليوم منذ 25 عامًا، لم يمر قبلها الكثير من الوقت منذ أن أُطلق سراحه من أحد سجون ألمانيا الشرقية؛ حيث ألقي القبض عليه نتيجة لمحاولته الدخول للجانب الغربي، وبعد أن أُطلق سراحه مُنع من العودة للجانب الشرقي لزيارة أسرته.
“دخل علينا رجل في تلك الليلة صارخًا: “لقد فُتح السور .. لقد فُتح السور”، فقلت له استمر في الحلم لكن لا تكثر من الخمر”.
الصورة: غرفة التحقيق في مبنى “أمن الدولة” ستازي في ألمانيا الشرقية
ويكمل السيد يورتزا قصته راويًا أنه عاد بعد ذلك إلى منزله وحتى بعد أن عرف بصحة الخبر في الصباح التالي لم يجرؤ على الاقتراب من الحدود لشهرين.
حاليًا يعمل السيد يوارتز مرشدًا سياحيًا في برلين، مخبرًا السياح وسكان المدينة عن برلين الشرقية التي عرفها؛ تلك المدينة التي بدأت في الذوبان تدريجيًا في ألمانيا الحديثة، مؤكدًا أنه لا يجب السماح بنسيان هذه القصص.
“قصص الناس الذين حاولوا الهروب، الذين أُطلقت عليهم النيران على السور أو نُقلوا إلى السجون لا بد أن تروى، تمامًا ككل ما ارتكب “ستازي” من جرائم، فإذا اختفت هذه القصص فكيف يمكن لنا التعلم من التاريخ”؟!
الصورة: فرانشيسكا كيلش أمام أحد مباني الستازي السابق
كان الجدار شيئًا ملموسًا يضرب بين نصفي برلين، شاهدًا على حذر وارتياب الجمهورية الألمانية الديموقراطية (ألمانيا الشرقية)؛ قاسمًا كل من سطح المدينة وقاعها، خالقًا عدد من محطات قطار الأنفاق المهجورة ومئات الأمتار من السلك الشائك في أنفاق المدينة.
يمثل انهيار الجدار حدثًا فاصلاً في تاريخ القرن العشرين، إلا أنه يمثل أيضًا نهاية انقسام نفسي حاد لدى سكانها، فإزالة الجدار نفسه لم تكن مهمة بقدر إزالة واحد من أشد الأنظمة القمعية والبوليسية التي عرفها التاريخ.
في محاولة للسيدة “فرانشيسكا كيلش” المرشدة السياحية في مركز قيادة ستازي في برلين الشرقية أن تحاكي حوار أحد المحققين مع متهم تُدخل أحد السياح لغرفة التحقيق، في الغرفة الخالية إلا من كراسي بسيطة والمعبقة برائحة الخوف ترحب كيلش بالسجين، وتبدأ في إخباره بأن زوجته لن تجلس في انتظاره حتى يعترف، وأن أطفاله سيكبرون بعيدًا عنه، وأنها لديها الكثير من الوقت لتجلس بجواره منتظرة أن يعترف بجرائمه في حق الدولة والاشتراكية، وأنه إذا لم يقم بالاعتراف من تلقاء نفسه فسيجلس في زنزانته وحيدًا لأشهر وسنين، في بيئة صممها عدد من علماء النفس الذين يعرفون كافة تفاصيل حياته خصيصًا لكسر إرادته.
الصورة: مواطنة من ألمانيا الشرقية تحتضن امرأة من الجانب الغربي بعد انهيار السور
كانت السيدة كيلش طفلة ذات ثمانية أعوام عندما إنهار الجدار، فلم تترك تلك اللحظة أثرًا حقيقيًا في ذاكرتها على الإطلاق، إلا أنها في وقت لاحق التقت بفتاة هرب أبواها من ألمانيا الشرقية قبل سقوط الجدار، وعرفت قصصًا عن القمع والظلم كانت تحدث على بعد دقائق من منزلها، فقد ذهب والد أحد الأصدقاء إلى أرشيف ستازي بعد أن سقط الجدار؛ ليكتشف أن جاره كان يتجسس عليه لسنوات، “فقد كتب تقارير تفصيلية عما كان والد صديقتي يفعل، كيف كان يعود إلى منزله مخمورًا وكيف مر بعدد من العلاقات العاطفية وكيف كان يرتدي ملابسًا غربية ويطيل شعره”، كانت هذه الملامح الطبيعية تمامًا لشاب في العشرين من عمره مثار شك لدى ستازي بما يكفي لوصفه بمعاداة الدولة.
سقطت الحواجز بين الشرق والغرب منذ ربع قرن من اليوم.
“لم أر في حياتي مثل هذا القدر من الإثارة والبهجة” يقول حارس الحدود الذي فتح أول بوابة عبور بين الشرق والغرب. ستذكر برلين هذا اليوم إلى الأبد بـ”حزام الضوء” (حزام طوله 13 كيلومترًا من بالونات الهيليوم المضاءة على طول سور برلين سابقًا)، بينما تعزف أوركسترا برلين سيمفونية بيتهوفن التاسعة “مغناة البهجة”.
” إنها فرصة جيدة حتى لا ننسى؛ فبالطبع لن يستطيع حزام الضوء أن يمثل ما كان عليه الجدار، إلا أنه يعطي فرصة جيدة للأجيال الجديدة أن تشارك في تذكر الحدث” على حد قول السيد يورتزا، إذ تقول السيدة كيلش أنها ستتذكر كل القصص والصور المتعلقة بالسور لدى مرورها بحزام الضوء؛ وما عنته لها هذه القصص أثناء تقدمها في العمر، ولن تنسى ما سمعته من زملائها من المرشدين ممن تم حبسهم واستجاوبهم وتعذيبهم داخل المبنى الرمادي المهيب من قصص يحكونها للسياح الفضوليين وأطفال المدارس.
الآن وحينها
“أعلم أنني سأرى تسجيلات فيديو للحظات مرور سكان الشرق إلى برلين الغربية، وأعلم أنني سأصاب بالقشعريرة مهما تكررت رؤيتي لها” تقول السيدة كيلش آملة أن “تحول البالونات المضيئة هذه الذكرى القبيحة المقبضة إلى سلسلة من الضوء، فأنا أعلم تمامًا أنني عندما أعبر أمامها يوم الأحد المقبل لن أستطيع حبس دموعي”.
المصدر: سيدني هيرالد