تعتبر القوة الناعمة اليوم أحد أكثر أنواع القوى تأثيرًا بين الفواعل الدولية للهيمنة وفرض الفنوذ، إذ تستخدمها الأطراف الدولية ذات الثقل والوزن السياسي للتأثير غير المباشر على توجهات وتقديرات فواعل دولية وإقليمية ومحلية أخرى بأساليب لا تنطوي على الإكراه والإجبار، التي تتميز بها عادة القوة الصلبة، بل على الإقناع والجذب والإغراء، في ظل غياب الشعور بالجانب الإكراهي والإملائي في العلاقة.
ويعرفها المنظر الأمريكي جوزيف ناي، صاحب كتاب “القوة الناعمة وسيلة النجاح في السياسة الدولية” بأنها “القدرة على الحصول على ما تريد، وجعل الآخرين يريدون ما تريد عن طريق القدرة على الجاذبية لا عن طريق الإرغام والقهر والتهديد العسكري”.
ويعد التوغل الثقافي والاجتماعي أبرز سياسات ومصادر القوة الناعمة وأخطرها، لما يمثله من تهديد جوهري متعدد الأوجه يمس النسيج المجتمعي وهوية المجتمع المستهدف، فالناس يعرّفون أنفسهم من خلال النسب والدين واللغة والعادات والتقاليد.
وبعد مرور أكثر من سبع سنوات على التدخل الروسي العسكري المباشر في سوريا الداعم لنظام الأسد في حربه ضد الشعب السوري، يمكن القول إن الدور الروسي في سوريا تشعب وانتقل إلى مستويات عدة شملت النواحي الثقافية والتعليمية، بعد أن كانت تحركات روسيا محصورة بالاستثمار في الملف السياسي والعسكري والاقتصادي السوري، لذا كان من الضرورة بمكان تسليط الضوء على جهود الروس الحاليّة الحثيثة للتغلغل ثقافيًا داخل النسيج المجتمعي السوري، والوقوف على أبرز ملامح وأدوات وأهداف مشروع روسيا للتوغل الثقافي في سوريا، مع الأخذ بعين الاعتبار تأثير هذا التغلغل على ثقافة وهوية المجتمع السوري.
تمهيد
تعمل روسيا على تعزيز تموضعها الدبلوماسي من خلال توظيف وجودها ونفوذها في سوريا، بوصفه ورقة تفاوضية مع الغرب والولايات المتحدة فيما يتعلق بملفات خلافية إشكالية، وفي سبيل انتزاع اعتراف دولي بدورها العالمي.
وتمثل سوريا بالنسبة لروسيا بوابةً لاستعادة الدور الروسي ونفوذه في الساحة الدولية كقوة عظمى منافسة للولايات المتحدة الأمريكية، وتربُعها على هرم النظام الدولي، والاضطلاع بدور عالمي جديد، بعد خسارة موقعها العالمي عقب انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991.
وفي سبيل تثبيت وجودها في سوريا وتحقيق توجهاتها الإستراتيجية لتوطيد نفوذ متداخلٍ طويل الأمد ينسجم مع مصالحها ومخططاتها المستقبلية في المنطقة، تسعى روسيا إلى المواءمة بين قوتها العسكرية وثقلها السياسي وتوغلها الثقافي والمجتمعي، معتمدةً على نفوذها المتزايد وتغلغلها في أروقة مؤسسات نظام الأسد للنفاذ إلى النسيج الثقافي السوري بهدف تغيير بنيته الثقافية والاجتماعية السائدة للتأثير على مستقبل سوريا، وذلك عبر أدوات عديدة مثل: تعليم اللغة وتعميم الثقافة الروسية وإلحاق الأطفال والشبان السوريين بالمدارس والجامعات الروسية بهدف استخدامهم وتطويعهم لخدمة مصالح وأجندات روسيا المستقبلية في سوريا والمنطقة.
وكل ذلك بتسهيل من نظام الأسد الذي تلاقت مصالحه المتمثلة بتثبيت أركان نظامه مع المصالح الإستراتيجية الروسية على حساب تطلعات وأماني الشعب السوري المشروعة.
القوة الناعمة في السياسة الروسية
استطاعت روسيا عبر تدخلاتها العسكرية المباشرة واستخدامها القوة الصلبة من فرض رؤيتها وتحقيق بعض المكتسبات في العديد من البلدان التي غزتها مؤخرًا كجورجيا وأوكرانيا، لكن بدا أَن هناك خللًا واضحًا ومعضلةً حقيقةً في طريقة استعمالها لأدوات القوة الناعمة بسبب الإستراتيجية الروسية المعتمدة أساسًا على القوة الصلبة (العسكرية والاقتصادية) في تطويع خصومها، الأمر الذي أفقدها القدرة على التأثير واستيعاب مجتمعات تلك البلدان وتحسين صورتها أمامها.
لكن من الملاحظ أيضًا تحول موسكو تدريجيًا نحو المزاوجة بين قوتها الصلبة والناعمة، وهو ما يمكن تتبعه من خطابات وتصريحات بعض القيادات الروسية وتأكيدها المستمر على أهمية الاتكاء على القوة الناعمة وإدراجها ضمن مجموعة أدوات السياسة الخارجية الروسية، إذ تكررت الإشارة إليها على لسان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في العديد من المناسبات التي دعا فيها إلى ضرورة تعزيز القوة الناعمة عبر تحسين صورة روسيا ومكانتها في الخارج، ونشر اللغة الروسية.
كما أوردت وثيقة منشورة على موقع وزارة الخارجية الروسية وموقعة من بوتين في العام 2016 أن “القوة الناعمة أصبحت جزءًا لا يتجزأ من الجهود المبذولة لتحقيق أهداف السياسة الخارجية”، وكان من آخر هذه التصريحات كلمة للمتحدث باسم الرئاسة الروسية دميتري بيسكوف الذي شدد أمام حشد من الطلبة الروس في منتدى “المعارف الجديدة” في موسكو على ضرورة مواصلة العمل في مجال القوة الناعمة التي تملك إمكانات “عميقة” للتأثير على الأطراف الأخرى.
وتمتلك روسيا مقومات وإمكانات تمكنها من تنويع مصادر قوتها الناعمة والتأثير من خلالها على تفاعلات الساحة الدولية والإقليمية، لعل أهمها: الأدوات الثقافية المتنوعة التي تضم اللغة الروسية والمراكز الثقافية والعلمية الروسية المنتشرة في أنحاء العالم، والدين والسياسات الخارجية، وغيرها من الأدوات التي تروج من خلالها لمشاريعها وقيمها، وهو ما يظهر جيدًا في طريقة تعاطيها مع الملف السوري بعد تدخلها المباشر في عام 2015.
استثمار روسي في المستقبل السوري
سعت روسيا للاتساق والانسجام مع تطورات القضية السورية في ضوء زيادة وتيرة انخراطها المباشر داخل دهاليز الصراع في سوريا، وغوصها في تفاصيل وتشعبات الملف السوري، وذلك عبر تنسيق جهودها لرسم مقاربة تغطي نواحي عديدة، وتدشين مرحلة جديدة نظرًا إلى أن التدخل العسكري الروسي يأتي في سياق حسابات موسكو الإستراتيجية العليا الإقليمية والدولية، متجاوزًا الجغرافيا السورية من ناحية التطلُعات والمكاسب المرجوة مستقبلًا، وبالتالي، لا بد لهذا الوجود طويل الأمد من إيجاد عمق وقبول مجتمعي نسبي مستدام بين السوريين يستند عليه، وإعداد كوادر تابعة لروسيا مستقبلًا، لا سيما ضمن فئة الشباب والأطفال، وذلك عبر أدوات تعليمية عديدة لتأسيس تبعية ثقافية يمكن إيجازها كالتالي:
اللغة الروسية
منذ العام 2015 أدرجت وزارة التربية في حكومة نظام الأسد اللغة الروسية ضمن المناهج التعليمية لطلاب المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية كلغة أجنبية اختيارية ثانية إلى جانب اللغتين الإنجليزية والفرنسية، إذ تجتهد روسيا في افتتاح أقسام لتدريس اللغة الروسية في المناطق التي يسيطر عليها النظام عبر كادر روسي خاص.
ففي العام 2014 تم افتتاح قسم لتعليم اللغة الروسية في كلية الآداب بجامعة دمشق، وأقامت في حلب أول روضة لتعليم اللغة الروسية للأطفال السوريين في سن الخامسة من العمر، كما افتتحت حكومة النظام بالتعاون مع روسيا في جامعة دمشق مركزًا لتنسيق التعاون بين الجانبين في مجال تعليم وخدمة اللغة الروسية للطلاب السوريين، لتعلن موسكو عبر وسائل إعلامها عام 2018 عن افتتاح أول مدرسة روسية في الشرق الأوسط في دمشق، معتبرةً أن “سوريا تشهد اهتمامًا متزايدًا بالتعليم العالي الروسي، وارتفاعًا في شعبية اللغة الروسية في عموم المحافظات السورية” على حد زعمها.
وضمن جهودها في تحسين شروط تعليم اللغة الروسية وتحقيق مزيدٍ من الإقبال عليها، أعلنت وزارة التعليم الروسية عن قرار افتتاح شبكة مراكز التعليم المفتوح باللغة الروسية في سوريا بين عامي 2019 ـ 2025، إضافة إلى تقديم منح موازية لدراسة الأدب الروسي في موسكو ضمن خطة لتأهيل كوادر سورية لتدريس الأدب الروسي بعد عودتهم إلى سوريا.
يبدو أن تماهي نظام الأسد مع المشروع الروسي يعود في مجمله إلى رغبته في استرضاء حليفه الروسي بعد الدعم اللامحدود الذي قدمته روسيا له، وذلك عبر المساهمة في تقديم تسهيلات والترويج لنشر اللغة الروسية والتشجيع على تعلمها
وتعد مناطق الساحل مكانًا خصبًا للترويج وشيوع اللغة الروسية، نظرًا لوجود قاعدة عريضة موالية لنظام الأسد في ظل تقديم روسيا لمغريات وتسهيلات واسعة، إضافة إلى قرب تلك المناطق من القاعدة العسكرية الروسية حميميم التي افتتحت فيها قسمًا ثقافيًا ضمن مركز “المصالحة الروسية” الذي يديره ضباط روس لمتابعة كل ما يتعلق بالأنشطة الثقافية الروسية في سوريا، وقد شهدت مدينة جبلة بريف اللاذقية مؤخرًا افتتاح مركز “الفجر” لتعليم الأطفال السوريين اللغة والثقافة الروسيتين.
ويعود الإقبال المتزايد نسبيًا لتعلم اللغة الروسية من السوريين الموجودين في مناطق سيطرة النظام في الغالب إلى الإغراءات التي تقدمها روسيا والنظام من منحٍ دراسية ودورات مجانية، ويبدو أن سوء الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في مناطق النظام تعدَُ من أبرز أسباب هذا الإقبال وأوجهها، مظنة الاستفادة ماديًا بالعمل ضمن المشاريع الروسية المحتملة في مرحلة إعادة الإعمار، والتوظيف في الشركات الروسية العاملة في مختلف القطاعات الاقتصادية، كل ذلك بترويجٍ ودعمٍ من روسيا والنظام، استغلالًا منهم لحاجة السوريين وعوزهم.
ويبدو أن تماهي نظام الأسد مع المشروع الروسي يعود في مجمله إلى رغبته في استرضاء حليفه الروسي بعد الدعم اللامحدود الذي قدمته روسيا له، وذلك عبر المساهمة في تقديم تسهيلات والترويج لنشر اللغة الروسية والتشجيع على تعلمها.
ففي وقت سابق أعرب رأس النظام أن تعليم اللغة الروسية “يساهم في حل مشكلات الدول العربية بالتبعية للغرب أو الوهابية أو الأفكار الإرهابية”، مقترحًا إنشاء مراكز أو إقامة دورات لغوية لتعلمها، وذلك بالتزامن مع جهود دعائية وترويجية تقوم بها “وزارة التربية” التابعة للنظام في دعم المساعي الروسية لنشر اللغة الروسية، إذ اعتبرت الوزارة أن “عدد الطلاب السوريين الذين يتلقون دورات تعليمية ضمن مشروع تعليم اللغة الروسية في المدارس بلغ 31 ألف طالب موزعة على 217 مدرسة”.
إضافة إلى الهيمنة الروسية الواضحة الممتدة إلى مختلف مؤسسات النظام العسكرية والاقتصادية والثقافية وتحكمها في توجهاتها وقراراتها، الأمر الذي منحها رافعة قوية في سبيل تحقيق مشروعها الثقافي طويل الأمد في سوريا.
شراء الولاءات وتجنيد الأطفال
لم تكتف روسيا بنشر اللغة الروسية بين السوريين كمسار وحيد للتغلغل ثقافيًا، بل استعملت أدوات عديدة ومتنوعة على كل الأصعدة بحسب تبدلات وتغيرات الوضع السوري، إذ ركزت جهودها لاستقطاب طلاب الجامعات والمدارس للتأثير عليهم في المجالات التعليمية والثقافية.
فعلى سبيل المثال، أعلنت روسيا رغبتها في افتتاح فرع لجامعة موسكو في سوريا بعد محادثات مع مسؤولين في حكومة النظام، وتقديم الكثير من المنح الدراسية المجانية لمئات الطلاب السوريين، ومن ثم إصدارها مرسومًا يسمح للأطفال السوريين بالالتحاق بالمدارس العسكرية والتعليمية الروسية مجانًا بعد توقيع اتفاق مع نظام الأسد.
وافتتحت فرعًا جديدًا لكلية “ناخيموف” البحرية الروسية الشهيرة بهدف تقديم العلوم العسكرية وفق الرؤية الروسية للشباب السوريين اليافعين، لتعلن وزارة الدفاع الروسية بعد ذلك عن وصول مجموعة من التلاميذ السوريين إلى موسكو بدعوة من وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو “للتعرف على التاريخ الروسي والتقاليد والثقافة ومعالم العاصمة الروسية”.
وغير ذلك من البرامج والمشاريع الثقافية التي تهدف روسيا من خلالها إلى إنشاء جيل تابع لها فكريًا وثقافيًا وإعداد ثلة من الجنود المحتملين واستخدامهم بهدف التوسع ونشر ثقافتها وزيادة التغلغل داخل النسيج الاجتماعي السوري، وفي أروقة المؤسسات الحكومية لتأسيس وجود مستدام وتأثير طويل الأمد على مستقبل سوريا، الأمر الذي يؤثر بدوره سلبًا على هوية الشعب السوري الثقافية ويؤدي بطبيعة الحال إلى عملية تغييب لتاريخه وانتماءاته الوطنية.
تأثير التغلغل الثقافي الروسي على هوية السوريين
اعتبر الباحث في مركز الحوار السوري ومدير وحدة التوافق والهوية المشتركة الدكتور أحمد قربي أن “التغلغل الثقافي الروسي يحمل في طياته مخاطر وتحديات كبيرة على هوية وثقافة الشعب السوري ويؤثر سلبًا على الهوية الوطنية الجامعة للسوريين وبالتالي، يهدد بشكل مباشر الوحدة الوطنية السورية”.
وأوضح قربي أن “روسيا تعمل عبر أدواتها الخاصة على إثارة الانقسامات وزرع الفتنة بين أبناء المكون الواحد عن طريق تنميط صورة المسلم السني المؤيد لنظام الأسد على أنه شخص مسلم حقيقي وطني يمكن التعايش معه، في حين يتم التسويق على أن المعارض للنظام هو شخص إرهابي غير وطني، وهو ما يشكل تهديدًا للهوية الوطنية السورية”.
ويضيف الباحث “روسيا تلجأ أيضًا إلى تغذية النزاعات الطائفية وذلك عبر ربط فئات محددة من الشعب السوري (تحديدًا الأقليات المسيحية والعلوية) بالمصالح الروسية الإستراتيجية بحيث تحول ولاء هذه المكونات السياسي لروسيا ولتوجهاتها وتقديراتها في المنطقة، ما يعني إضعاف ولاء السوريين للدولة السورية واستبداله بولاء لقوى خارجية أجنبية”.
وذهب قربي إلى أن سبل مواجهة هذا المشروع الثقافي الروسي في سوريا تتم من خلال تعميق الانتماء والهوية الوطنية الجامعة التي تتم عبر بناء توافق وطني على مشروع يجمع كل مكونات الشعب السوري دون إقصاء تيار أو فئة، لكنه استبعد في نفس الوقت حدوث هذا التوافق على المدى المنظور نظرًا إلى عدم توافر بيئة مستقرة مساعدة في ظل وجود نزاعات وشروخ اجتماعية، معتبرًا أن “الحديث عن توافق وطني يبقى مجرد شعارات ما لم يحدث انتقال سياسي حقيقي ينهي عصر الاستبداد والظلم”.
ما الذي يمكن فعله لمقاومة الغزو الثقافي الروسي؟
“فعاليات توعية عامة للسوريين إعلاميًا وسياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا في سبيل مقاومة التغلغل الثقافي الروسي في سوريا، وتحذيرهم من مخاطر هذا المشروع على مستقبل أطفالهم وذويهم ودولتهم، مع العمل على فضح هذا المشروع وتعريته باستخدام المنابر المحلية والعالمية ومحاولة حشد رأي عام عربي وعالمي لكبح جماح هذا الخطر المحدق على هوية وثقافة الشعب السوري”، يشرح الباحث.