أثارت عملية تصاعد الاحتقان الأمني في محافظة ديالى شرق العراق، إثر هجوم مسلح شنه تنظيم داعش على قضاء المقدادية، خلف العديد من القتلى والجرحى، وما تبعه من ردة فعل انتقامية قامت بها جماعات مسلحة يُشتبه بانتمائها لفصائل مسلحة في قرية نهر الإمام المجاور للقضاء، العديد من الأسئلة والاستفسارات عن مستقبل الوضع الأمني في العراق، وخصوصًا مع تزايد حدة الخلاف بين العديد من الكتل السياسية بخصوص نتائج الانتخابات المبكرة، وتلويح العديد من هذه الكتل بأن هذه النتائج ستهدد السلم الأهلي في العراق، فيما لو تم المضي بعملية تشكيل الحكومة العراقية الجديدة وفق النتائج الأخيرة.
وتأتي هذه التطورات الأمنية مع إعلان المفوضية العليا المستقلة للانتخابات انتهاء أغلب عمليات العد والفرز اليدوي في المحطات الانتخابية المطعون بها في عموم العراق، مشيرةً إلى أنه لا يمكن إجراء عد وفرز يدوي عام، لأن ذلك يتطلب تشريعًا قانونيًا، وهو ما تطالب به الكتل المعترضة.
الاستثمار في الفوضى الأمنية
في هذا السياق أيضًا، تستمر عمليات الاحتجاج الذي تقوم به قوى الإطار التنسيقي الشيعي الرافض لنتائج الانتخابات، فقد شهد الأسبوع الماضي محاولة لاقتحام بوابة المنطقة الخضراء، فيما شهد هذا الأسبوع انتشار رقعة الاحتجاج لتشمل العديد من الساحات المهمة داخل العاصمة بغداد، وهو مؤشر خطير لإمكانية أن تذهب الأوضاع السياسية نحو حالة انسداد سياسي، وهي حالة تأتي مترافقة أيضًا مع ضبابية كبيرة تكتنف خريطة التحالفات الانتخابية التي تبدو أنها غير واضحة حتى الآن.
فالاستثمار بالفوضى الأمنية الحاصلة في مدينة ديالى، قد يوفر فرصة مهمة للخاسرين لإعادة تجديد الثقة بهم، من خلال ترجمة ما يحصل في إطار صراع مستمر بين تهديدات تنظيم داعش ووجود المكون الذي يدافعون عنه، في إعادة واضحة لصراع ثنائية (نحن وهم)، وهي ثنائية مهمة وفرت فرصة للعديد من الكتل السياسية، وتحديدًا تحالف الفتح (الذي تنضوي ضمنه أغلب الفصائل المسلحة بالعراق)، في تحقيق مساحة نفوذ مهمة خلال الفترة الماضية، ويسعى لإعادة إحياء هذه الثنائية الآن أيضًا، بعد أن خسر العديد من المقاعد في الانتخابات المبكرة.
تبدو النجف مترددة حتى اللحظة في دخول المعترك الحاليّ، لأنها لا تريد أن تتعرض للنقد الشعبي في حالة تبنيها لأي مشروع سياسي حاليّ، خصوصًا أن أغلب الحاضرين هم ممن فشلوا في تقديم جديد يذكر في الساحة السياسية
إن الرؤية السياسية اليوم تبدو مفتوحة على العديد من الخيارات المعقدة، في ظل عجز حكومي واضح عن ضبط إيقاع العملية الأمنية في العراق، فقد تزايدت عمليات التعرض التي يقوم بها تنظيم داعش في ديالى وصلاح الدين وجنوب كركوك، وعلى الشريط الحدودي بين العراق وسوريا، فضلًا عن تزايد تهديدات الفصائل المسلحة بإرباك الوضع الأمني في حالة مضي نتائج الانتخابات على شاكلتها الحاليّة.
المواقف الخارجية
إن هذا العجز يطرح العديد من التساؤلات عن قدرة الحكومة العراقية على معالجة هذا الواقع فيما لو اتجهت الأمور نحو الفوضى، خصوصًا أن المشهد الانتخابي في العراق، لم يعد مقتصرًا على ديناميات الحالة العراقية فقط، وإنما بدأ يشهد بدوره تزاحمًا خارجيًا واضحًا، وهو ما بدأ يتضح بصورة جلية في تصريحات المسؤولين الأمريكيين والإيرانيين بشأن تطورات الساحة العراقية.
فالإطار التنسيقي الشيعي الرافض لنتائج الانتخابات، يدرك جيدًا أن أفقه السياسي لم يعد متاحًا لدرجة كبيرة، بعد بيانات الدعم الدولي لنتائج الانتخابات، وأن ذهابه نحو إجراءات تصعيدية أكثر خطورةً، قد تنعكس سلبًا عليه.
وبالإضافة إلى ما تقدم، فإن مسارات (النجف وطهران وواشنطن) تبدو حتى اللحظة غير متوافقة على صفقة سياسية واضحة قد تبعد العراق عن شبح الفوضى، فرغم تحدث العديد من المصادر عن قرب عقد اجتماع في النجف برعاية نجل المرجع الأعلى الشيعي علي السيستاني (محمد رضا السيستاني)، يضم جميع قيادات الكتل الشيعية، من أجل الوصول إلى مقتربات سياسية واضحة يمكن البناء عليها، فإن النجف يبدو أنها مترددة حتى اللحظة في دخول المعترك الحاليّ، لأنها لا تريد أن تتعرض للنقد الشعبي في حالة تبنيها لأي مشروع سياسي حاليّ، خصوصًا أن أغلب الحاضرين هم ممن فشلوا في تقديم جديد يذكر في الساحة السياسية.
أما طهران وواشنطن، فإلى جانب أنهما ينظران للعراق على أنه ساحة صراع مهمة لنفوذ كل منهما، إلا أن نتائج الانتخابات المبكرة أعادت تشكيل نهج كل منهما، وتحديدًا على مستوى المحادثات النووية في فيينا، إذ يبدو أن واشنطن بدأت تدرك أن التغيير الحاصل في العراق، يمكن أن ينعكس على مسار المحادثات النووية في ظل خسارة حلفاء إيران.
وهو ما قد يعيد تشكيل الحديث عن النفوذ الإقليمي الإيراني وفق سياق التطورات الأخيرة، وهو ما لا تريده إيران، وهو أيضًا ما عبر عنه وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان مؤخرًا في مؤتمر جوار أفغانستان في طهران، من أن إيران ترغب بإعادة تشكيل شكل ونهج التفاوض، ولا تفكر بالعودة إلى طاولة المفاوضات في الفترة الحاليّة.
مشهد العودة مرة أخرى للانتخابات المبكرة قد يبدو مخرجًا مهمًا فيما لو لم تتمكن القوى السياسية الحاليّة من تحقيق أرضية سياسية مهمة تحفظ التوازن الداخلي
إن تطورات المشهد العراقي يثير حساسيات كثيرة عن الكيفية التي سيتم بها تدارك الاحتقان الأمني الحاليّ، فتضارب المواقف السياسية عن طريقة ترتيب الاستحقاقات الدستورية للمكونات الثلاث، تشير أننا سنكون أمام حكومة توافقية هشة قد لا تتمكن من الصمود أمام أي هزة سياسية تعصف بالبلد، كما أن مشهد العودة مرة أخرى للانتخابات المبكرة قد يبدو مخرجًا مهمًا فيما لو لم تتمكن القوى السياسية الحاليّة من تحقيق أرضية سياسية مهمة تحفظ التوازن الداخلي.
فكتل الفتح ودولة القانون ومعهم كتل سياسية أخرى، يبدو أنها غير قادرة على المضي بمشهد سياسي يتحكم به التيار الصدري، كما أن التيار الصدري يبدو أنه لن يفرط في الاستحقاق الانتخابي، وبالتالي فإن هذه الصورة تضعنا أمام سيناريوهات سوداوية عديدة بانتظار الشارع العراقي، الذي يبدو هو الآخر غير مطمئن لطبيعة المستقبل الذي ينتظره.