مع تصاعد الضغوط التضخمية في جميع أنحاء العالم، الناتجة بشكل أو بآخر عن تعافٍ أسرع من المتوقع من آثار جائحة كورونا على الاقتصاد العالمي، التي أدت إلى مشاكل منها ما كان متوقعًا ومنها ما لم يكن في الحسبان، فحتى المؤسسات المالية الكبرى راجعت تقاريرها وتوقعاتها بخصوص النمو والتضخم عدة مرات خلال الأشهر الماضية، وبالطبع لا يلام أحد على ذلك، فالتحديات التي جاءت بها جائحة كورونا تقريبًا غير مسبوقة في التاريخ الحديث، لم يكن أمام بنوك العالم المركزية إلا أن تتعاطى مع الوضع ضمن ما تبادر به نظراؤها في الدول القيادية وعلى رأسها الفيدرالي الأمريكي والمركزي الأوروبي، اللذان اتخذا من التيسير النقدي عنوانًا أساسيًا لمجابهة شبح الكساد الذي من الممكن أن تخلفه الأزمة.
بالفعل أتت سياسة إغراق الأسواق بالأموال بنتائج مهمة وكبيرة، فقد أنقذت ملايين الشركات والأسر في العالم من الإفلاس، ولم تنجح في إنقاذ بضعة ملايين أخرى، لكن هذا هو الحال الذي بكل تأكيد أفضل من دخول العالم بأسره في أزمة مالية خانقة كان يمكن أن تستمر آثارها لسنوات قادمة طوال.
العولمة لم تكن مستعدة للصين ولا لكورونا
مما لا شك فيه أن العولمة ساهمت في النقلة الحضارية المهولة التي شهدتها معظم دول العالم الأقل تقدمًا، ولا مثال أفضل من الصين التي عصرت فوائد العولمة حتى آخر قطرة، وكانت قبل 20 سنة من اليوم تعاني من اقتصاد مثقل بملايين الأفواه الجائعة لتصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم، كل ذلك بفضل العولمة التي نقلت الإنتاج بعيدًا عن منابع رأس المال وخارج حدود الدول المتقدمة.
وبالطبع استيقظت الولايات المتحدة والغرب متأخرين كثيرًا، ليجدوا الصين التي نسخت كل ما أمكنها نسخه من التكنولوجيا الغربية والأمريكية، بدأت تتوسع خارج حدودها وتنازع القوى الرأسمالية المتحالفة في كثير من دول العالم التي لم تتمكن من فعل ما فعلته الصين وظلوا في المقاعد الخلفية دون تطور داخلي حقيقي.
جاءت كورونا والعالم دون استثناء متعولم ويعتمد بشكل كبير على ما ينتج خارج أراضيه، وكما فتكت الجائحة بالأرواح فتكت بملايين الأعمال والشركات حول العالم، فمن المزارعين الذين كسدت محصولاتهم إلى الفنادق التي شغرت غرفها لشهور طويلة وصولًا إلى شركات النفط العملاقة التي تقلص الطلب عليه بشكل هائل بسبب الإغلاق لتصل أسعاره إلى السالب في ذروة الأزمة، لتثقل الشركات والمزارعين بالديون ويخرجون من العمل مكسورين في ظل حالة عدم اليقين التي أحاطت بالعالم.
كورونا واختلال في متطلبات العالم
أدت الجائحة إلى اختلال في الطريقة التي تسير بها البضائع والخدمات في العالم، فبعد توقف مفاجئ في الاقتصاد في بداية 2020 جاء الانفتاح بطريقة أقل ما توصف بأنها أسرع من المتوقع، والفضل لذلك يعود للتطور الكبير الذي مكن شركات الدواء من تطوير عدد لا بأس به من اللقاحات في فترة قياسية.
هذان التغيران المفاجئان من التوقف والعودة الأسرع من المتوقع وما بينهما من تغيرات في سلوك المستهلك وطريقة عمل الشركات التي تمكنت من التأقلم وامتصاص الصدمة والشركات التي أفلست أو تعرضت لأضرار فادحة، أو الشركات والأعمال التي انتعشت ونمت بفضل الأزمة، كل هذا أدى إلى خلل فيما يسمى سلاسل التوريد في عالم متعولم كان يعتمد فيما يستهلك على دول أخرى لم تتمكن من تزويده بما اعتاد بسبب الأزمة، وعندما انفرجت لم يعد هناك ما يكفي من المنتجين أو الناقلين أو حتى من العمالة الجاهزة للقيام بالمهام، ودخل العالم في أزمة تزايد الطلب على السلع والخدمات التي تقلص عدد منتجيها بسبب الجائحة وصدماتها بين الإغلاق والفتح.
النفط لاعب أساسي
أثارت أسعار الطاقة عند أعلى مستوياتها في عدة سنوات والصخب المستمر بشأن مشاكل سلسلة التوريد العالمية مخاوف من ارتفاع التضخم في المستقبل، وفي حين أصبحت النرويج ونيوزيلندا أول دولتين متقدمتين ترفعان معدلات الفائدة في خطوات لكبح التضخم، ما زال الفيدرالي الأمريكي محافظًا على سياسة التيسير النقدي مع إرسال إشارات واضحة ومتكررة بأنه سيبدأ بتقليص الأموال التي يضخها في الأسواق تدريجيًا مع بداية العام القادم.
وفقًا لأحدث توقعات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD، سيستمر التضخم في الارتفاع خلال العامين المقبلين، ومن المتوقع أن تكون زيادات الأسعار أعلى بشكل كبير في عام 2021 وعام 2022 مما توقعته المنظمة في السابق لمعظم دول مجموعة العشرين.
وأضافت بأن سرعة التعافي الاقتصادي زادت من الضغوط التضخمية، متوقعةً المنظمة أن يبلغ متوسط معدل التضخم في الاقتصادات الكبرى لمجموعة العشرين 4.5% في الربع الأخير من العام، مع 1.5 نقطة مئوية بسبب ارتفاع تكاليف الشحن وأسعار السلع الأساسية مثل الطاقة.
وبحسب ما قال كبير الاقتصاديين في المنظمة الاقتصادية لورانس بون، فإن إدارة التضخم ستكون عملية موازنة صعبة للغاية بالنسبة لصانعي السياسة.
وقال لويس دي جويندوس نائب رئيس البنك المركزي الأوروبي إن “هناك مخاطر من ضغوط أكثر استمرارًا على التضخم في المستقبل”، خاصة إذا كانت القفزة الأخيرة في الأسعار التي يغذيها جزئيًا ارتفاع تكاليف الطاقة، تغذي الطلب على الأجور المرتفعة.
ارتفعت توقعات التضخم في الولايات المتحدة عام 2021 من 2.9% إلى 3.6%، بالنسبة للمملكة المتحدة، كانت الأرقام المكافئة 1.3% في يونيو/حزيران و2.3%.
إلى متى سيستمر التضخم في الارتفاع؟
قالت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إن المهمة الأكثر إلحاحًا هي إبلاغ الجمهور بأن التضخم المتزايد له العديد من الميزات المؤقتة التي في الغالب ستكون تعديلًا للأسعار لتعود إلى المستويات التي كانت متوقعة بعد الانخفاضات المؤقتة في أثناء الوباء.
ومن المتوقع أيضًا أن تخف اختناقات العرض مع ارتفاع معدلات التطعيم ضد كوفيد-19، خاصة في الاقتصادات الناشئة، ومع الدعم الحكومي الضخم المرتبط بالوباء إلى حد كبير في مختلف الدول، من غير المرجح أن يخرج الطلب عن السيطرة، ومن المتوقع أن تستقر الأسعار خلال الأشهر القادمة بمعدلات أعلى مما كانت عليه قبل الوباء وهذا ليس بالشيء السيئ في حال ظل في إطار التضخم الصحي الذي يساعد الاقتصاد على النمو.
من الناحية الأخرى، يجب الأخذ بعين الاعتبار أنه على الرغم من الطبيعة المؤقتة لكثير من مسببات التضخم ذلك لن يمنع العديد من الشركات من رفع الأسعار لمواكبة تكاليف الإنتاج المرتفعة، وأيضا سيكون من العدل أن يطالب الموظفين والعاملين بأجور أعلى وذلك بدوره يعني زيادة أكثر في تكاليف الإنتاج، مما يجعل التضخم المؤقت يدوم لفترة أطول ويدخل حلقة مفرغة ما بين زيادة في تكاليف الإنتاج مدفوعة بالأجور جنبا إلى جنب مع ما يخلقه هذا الارتفاع غير الحقيقي في دخل المواطنين مع زيادة في الطلب لتصبح النتيجة تضخمًا أكثر ضررًا وديمومة.
وهذا الوضع يجب أن يتم تجنبه من خلال الدعم الحكومي للتخفيف من عبء المرحلة التضخمية المؤقتة إن صح القول، وبالطبع الدعم الحكومي لن يأتي بشكل مجاني تحديدا إلى الدول الناشئة مثل تركيا والتي أثقلت بمليارات الدولار جراء الأزمة ودخلت في مصيدة أسعار الفائدة والصرف والتضخم.
الخبر السار هنا هو أن الانتعاش كان سريعًا بشكل غير عادي، ومع الطبيعة المؤقتة لمسببات التضخم فإن احتمال أن تعاني الاقتصادات المتقدمة من أضرار حقيقية على المدى الطويل صغيرة، بل حتى قد يكون هذا جيدًا بالنسبة للبلدان التي كان أداؤها الاقتصادي جيدًا قبل الوباء، مثل الولايات المتحدة، ولكن ليس جيدًا بما يكفي للبلدان التي لا يزال التعافي فيها إلى مسار ما قبل الجائحة، والذي يعني ارتفاع معدلات البطالة وضعف النمو، لتبدأ بأسوأ مما كانت عليه قبل الوباء مثقلة بالمزيد من الديون.