ما زالت أصدار القرارات التي اتخذها رئيس مجلس السيادة السوداني، عبد الفتاح البرهان، في 25 من الشهر الحاليّ، تلقي بظلالها على المشهد الضبابي المفتوح على كل الاحتمالات في ظل استمرار الاحتجاجات الرافضة لما وصفته بـ”الانقلاب العسكري مكتمل الأركان” الذي قام به الجنرال على مكتسبات ثورة ديسمبر/كانون الأول ومسار الانتقال الديمقراطي.
الإجراءات التي أعلنها البرهان بحل مجلسي السيادة والوزراء وإعفاء الولاة وتعليق بعض مواد الوثيقة الدستورية وإعلان حالة الطوارئ في البلاد، لاقت ردود فعل منددة من العديد من العواصم الأوروبية والكيانات الأممية والإقليمية، التي طالبت بضرورة العودة للمسار الديمقراطي وتسليم الحكم للمدنيين ووقف التغول العسكري على السلطة في البلاد.
وعلى عكس تنديد دول كثيرة بالانقلاب بشكل مباشر وصريح، داعية البرهان للتراجع عن انقلابه، جاءت مواقف السعودية والإمارات ومصر تحديدًا مثيرة للجدل، إذ لم تتعرض لا من قريب أو بعيد بتوصيف ما حدث كونه انقلابًا، وبدلًا من الانتقاد والمطالبة والضغط لإعادة الأمور إلى نصابها الدستوري المتفق عليه، تحدثت البيانات الصادرة عن العواصم الثلاثة عن “أهمية تحقيق الاستقرار والأمن والازدهار وضبط النفس وتغليب المصلحة العليا للوطن وحماية وحدة الصف والحفاط على المكتسبات”.
بيانات مثيرة للجدل
الخارجية المصرية في بيانها قالت: “مصر تتابع عن كثب التطورات الأخيرة في السودان الشقيق”، مؤكدةً في الوقت ذاته “أهمية تحقيق الاستقرار والأمن للشعب السوداني والحفاظ على مقدراته والتعامل مع التحديات الراهنة بالشكل الذي يضمن سلامة هذا البلد الشقيق”.
وشدد البيان على أن “أمن واستقرار السودان جزء لا يتجزأ من أمن واستقرار مصر والمنطقة”، داعيًا “كل الأطراف السودانية الشقيقة، في إطار المسؤولية وضبط النفس، لتغليب المصلحة العليا للوطن والتوافق الوطني”، فيما أوضح المتحدث باسم الوزارة أن الوزير سامح شكري تلقى اتصالًا من المبعوث الأمريكي للقرن الإفريقي چيفري فلتمان تم خلاله تناول التطورات الأخيرة على المشهد السوداني.
لا يختلف البيان السعودي عن نظيره المصري، إذ أكدت المملكة على لسان وزارة خارجيتها أنها “تتابع بقلق واهتمام بالغ الأحداث الجارية، وتدعو إلى أهمية ضبط النفس والتهدئة وعدم التصعيد، والحفاظ على كل ما تحقق من مكتسبات سياسية واقتصادية، وكل ما يهدف إلى حماية وحدة الصف بين جميع المكونات السياسية في السودان الشقيق”، مضيفة “تؤكد المملكة استمرار وقوفها إلى جانب الشعب السوداني الشقيق ودعمها لكل ما يحقق الأمن والاستقرار والنماء والازدهار للسودان وشعبه الشقيق”، وفقًا لما نقلت وكالة الأنباء السعودية.
لم تخرج الإمارات عن السياق ذاته، إذ أكدت وزارة الخارجية الإماراتية أن الإمارة الخليجية “تتابع عن كثب التطورات الأخيرة في السودان الشقيق”، داعية إلى “التهدئة وتفادي التصعيد”، مؤكدة “حرصها على الاستقرار وبأسرع وقت ممكن، وبما يحقق مصلحة وطموحات الشعب السوداني في التنمية والازدهار”، مشددة في الوقت ذاته على “ضرورة الحفاظ على ما تحقق من مكتسبات سياسية واقتصادية وكل ما يهدف إلى حماية سيادة ووحدة السودان”.
ويلاحظ في البيانات الثلاث أنها لم تندد بما حدث، ولم تصفه بالانقلاب أو على الأقل التطور الخطير، لكن جاءت – حفظًا لماء الوجه – دبلوماسية، ممسكة بالعصا من المنتصف، توحي بعدم الاعتراض على تلك الإجراءات الديكتاتورية ورضى ضمنيّ بما جرى، وهو الموقف غير المستغرب عن الدول الثلاثة، لا سيما الدولتين الخليجيتين، رائدتي الثورات المضادة في المنطقة منذ 2011 وحتى اليوم، وأصابعهما واضحة في كل الدول التي وقف بها قطار الربيع العربي.
لا انقلاب دون دعم
بداية لا بد من الإشارة إلى أنه لا يوجد انقلاب في العالم دون دعم محلي وإقليمي ودولي، هذا الدعم أيًا كان مستواه بمثابة الضوء الأخضر الذي يُمنح للمنقلبين لتنفيذ مخططهم، ومن ثم لا يجرؤ أي فصيل، على الإقدام على هذه الخطوة دون توفير حاضنة سياسية واقتصادية تمهد له الطريق وتمتص التبعات المتوقعة لهذا التحرك الذي من شأنه مواجهة العديد من العقبات.
فما كان يجرؤ وزير الدفاع المصري خلال حكم الرئيس الراحل محمد مرسي، الفريق عبد الفتاح السيسي، على تنفيذ انقلابه في 3 يوليو/تموز 2013 دون دعم سعودي إماراتي، سواء للتمهيد لهذا الانقلاب أم لدعم الدولة العسكرية الجديدة بعدما أطاحت بثورة يناير ومكتسباتها.
الأمر ذاته مع الجنرال الليبي خليفة حفتر، الذي لم يتحرك خطوةً واحدةً في مناهضة إرادة الشعب الليبي ومقاومة الحكومة المعترف بها أمميًا، دون الحصول على إذن القادة في القاهرة وأبو ظبي، حتى تحول الرجل إلى دمية تحركها أطراف خارجية ذات أجندات توسعية داخل التراب الليبي.
وأخيرًا.. الرئيس التونسي قيس سعيد، الذي ظل خاملًا منذ توليه الحكم، ليستأسد بين ليلة وضحاها على دستور بلاده، ويحل الحكومة ويجمد عمل البرلمان، ويطيح بمكتسبات ثورة الياسمين، ما كان له أن يقدم على ذلك دون دعم وتنسيق إقليمي ودولي، وهو ما كشفته الأحداث تباعًا، لا سيما أنه لا يملك كاريزما الانقلابات وليس لديه مقومات الزعيم القوي.
الحالة السودانية لا تختلف كثيرًا عن نظيرتها في الدول الشقيقة، ولعل الموقف الروسي الداعم لإجراءات البرهان داخل مجلس الأمن خلال جلسة أول أمس التي عقدت لمناقشة تطورات الوضع هناك، ورفض المندوب الروسي وصف ما حدث بالانقلاب، داعيًا للجلوس مع الجنرالات لمناقشة تلك التطورات والاستماع إليهم، أكبر دليل على أن التحرك لم يكن عفويًا.
ربما يفهم من الموقف الروسي محاولة لإيجاد موطئ قدم داخل الأراضي السودانية كبوابة للتوغل إفريقيًا، بعد الضربات التي تعرضت لها موسكو داخل القارة السمراء مؤخرًا، في ظل صراع النفوذ مع أمريكا والصين، في محاولة لاستنساخ التجربة السورية مرة أخرى لكن هذه المرة فوق التراب الإفريقي، غير أن ما نحتاج فهمه هو موقف الدول العربية إزاء أحداث الإثنين الأسود.
الدعم الخليجي للبرهان
منذ الوهلة للثورة السودانية التي أطاحت بنظام عمر البشير في أبريل/نيسان 2019 كان الدعم الخليجي لجنرالات السودان والمجلس العسكري السمة الأبرز للمشهد حينها، الأمر الذي أثار قلق القوى الثورية المدنية في ذلك الوقت وعلى رأسها “تجمع المدنيين السودانيين” الذي طالب بإعادة النظر في خريطة السياسة الخارجية للبلاد على أسس من التوازن والندية وليس الانصياع والخضوع للمال والنفوذ.
وبعيدًا عن قراءة دوافع الدعم السعودي الإماراتي للمجلس العسكري في مواجهة الثورة، التي تنطلق من إستراتيجية مناهضة هذا الحلف لكل التجارب الثورية التي شهدتها المنطقة العربية منذ 2011، إيهامًا بأن وأدها في مواطنها ضامنًا للحيلولة دون تفشي عدوتها بما يهدد أنظمة الحكم في تلك البلدان التي تعاني من انتقادات داخلية وخارجية حادة بسبب سجلها الحقوقي المشين وما يغلب عليها من طابع ديكتاتوري بحت، فإن هناك دوافع أخرى وراء دعم جنرالات السودان تحديدًا.
الأدوار التي قام بها البرهان ونائبه حميدتي ربما تكون دافعًا مستقلًا للدعم السعودي الإماراتي لهما، باعتبارهما رجلي البلدين في اليمن، فقد أشرف البرهان على القوات السودانية التي تقاتل في اليمن ضمن تحالف السعودية منذ مارس/آذار 2015 ، بوصفه رئيس أركان القوات البرية، الأمر كذلك مع حميدتي الذي أرسل جنوده من قوات الدعم السريع التي يرأسها إلى اليمن للقتال هناك بجانب صفوف التحالف.
ورغم الخلافات الكامنة (خرج بعضها للنور مؤخرًا) بين الجنرالين في صراع النفوذ بينهما على تورتة الحكم، إلا أنهما كانا محل دعم وتأييد من الرياض وأبو ظبي تحديدًا، وهو ما تترجمه الزيارات المستمرة طيلة العامين الماضيين، فضلًا عن الدعم المالي المقدم للبلاد لعبور تلك المرحلة واستتباب حكم العسكر مع مرور الوقت.
العديد من المؤشرات ترجح حصول البرهان على دعم سعودي إماراتي مصري قبيل تمرير انقلابه، منها ما أشار إليه الصحفي السوداني، محمد الأسباط، مستندًا في رؤيته تلك إلى التصريحات الأمريكية الواردة بشأن اتصالات أجريت مع بعض قادة الخليج للعودة بالسودان للمسار الديمقراطي، لافتًا إلى أن اختيار قادة بعض الدول تحديدًا لإجراء اتصالات بهم تفضح بشكل كامل الدعم الموجه منهم للانقلابيين في البلد الإفريقي.
وأضاف الأسباط “السودان يوجد في محيط من الديكتاتورية والاستبداد، ولا تريد هذه القوى أن يشكّل هذا البلد الفقير في نظرها واحة للديمقراطية، بل هناك تسريبات وفق قوله عن وعود خليجية للبرهان بتدفق الأموال والمساعدات فور استيلائه على السلطة” بحسب حديث مع مسائية “DW بالعربي“.
صحيفة “لوس أنجلس تايمز” الأمريكية لم تقتنع هي الأخرى بفكرة أن يقوم البرهان بانقلابه دون دعم إقليمي، كما استبعدت تنفيذه للوعود التي قطعها على نفسه بالتوجه في نهاية المطاف نحو انتخابات وحكومة مدنية، مرجحة أن تستمر سيطرة القوات المسلحة على البلاد.
ونقلت الصحيفة عن المسؤول السابق في وزارة الخارجية في مركز إفريقيا التابع للمجلس الأطلسي، كاميرون هدسون، ترجيحه لتفضيل وميل دول الخليج لما حدث في السودان، منوهًا أن هذه الدول تفضل أن يحكم البلد الإفريقي نظام عسكري على أن يسير بحكومة ديمقراطية، “حيث يخشون من نجاح الربيع العربي”، على حد قوله.
مساعٍ حثيثة يقوم بها حلف الثورات المضادة، لإطفاء مشعل المسار الديمقراطي في السودان، لما يتمتع به من أفضلية نسبية مقارنة ببلدان الموجة الثانية من الربيع العربي التي شملت العراق والجزائر ولبنان، إذ كان يرى الشارع العربي في هذه التجربة الأمل نحو إحياء الحراك في بلدان الموجة الأولى، بعد الاستفادة من أخطاء ودروس السنوات العشرة الماضية.
وفي الأخير فإن الدعم الخليجي للبرهان وجنرالاته ليس اعترافًا نهائيًا بنجاح انقلابه، إذ تبقى الكرة في ملعب الشارع وقدرته على الصمود وما يتمتع به من نفس طويل في إجهاض مساعي استتباب وتمرير تلك الإجراءات المرفوضة شعبيًا وفق الاحتجاجات المتصاعدة خلال الأيام الثلاث الأخيرة.