ترجمة وتحرير: نون بوست
كان صدى مذكّرات بعنوان “الموافقة” الصادر في سنة 2020 للكاتبة الفرنسية فانيسا سبرينغورا، التي تدين فيها ثقافة التسامح مع السلوك الإجرامي تجاه القُصّر عندما يكون المعتدي شخصية أدبية مؤثرة، صدى أشبه بقنبلة مولوتوف – على حد تعبير أحد المراجعين. كُتبت “مذكرات الإساءة” (التي أصبحت الآن جنسا أدبيًا في حد ذاته) من منظور الضحية – سبرينغورا – التي تسترجع ما مرت به في فهم واضح لاستراتيجيات المعتدي.
يبدو أن المعتدي المميز المشار إليه بحرف “غ” يستلهم أفعاله من كتاب “بلوبيرد”، حيث أشارت سبرينغورا صراحة إلى تلك القصة الخيالية الفرنسية الكلاسيكية التي تدور أحداثها حول امرأة شابة تتزوج من رجل ثري يُدعى بلوبيرد الذي اختفت جميع زوجاته السابقات في ظروف غامضة. وعندما يذهب في رحلة إلى الخارج، يترك لها مفاتيح المنزل – بما في ذلك مفتاح غرفة سرية منعها صراحة من دخولها. وعندما فتحت الغرفة، اكتشف الجثث الدموية لزوجاته المفقودات اللاتي قُتلن على يد بلوبيرد.
ظهرت أول نسخة مطبوعة من القصة الخيالية في الكتاب الكنسي “قصص وحكايات من الأوقات الماضية” لتشارلز بيرو في سنة 1697، واستخدمت كعبرة من العواقب المروعة للعصيان وليس كتحذير من مخاطر الزواج من شخص غريب. وغالبا ما يتم تعديل القصة أو إزالتها بالكامل من الترجمات الأمريكية والبريطانية للكتاب، ويرجع ذلك في جزء كبير منه إلى العنف الراسخ فيها الذي لا يُناسب الأطفال. وفي فرنسا، اكتسبت هذه القصة شهرة ثقافية واسعة النطاق إلى الحد الذي جعل سبرينغورا تعول على إلمام قرائها بها لتسرد ما حدث معها.
كشفت الصحافة في نهاية المطاف عن هوية المعتدي “غ” في مذكرات سبرينغورا، وهو الكاتب الفرنسي البارز غابرييل ماتزنيف. على امتداد عقود، تحدث ماتزنيف وكتب علنا عن اعتداءاته الجنسية القسرية على القُصّر (أحد كتبه بعنوان “تحت سن 16 سنة”) ودافع علنًا عن تقنين هذه الممارسة.
نسجًا على قصة بلوبيرد، كتبت سبرينغورا أن ماتزنيف الذي اعتدى جنسيا عليها عندما كانت تبلغ من العمر 13 سنة بينما كان هو يبلغ من العمر 50 سنة منعها من قراءة أي من أعماله “سيئة السمعة”. وكتبت سبرينغورا: “لقد أطعته لفترة طويلة وكانت عناوين أعماله تثير فضولي. ولكن، تماما مثل زوجة بلوبيرد، كنت قد قطعت وعدا على نفسي بأن ألتزم بكلمتي”. وفي أحد الأيام، سافر ماتزنيف إلى سويسرا تاركًا مفاتيح غرفته بالفندق والاستوديو مع سبرينغورا، التي عصت أوامر “غ” وبدأت في قراءة الكتب المحظورة.
قبل أن تؤطر سبرينغورا مذكراتها كنسخة من قصة بيرو، أعادت المخرجة الفرنسية كاثرين بريليا صياغة القصة الخيالية في فيلمها سنة 2009 بعنوان “بلوبيرد”.
تتحدث قصة “بلوبيرد” الخيالية جزئيًا عن الخضوع ولكنها تؤكد أيضًا على أهمية المقاومة والتمرد، الذي كان في حالة سبرينغورا من خلال قراءة كتب المعتدي “غ” لتكتشف أنه كان يجسّد في الواقع “الغول” الذي كنا نخشاه منذ الطفولة”. وعملا بالحكمة المستمدة من قصة الطفولة المألوفة، بدأت سبرينغورا في استعادة حريتها.
على عكس العديد من القصص الخيالية الأخرى، فإن قصة “بلوبيرد” باعتبارها قصة مأساة زوجية بالأساس لا تعكس – أو تنقل – انعدام الأمن لدى الطفل ومخاوفه كما تفعل حكايات مثل “هانسيل وغريتل” أو “سندريلا”. وعلى كل حال، انبثقت العديد من قصص بيرو من ثقافة سرد القصص الشفوية التي كانت تدور غالبا في غرف الغزل وورشات الخياطة حيث كانت النساء يروين قصصا مثل “بلوبيرد” لبدء محادثات حول المغازلة والرومانسية والزواج أكثر من كونها قصصًا لتسلية الأطفال.
لا تزال قصة “بلوبيرد” تثير تلك المناقشات اليوم. وقبل أن تؤطر سبرينغورا مذكراتها كنسخة من قصة بيرو، أعادت المخرجة الفرنسية كاثرين بريليا صياغة القصة الخيالية في فيلمها سنة 2009 بعنوان “بلوبيرد”. (وقالت في مقابلة أُجريت معها سنة 2010: “عندما كنت طفلة، كانت هذه هي الحكاية الخيالية المفضلة لدي”.
تمامًا مثل مذكرة “الموافقة”، يُظهر فيلم بريليا شرور ثروة الرجل وسلطته ولكنه يُبرز أيضًَا جانبًا آخر من الحكاية الشعبية ألا وهو مدى استعداد بعض النساء اللواتي يغرين الأثرياء بجمالهن للخضوع للسيطرة عندما يكون ذلك لصالحهن. عندما تُبصر ماري كاثرين قلعة بلوبيرد وهي خائفة من الفقر أكثر من خوفها من زوج مستبد فُقدت كل زوجاته السابقات، فإنها تظهر استعدادها للعيش فيها بغض النظر عن سمعة مالكها، ومصممة على السيطرة والبقاء والازدهار بمزيج أوبرالي من مشاعر الجشع والغيرة.
كان تفسير بريليا للحكاية متوافقًا مع تصريحاتها العلنية اللاحقة حول ضحايا التحرش الجنسي، فقد وجدت المخرجة أن حركة #أنا_أيضا كانت تضم عددا كبيرا من النساء الانتهازيات اللاتي خضعن للاعتداءات الجنسية التي جادلت بريليا بأنه كان من الممكن رفضها تماما.
أظهرت المخرجة حماسة خاصة في إدانتها لاتهامات الممثلة الإيطالية آسيا أرجنتو ضد هارفي وينشتاين، بدعوى أن الممثلة كانت “ذليلة للغاية” بشكل جعلها لا تصدق روايتها عن الاغتصاب. وأضافت قائلة “أنا أعرفها، لقد كانت صغيرة للغاية” وكأنها تعزز قضيتها، متهمة أرجنتو بـ “الفجور”. كما وجهت إليها بريليا اتهامات إضافية من خلال وصفها بأنها “مرتزقة وخائنة”. (اتُهمت أرجنتو نفسها لاحقًا بالاعتداء الجنسي على قاصر، وقيل إنها أبرمت صفقة لدفع 380 ألف دولار للضحية).
بالنظر إلى وجهات النظر المتناقضة حول قصة “بلوبيرد” في مذكرات سبرينغورا وفيلم بريليا، فإن الخضوع لاستبداد السلطة الذكورية والتحرر منها يكمن في صميم السياسة الجنسية في فرنسا مثلما هو الحال في أي مكان آخر في العالم.
ولكن في بلد يقدّر التناقض والذكاء إلى جانب الانفتاح والحب ويكرس الحرية باعتبارها أعلى قيمة لها، يعتبر الخضوع مهما كان شكله غير مقبول، وقد ربطت كل من سبرينغورا وماري كاثرين مصيرهما بالمقاومة والتمرد. ولكن تنتشر في الواقع العديد من الأمثلة البارزة لشابات يتبعن تعاليم تملي عليهن الخضوع كاستراتيجية لتأمين ما يعتبر المجتمع انتصارات شخصية ونجاحًا مهنيا.
استنكرت العديد من النساء الفرنسيات في مجال الترفيه والمجال الأكاديمي والنشر إدانة حركة “أنا أيضًا” في الولايات المتحدة الرجال المعتدين في نظر الجمهور دون تمكينهم من الإجراءات القانونية الواجبة للدفاع عن أنفسهم في المحاكم. وفي التاسع من كانون الثاني/ يناير 2018، نشرت أكثر من 100 امرأة رسالة في صحيفة “لوموند” الرائدة تدين استخدام منصات التواصل الاجتماعي للإبلاغ عن حوادث التحرش الجنسي. وقد ورد فيها: “الاغتصاب جريمة، لكن المغازلة ليست جريمة والشجاعة ليست سلوكًا شوفينيا”. وباسم “الحرية الجنسية” دافعت هؤلاء النساء عن “الحق في المغازلة”.
على خلفية ردّ الفعل الشعبي العنيف، نشرت الممثلة كاثرين دنوف – إحدى أبرز الموقّعات على الرسالة – توضيحًا تضمّن اعتذارًا لضحايا الاعتداء والتحرش الجنسي. وكتبت: “أنا أحب الحرية، أنا امرأة حرة وسأبقى كذلك”. وفي لفتة تضامنية منها، أعلنت أنها تحيي أخويًا جميع ضحايا أعمال الكراهية.
يعكس إصرار دينوف على مبدأ الحرية المطلقة، سواء حريتها أو حرية الرجال في “الحق في المغازلة”، رفضها القاطع لكراهية النساء الهيكلية – وهو الاعتقاد بأن المجتمع يترك النساء مهما كانت امتيازاتهن عرضةً للسلطة الأبوية، وهي فكرة كانت سائدة في فرنسا خلال منتصف القرن العشرين. وفي سنة 1949، أظهرت سيمون دي بوفوار في كتابها “الجنس الآخر” أن الخضوع للسلطة الأبوية التي تمليها الأعراف الاجتماعية على النساء أقل تكلفة من الناحية الاجتماعي مقارنة بالحرية.
يتبنى العديد من الفلاسفة هذه النظرية اليوم. بناءً على عمل بوفوار، جادلت مانون جارسيا هذه السنة في كتابها “لم نولد خاضعين” بأن المنطق الأبوي يتطلب إخضاع النساء على حساب حريتهن، مشيرة إلى أن “وضع المرأة يجعل الحرية أكثر تكلفة، لذلك يكون الخضوع أكثر جاذبية بالنسبة للنساء”. وأضافت أن النساء يخترع الخضوع طوعًا لأن ذلك “ما تمليه الأعراف الاجتماعية”.
تنفي غارسيا وآخرون الإحساس المبتهج بالحرية الذي شعر به أولئك الذين شاركوا في أحداث مايو 1968 في فرنسا، وهي ثورة ثقافية مضادة ظهرت في الستينيات اشتهرت بشعار “ممنوع الحظر”.
تبنى غابرييل ماتزنيف المبادئ التحررية لتلك الحركة واستخدمها كتبرير لاعتدائه الجنسي على الأطفال في رواياته ومقالاته ويومياته التي وثقت تاريخه الجنسي مع الأطفال. وبدلاً من أن يقلق بشأن كتاب “الموافقة”، دافع بقوة عن العلاقات الجنسية مع القاصرين باسم الحرية، ليس فقط من أجله وإنما أيضًا من أجل الأطفال الذين أساء إليهم. وعلى هذا النحو أصبحت الحرية مبررا للسلوك المفترس الجنسي.
تمثل قصة “بلوبيرد وزوجاته” تحديًا سرديًا قويًا لاستبداد السلطة الذكورية وطلب الخضوع. تشجعنا هذه القصة على التفكير والتحكم في الحاجة للسيطرة والتبعية والعقاب التي تعد من أشكال الإكراه الثقافي في الحياة الواقعية. كانت قصة “بلوبيرد” في البداية تعتبر حكاية تحذيرية حول مخاطر العصيان، إلا أنها أيضا تسلط الضوء على مسألة الخضوع القسري للشباب والضعفاء أمام الأغنياء والأقوياء وتقدم استراتيجيات للهروب منه وتأمين بعض أشكال الحرية.
بناء على إحدى العبر الأخلاقية التي حاول بيرو إيصالها، اعتبرت قصة بلوبيرد لسنوات تحذيرًا من العواقب المروعة لفضول الإناث. أما العبرة الأخلاقية الثانية فهي أن الأزواج “لم يعودوا فظيعين أو يطالبون بالمستحيل كما كانوا يفعلون”، في محاولة لإنكار عنف الذكور في ذلك الوقت. وأصر بيرو أيضا على أن الرجال الفرنسيين في عصره كانوا “خاضعين لزوجاتهم” وأنه “لم يكن من الصعب معرفة الطرف المسيطر عند النظر إلى الثنائي”. ولا شك أن الموقعات على رسالة لوموند متأثرات بوعي أو عن غير وعي بفكر بيرو.
لا تزال قراءة هذه القصة إلى اليوم تنطوي على مخاطر كبيرة حيث أن نقلها إلى وسائل الإعلام الجديدة يجبرنا على إعادة النظر في الأشكال الجديدة من الخضوع والمقاومة والحرية.
لكل ثقافة قصص عن قاتل متسلسل يتخلص من زوجاته واحدة تلو الأخرى، والثقافة الفرنسية ليست استثناءً. ومن بين الأمثلة على ذلك الإطار السردي لقصص ألف ليلة وليلة التي تكشف النقاب عن طاغية عديم الرحمة كان يقتل النساء حتى تعرف على شهرزاد الحكيمة التي وضعت حدا لهذه المأساة من خلال براعتها في سرد القصص.
ومن شأن أوجه الشبه بين غضب بلوبيرد القاتل في الحكاية الخيالية الفرنسية وكره شهريار الشديد للنساء تفسير سبب اعتبار “بلوبيرد” شخصية شرقية في كثير من الأحيان، كما هو الحال في الرسوم التوضيحية الشهيرة لإدموند دولاك، وفي الترجمات الإنجليزية التي تتخذ للزوجة اسم فاطمة. وفي الحقيقة، يبدو أنه من المريح للقارئ الفرنسي أن لا يجد أثرا لمثل هذا الخلاف الزوجي والعنف الشنيع في وطنه اليوم ويوهم نفسه بأنه حدث منذ زمن طويل وفي مكان بعيد.
مع أن بيرو اجتث قصة “بلوبيرد” من ثقافة رواية القصص الشفوية للبالغين ووضعها بين صفحات كتاب للأطفال، إلا أن الحكاية الخيالية لا تزال تعتبر مصدرا للعبر الأخلاقية والحكم.
لا تزال قراءة هذه القصة إلى اليوم تنطوي على مخاطر كبيرة حيث أن نقلها إلى وسائل الإعلام الجديدة يجبرنا على إعادة النظر في الأشكال الجديدة من الخضوع والمقاومة والحرية. ولا يكمن التحدي في مقاومة وإعادة اختراع نفس القصة القديمة، وإنما أيضًا في كيفية وضع حد للدائرة اللانهائية للعنف المنزلي والاعتداء الجنسي.
المصدر: فورين بوليسي