جاء الدخول العثماني إلى الجزائر لنجدة البلاد من سطو الإسبان، لكن ما إن تمكنوا من الصليبيين وأجبروهم على الرجوع من حيث أتوا خائبين، حتى بدؤوا في تأسيس قوة بحرية سيكون لها مكانة كبرى لوقت طويل في البحر الأبيض المتوسط.
نواصل مع ملف “الجزائر العثمانية”، وسنرجع إلى الوراء لاسترجاع أمجاد الماضي، حين كان الجزائريون يسيطرون على البحر الأبيض المتوسط بفضل لأكثر من 3 قرون.
هيبة الأسطول تفرض هيبة الدولة
ما إن تمكن الجزائريون بالشراكة مع العثمانيين من طرد الإسبان من شواطئ الجزائر وتحرير موانئ المرسى الكبير ووهران ووبجاية سنة 1518 حتى بدأوا في بناء أسطولهم البحري بالتزامن مع انضمام الكثير من العثمانيين إليهم في رحلة البناء.
في البداية كان الأسطول البحري الجزائري يبلغ ما بين خُمس أو رُبع مجموع الأسطول البحري العثماني، أما في النصف الأول من القرن 17 فقد تطور أسطول الجزائريين وصار يشكل ما يعادل ثلث أو نصف الأسطول العثماني.
لذلك يعد القرن 17، العهد الذهبي للبحرية الجزائرية، إذ فرض حكام الجزائر هيبة الدولة من خلال الأسطول البحري الذي كانوا يملكونه، فقد كان الأسطول الأكثر أهميةً ورهبةً في دول حوض البحر المتوسطة كاملةً، لا سيما أنه كبّد أوروبا العديد من الخسائر.
عام 1634 قال الراهب دان: “الأسطول الجزائري كان يتشكل من 70 وحدةً منها ما هو مسلح بـ25 مدفعًا ومنها بـ40 مدفعًا”، كما تقول بعض المراجع التاريخية إن البحرية الجزائرية في تلك الفترة لم يكن تضاهيها بحرية دولة أخرى.
استطاعت الجزائر فرض هيبتها عن طريق أسطولها البحري الذي تحكم في البحر المتوسط وأصبح نقطة قوة
يقول أحد الأسرى لدى الجزائريين يدعى دييغو دي هايدو واصفًا البحارة هناك: “يبحرون شتاءً وربيعًا دون خوف، ويجوبون البحر المتوسط من شرقه إلى غربه، دون أن يعيروا أي اهتمام لمراكبنا، مستهزئين ببحارتنا الذي يستأنسون بملاهي الموانئ المسيحية”، مضيفًا “يخيل للمرء أنهم – أي البحارة الجزائريين – يخرجون لصيد الأرانب البرية فيقتلون واحدًا هنا والآخر هناك”.
فيما يقول السفير والعالم المغربي علي بن محمد التمكروتي واصفًا البحارة الجزائريين في أثناء إقامته بالجزائر أواخر القرن 16 وبداية القرن 17: “رياس الجزائر موصوفون بالشجاعة وقوة الجأش ونفاذ البصيرة في البحر، يقهرون النصارى في بلادهم”.
حتى السفراء الأجانب أبدوا إعجابهم وانبهارهم بالأسطول البحري الجزائري، فقد جاء على لسان السفير الإنجليزي كتونغهام: “قوة وجرأة بحارة شمال إفريقيا هما الآن على هذا النحو من الضخامة سواء في البحر المتوسط أم المحيط الأطلسي، وأشهد أنني لم أعرف في حياتي شيئًا قد جلب إلى البلاد الإسبانية الأسى العميق والخراب الكثير غير هؤلاء”.
يرجع هذا إلى كون المراكب الجزائرية خفيفةً تسبق الريح على عكس المراكب المسيحية الثقيلة التي لا تستطيع مطاردتها ومنعها من الغزو حسبما يحلو لهم، والسبب الآخر يكمن في اهتمام البحارة بالنظام والنظافة وتنظيم المراكب وللإبحار ببطئ وضد الرياح، فمسموح للريّس أن يغير مكان أيّن كان في السفينة حتى لو كان نجل الباشا نفسه، فالمهم عندهم نجاح العملية.
إنشاء نظام للملاحة في المتوسط
أنشأت الجزائر بفضل بحارتها خلال القرن 18 نظامًا للملاحة فى البحر المتوسط يضمن أمن الدولة الجزائرية خاصة والإمبراطورية العثمانية عامة، كما يضمن الأمن للتجارة الدولية، ما يعني أن الأسطول الجزائري فرض منطقه وقانونه، فكان يتلقى أموالًا من بعض الدول التي تبحر عبر المتوسط مقابل توفير الحماية لها، بما في ذلك فرنسا وإنجلترا وهولاندا.
تاريخ حافل بالبطولات
خاضت البحرية الجزائرية على مدار 3 قرون مجموعة من المعارك، كان النصر حليفها في معظمها، فيما خسرت بعضها، لكنها حتى في الخسارة لم تفقد تأثيرها الإقليمي، إذ كانت تستعيد توازنها سريعًا وتعاود الانخراط في ساحة المواجهات حماية للسواحل الجنوبية للمتوسط.
خلال الفترة بين 1563 و1571، وتحديدًا في عهد كل من البايلرباي حسن باشا وعلج علي، شنت البحرية الجزائرية هجمات عنيفة على البحرية الصليبية، كما ساعدت المورسكيين في الفرار من محاكم التفتيش الإسبانية وتوفير الحماية لهم في عرض البحر.
سيطر البحارة الجزائريون على البحر المتوسط لقرابة 3 قرون، كان الدافع دينيًا، فقد كان هدفهم الأسمى التصدي للصليبيين
من بين المعارك التي خاضتها البحرية الجزائرية، معركتهم مع الإنجليز والهولنديين سنة 1618، إذ تمكن الأسطول الجزائري من دحر الهجوم المزدوج للإنجليز والهولنديين على السواحل الجزائرية، وتكبيد المعتدين خسارة كبرى، ومن أبرز القادة البحريين الذين خاضوا المعارك: علي بتشين ومامي أرناؤط وجعفر جنويز.
إلى جانب ذلك شارك البحارة الجزائريون في معظم الحروب البحرية التي خاضتها البحرية العثمانية ضد الدول الأوروبية، أو في محاصرة واحتلال الجزر التي كان الصليبيون يسيطرون عليها، كما شاركوا في تحرير أراضي المسلمين مثل تونس وطرابلس الغرب.
جهاد بحري وليس قرصنة
يصف العديد من المؤرخين الغربيين بحارة الجزائر بـ”القراصنة”، وذلك للتقليل من شأنهم والحط من بطولاتهم وإنجازاتهم التي خلّدها التاريخ طيلة نحو 3 قرون متتالية، لكن بحثًا صغيرًا يؤكّد لنا أننا كنا أمام مجاهدين وليس قراصنة، يمتهنون الجهاد البحري وليس القرصنة، فقد كانت الجزائر بمثابة سيف الإسلام المسلط على الإمبراطوريات الصليبية بالجزء الغربي للبحر المتوسط.
في هذا الخصوص، يقول المؤرخ الأمريكي وليام سبنسر: “مدينة الجزائر كعاصمة لدولة مستقرة وقوية في شمال إفريقيا قد مثلت طرف القوة الإسلامية العثمانية القاطع والمنهمك في المقارعة الصليبية ضد المسيحية، كالشفرة الحادة المدفوعة بعمق في التراب المسيحي”.
إذ كان الهدف من الجهاد البحري، تارة الدفاع عن النفس والتصدي للقراصنة الصليبيين ومظهرًا من مظاهر الرفض الرسمي للهيمنة الأوروبية وتهديداتها، وتارة لفتح مناطق جديدة ونصرة المسلمين المستضعفين مرة أخرى.
سيطر البحارة الجزائريون على البحر المتوسط لقرابة 3 قرون لدوافع دينية فقد كان هدفهم الأسمى التصدي للصليبيين الطامعين في أرض المسلمين جنوب المتوسط بعد تمكنهم من الأندلسيين، وبالفعل تمكنوا من ذلك وفرضوا قوتهم على أقوى الدول والإمبراطوريات حتى الولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي سنتحدث عنه في تقرير قادم ضمن ملف الجزائر العثمانية.