تاريخيًا توصف العلاقة بين تركيا وروسيا بالعداء الدائم، فقد خاضت الدولة العثمانية 13 حربًا مع روسيا بين عامي 1568-1918 ومنذ الحرب العالمية الثانية اصطفت تركيا مع المحور الغربي ضد الاتحاد السوفيتي، حتى جاء حزب العدالة والتنمية ووضع إستراتيجية جديدة لتركيا تكون بموجبها دولة مركزية لا محورية سواء مع الغرب (الناتو) أم الشرق (المحور الأوراسي)، هذا المركز يكون عمقه الدول العربية الشرق أوسطية.
ومن هذا المنطلق الإستراتيجي أتى دعم حكومة العدالة والتنمية للربيع العربي، وبالتأكيد لا يمكن إغفال الشق الأخلاقي بالوقوف مع المظلومين واللاجئين والمقموعين من الأنظمة العربية، فإسطنبول تحولت إلى قبلة لكل المنفيين سياسيًا من الدول العربية الذين غالبيتهم إسلاميين.
منذ عام 1974 لم تقم تركيا بأي عملية عسكرية خارج حدودها بعد الإنزال في قبرص الشمالية واقتطاعها وحمايتها من الاضطهاد الرومي المدعوم أوروبيًا، فكان التدخل العسكري في سوريا بعد اتفاق أستانة في يناير/كانون الثاني 2017 أول تدخل عسكري تركي حقيقي خارج حدودها، نتج عنه معركتان مع النظام السوري في ريف حماة عام 2019 حيث حوصرت نقاط المراقبة التركية الـ12، ومعركة درع الربيع التي أطلقتها بعد تعرضها لخسارة 33 من جنودها بالطائرات الروسية في 27 فبراير/شباط 2020 التي انتهت باتفاق 5 مارس/آذار موسكو 2020.
كذلك نتج عن التدخل التركي في سوريا ثلاث عمليات هي: درع الفرات في سبتمبر/أيلول 2016 وغصن الزيتون في مارس/آذار 2018 ونبع السلام في أكتوبر/تشرين الأول 2019.
5 معارك عسكرية لم توقف التصعيد الروسي ضد تركيا وحلفائها من المعارضة وكذلك 16 جولة من أستانة وأكثر من 10 قمم ثنائية بين الرئيسين التركي والروسي لم تستطع أن تصل إلى تفاهم روسي تركي إذا لم يكن دائم على الأقل طويل الأمد.
نقض الاتفاقات الثلاثة
باستعراض سريع نجد أن الطرفين التركي والروسي توصلا إلى مذكرة خفض التصعيد الرابعة في 15 سبتمبر/أيلول عام 2017 الخاصة بمنطقة شرق سكة الحجاز الواقعة شرق أتوستراد دمشق-حلب المسمى M5، التي نصت على أن تسحب تركيا قوى المعارضة منها وتدخل شرطة عسكرية روسية وتركية مشتركة وتدار المنطقة من مجالس محلية مدعومة من تركيا.
وصرح بوتين وقتها أن الهدنة في الشمال مقدمة لإنهاء الحرب، لكن بعد أقل من شهر بدأت روسيا والنظام حملة عسكرية للسيطرة على تلك المنطقة، متذرعين بالهجوم الذي شنته هيئة تحرير الشام في 8 أكتوبر/تشرين الأول على بلدتي أبو دالي والمشيرفة ومتهمين تركيا بعدم تطبيقها لبنود الاتفاق.
ثم توصل الطرفان إلى اتفاق سوتشي في 17 سبتمبر/أيلول عام 2018 يقضي بتشكيل منطقة منزوعة السلاح بعمق 15-20 كيلومترًا بين المعارضة والنظام وسحب الفصائل سلاحها الثقيل ونشر شرطة تركية روسية مشتركة في المنطقة المنزوعة السلاح، كذلك اتهمت روسيا تركيا بعدم تطبيق بنود الاتفاق وشنت هجومًا واسعًا على ريف حماة الشمالي وإدلب الشرقي حتى سيطرت على مدينة خان شيخون في 22 أغسطس/آب 2019 وقال بوتين وقتها: “نحن فقط طبقنا اتفاق سوتشي بالسيطرة على المنطقة التي يفترض أن تكون منزوعة السلاح”.
نلاحظ من خلال هذا الاستعراض السريع أن تركيا وروسيا يوقعان اتفاقًا ببنود واضحة ثم لا يلتزما به، فتقوم روسيا بفرض الاتفاق بالقوة وتقضم المزيد من الأراضي، ما يضعف موقف تركيا التفاوضي أكثر
ثم أكملت روسيا هجومها في فبراير/شباط 2020 وسيطرت على مدينة معرة النعمان وسراقب، وكاد يقع صدامًا روسيًا تركيًا مباشرًا بعد مقتل 33 جنديًا تركيًا، وسارعت روسيا بنفي قيامها بأي غارات جوية وكذلك تركيا لم توجه اتهامًا مباشرًا لروسيا التي غضت الطرف عن الرد التركي في قصفه لمطار كويرس وحماة، واستطاع الطرفان احتواء الأزمة وعقدا قمة في موسكو نتج عنها برتووكول 5 مارس/آذار 2020 الذي نص على تسيير دوريات تركية روسية مشتركة على طريق M5 (حلب-اللاذقية) وإبعاد الفصائل مسافة 6 كيلومترات عن جانبي الطريق والعمل على حل ملف المجموعات (الإرهابية).
واليوم يتبادل الطرفان الاتهامات، فتركيا تتهم روسيا بعد تطبيق بنود اتفاق سوتشي وموسكو بتثبيت وقف إطلاق النار تمهيدًا لعودة النازحين في خطوط التماس وعدم إبعاد قوات وحدات الحماية الكردية YBG مسافة 32 كيلومترًا عن الحدود التركية في شمال شرق سوريا وفقًا لاتفاق سوتشي عام 2019 الخاص بقسد (هذا غير اتفاق سوتشي عام 2018 الخاص بإدلب)، بينما روسيا تتهم تركيا على لسان لافروف وزير خارجيتها بعدم الإيفاء بتعهداتها بتسيير الدوريات المشتركة التي أوقفتها روسيا في 14 أغسطس/آب 2020 بعد تعرضها لضربة بسيارة مفخخة تبنتها كتائب خطاب الشيشاني في تاريخ 14 يوليو/تموز 2020.
نلاحظ من خلال هذا الاستعراض السريع أن تركيا وروسيا يوقعان اتفاقًا ببنود واضحة ثم لا يلتزما به، فتقوم روسيا بفرض الاتفاق بالقوة وتقضم المزيد من الأراضي، ما يضعف موقف تركيا التفاوضي أكثر.
اليوم يتكرر نفس السيناريو، فروسيا تهدد من جديد بشن هجوم على إدلب والسيطرة على طريق M4 بعد عجز تركيا كما تزعم عن تطبيق بنود اتفاق 5 مارس/آذار موسكو، ووصل التحرش الروسي بقصف مدينة سرمدا الحدودية مع تركيا يوم السبت 16 أكتوبر/تشرين الأول وقصف محيط الثكنة التركية في مارع بعد مقتل أربعة جنود أتراك استهدفت قسد عربتهم قرب مدينة مارع في ريف حلب الشمالي، أما على خطوط التماس فالتحرش الروسي شبه يومي حول النقاط التركية في بلدات البارة وكنصفرة وغيرها في جبل الزاوية.
حدود الأمن القومي التركي الجديدة
عندما كانت النقاط التركية الـ12 منتشرة إلى مدينة مورك وبعد بدء هجوم النظام وروسيا على ريف حماة، لم تكن تصريحات المسؤولين الأتراك تعتبر أن الهجوم على تلك المنطقة يهدد الأمن القومي التركي من خلال تدفق موجات كبيرة من اللاجئين إلى داخل تركيا، وكانت ما زالت تركيا تعول على أن روسيا لن تتجاوز الخط الأحمر وتسمح للنظام بمحاصرتها.
أما بعد وصول النظام إلى سراقب وعجز تركيا مع الفصائل عن منع سقوطها، فقد تغيرت المعادلة وحدود الأمن القومي التركي، فلم تعد تتحمل تركيا مزيدًا من اللاجئين ورممت عجزها العسكري بإدخال منظومات دفاع جوي تركية (حصارA وحصارO) مع منظومة التشويش كورال وقاعدتين لطائرات بيرقدار وأكثر من 21 ألف جندي تركي منهم 3 آلاف جنوب طريق M4 وأسست أربعة ألوية رديفة تبعيتها لقيادة القوات التركية في إدلب حتى لا تتكر أخطاء عملية درع الربيع بسوء التنسيق والربط بين قيادة القوات التركية وفصائل الجبهة الوطنية.
الاتفاقات الروسية التركية لتنظيم قواعد الاشتباك في سوريا حددت منطقة غرب نهر الفرات منطقة نفوذ روسي وشرق النهر منطقة نفوذ أمريكي، وبالتالي لا تحتاج تركيا إلى تفاهم مع أمريكا إذا قررت الهجوم فقط على تل رفعت والسبع بلدات حولها
وفق مصدر ميداني من قيادة الجبهة الوطنية فإن الجيش التركي في جبل الزاوية يده على الزناد وأتته أوامر بالرد على أي هجوم للنظام دون الرجوع لأنقرة، وربما هذا ما يفسر تصريحات الرئيس أردوغان عندما قال: “كفاحنا في سوريا سيستمر بشكل مختلف للغاية في الفترة المقبلة”.
فتركيا الآن تنظر على أن آخر نقطة محررة تقع ضمن حدود الأمن القومي التركي، وبالتالي خسارة أي منطقة جديدة يعني خسارات متتالية لمناطق أخرى وموجات لجوء عنيفة لن تسمح بها، لذا صدر القرار بمنع سقوط أي منطقة جديدة مهما كان الثمن.
الخيار الأخير
بعد مقتل أربعة جنود أتراك على يد قسد في مارع، صرح الرئيس أردوغان قائلًا: “صبرنا نفد”، ووجه وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو الاتهام المباشر لأول مرة لروسيا وأمريكا بدعمهما لقسد التي تصنفها تركيا منظمة إرهابية، وقال “سنحفظ أمن بلدنا بأنفسنا”، كما بدأت الصحف التركية تهيئ الرأي العام التركي لعملية تركية جديدة ضد قسد حددتها صحيفة يني شفق بتل رفعت وعين عرب ومنبج وتل تمر، لكن هل بالفعل تستطيع تركيا تنفيذ عملية عسكرية دون التفاهم مع روسيا وأمريكا؟
الاتفاقات الروسية التركية لتنظيم قواعد الاشتباك في سوريا حددت منطقة غرب نهر الفرات منطقة نفوذ روسي وشرق النهر منطقة نفوذ أمريكي، وبالتالي لا تحتاج تركيا إلى تفاهم مع أمريكا إذا قررت الهجوم فقط على تل رفعت والسبع بلدات حولها التي تسيطر عليها قسد وتنطلق منها في هجماتها ضد القوات التركية، لكنها بالتأكيد بحاجة لتفاهم كبير مع أمريكا إذا أرادت توسعة عملياتها إلى مدينة عين عرب الإستراتيجية بالنسبة لتركيا لأنها تصل بين منطقتي نبع السلام (تل أبيض) ودرع الفرات (جرابلس) وكذلك الأمر بالنسبة لمنبج وعين عيسى وتل تمر.
قمة روما وإذابة الجليد
استطاعت القمة بين الرئيسين أردوغان وبايدن إذابة الجليد بين البلدين، ورغم أنه لم يصدر عنهما شيء واضح بخصوص الملف السوري فإن تصريح الرئيس أردوغان أن العملية التركية لا رجعة فيها يفسر أنه تم تأجيلها مؤقتًا ريثما تبدأ اللجان الفنية بين البلدين اجتماعاتهما، خاصة أن مسؤول البيت الأبيض طالب تركيا وقسد بالحفاظ على وقف إطلاق النار في شمال شرق سوريا.
تركيا تعلم أن مفاوضاتها مع أمريكا لن تحقق هدفها بإبعاد قسد عن حدودها بعمق 32 كيلومترًا، لكنها دومًا تفضل إعطاء الدبلوماسية فرصتها حتى النهاية لكن في نهاية المطاف لا بد من عمل عسكري لتحرير هذه المناطق لتحقيق هدفين إستراتيجيين: الأول إبعاد قسد عن حدود تركيا، فيما يمنع قيامها بهجمات ضدها، أما الثاني فتأمين عودة أكثر من 300 ألف لاجئ قبل الاستحقاق الانتخابي القادم.
أمريكا كانت قد جددت عقوباتها على تركيا فيما يعرف باسم تجديد قانون الطوارئ بشأن سوريا التي فرضتها على تركيا بعد عملية نبع السلام 2019 ويتوقع في حال فشل المفاوضات مع أمريكا (وهذا الراجح) أن تفرض حزمة عقوبات جديدة على تركيا، لكنها لن تفعل شيئًا للدفاع عن قسد، وهذا ما أكدته صحيفة فايناشيال تايمز البارحة.
الطلبات والعوائق الروسية
الرسائل الروسية تجاه تركيا كانت واضحة في قصفها المتكرر لمدينة يرمدا ومخيم قاح وكلاهما مناطق حدودية مع تركيا، بالإضافة إلى هبوط طائرة سيوخوي 35 لأول مرة في مطار القامشلي الملاصق للحدود التركية وقيام روسيا بالتحليق على خطوط التماس مع بلدة تل تمر والمالكية والدرباسية، فروسيا تود القول لتركيا “لا يمكنك تنفيذ عملية دون التفاهم معنا”.
روسيا تريد هذه الطلبات حتى توافق على العملية التركية، بحسب ما كشف موقع ميدل إيست آي:
– السيطرة على جبل الزاوية وأجزاء من مدينة أريحا.
– تأمين قاعدتها العسكرية شرق النهر في بلدة صرين.
– عدم دخول الجيش الوطني لمدينة تل رفعت.
لكن بالتأكيد لن توافق تركيا على هذه الطلبات، لذا سترتفع مخاطر المواجهة مع روسيا عند تنفيذ العملية التركية.
مخاطر المواجهة
لم يعد بالإمكان إلغاء العملية التركية؛ فهذا سيجرئ قسد على تنفيد المزيد من العمليات ضد الجنود الأتراك. ورغم أن لموسكو مصلحة في الضغط على قسد عبر تركيا لدفعها أكثر للتفاهم والاتفاق مع النظام وهذا ما أكده صالح مسلم عندما قال “روسيا طلبت منا إخلاء مدينة منبج لتركيا”، إلا أن روسيا تملك أوراق ضغط قوية ضد تركيا ممكن أن تستخدمها بعد بدء العملية التركية هي:
– قصف مدينة إدلب وجسر الشغور وأريحا والبلدات الحدودية مع تركيا.
– دعم قسد لاستهداف الجنود الأتراك كما حصل في مدينة مارع وتأمين غطاء جوي لها.
– جعل النظام في مواجهة تركيا في عين عيسى وتل تمر خاصة بعد استقدام النظام تعزيزات عسكرية إلى تلك المناطق ورفع قسد العلم الروسي على نقاطها هناك.
– دعم الميلشيات الإيرانية والنظام لشن هجوم بري على سهل الغاب وجبل الزاوية.
– إعطاء الضوء الأخضر لطيران النظام لاستهداف الجنود الأتراك في القواعد التركية بإدلب.
أما خيارات تركيا لتجاوز هذه المخاطر فتتمثل بـ:
– تحصين المناطق المأهولة والقواعد التركية بمنظومات الدفاع الجوي حصار O وA.
– شن عملية خاطفة وسريعة لتحرير تل رفعت وما حولها في أقل من أسبوع تجنبًا لتداعياتها إن طالت.
– دعم فصائل الجيش الوطني بصواريخ غراد 40 لإمطار ثكنات النظام والمطارات القريبة والقواعد الروسية خلف خطوط التماس وهذا يجنب تركيا تحمل التبعات لأن الفصائل من تقصف وليس تركيا.
– قيام تركيا بقصف عنيف بصواريخ بورا التركية لثكنات النظام على طول خطوط المواجهة وتدمير غرف عملياته لشل حركته ومنعه من القدرة على الهجوم ريثما تنتهي عملية تل رفعت.
– إعداد خطة ب هجومية في حال طالت العملية وأعطت روسيا الضوء الأخضر للنظام لاجتياح مناطق جنوب الطريق تتضمن تحرير مدينة سراقب ومعرة النعمان، وهذا ما ذكرته صحيفة نوفوستي الروسية، وربما تفتح محورًا جديدًا في جبل التركمان، ما يجعل الفصائل تقترب من العمق الإستراتيجي لروسيا في الساحل وهذا سيجعل روسيا تجلس على الطاولة من جديد وتتخلى عن تل رفعت ووقف أي هجوم جنوب طريق M4.
علينا ألا ننسى أن روسيا تنظر إلى الانتشار العسكري التركي الخارجي أنه خطر إستراتيجي يهدد مصالحها، وهو ما عبّر عنه قسطنطين سيفكوف نائب رئيس أكاديمية الشؤون الجيوسياسية الروسية بالقول: “الوجود التركي خارج تركيا يستمر بالنمو على عكس الوجود العسكري الأمريكي الذي تراجع في السنوات الأخيرة”، مضيفًا في مقال نشرته مجلة كريير أن “15% من العدد الإجمالي للقوات المسلحة التركية في أراضٍ خارج تركيا”، مشددًا على أن سياسة تركيا الخارجية تشكل تهديدًا مباشرًا وخطيرًا وكبيرًا لوحدة أراضي روسيا.
بالمحصلة.. العملية العسكرية التركية قادمة، وستتضح معها أكثر رؤية الرئيس التركي بشأن “الكفاح المختلف للغاية”. ستعمل أنقرة على حماية حدودها من المنظمات الكردية الانفصالية ومن موجات النزوح المحتملة، وستحاول ضمان عودة عدد وازن من اللاجئين السوريين إلى بلدهم قبيل الانتخابات، لكن كيف ستتفاعل روسيا فعلًا مع هذه المعركة؟ الأيام المقبلة حبلى بالأحداث.