مليونية 30 أكتوبر.. هل يدق السودانيون أول مسمار في نعش الانقلاب؟
تحت شعار “الردة مستحيلة” و”يسقط يسقط حكم العسكر” خرجت، اليوم، عشرات الحشود الجماهيرية في العاصمة الخرطوم وولايات مجاورة، استجابةً لدعوات المشاركة في “مليونية 30 أكتوبر/تشرين الأول” رفضًا للإجراءات التي اتخذها عبد الفتاح البرهان في 25 من الشهر الحاليّ، التي تصفها القوى المدينة بـ”الانقلاب الدستوري مكتمل الأركان”.
وتأتي تلك المليونية في إطار الهبة الشعبية الرافضة للانقلاب، المنددة بسيطرة الجنرالات على السلطة، والمطالبة بالعودة إلى المسار الديمقراطي المحدد وفق الوثيقة الدستورية الموقعة في أغسطس/آب 2019 التي تُلزم المكون العسكري بتسليم السلطة للمدنيين الشهر القادم.
إصرار البرهان على المضي قدمًا في انقلابه، ملوحًا بورقة استقرار البلاد وحمايتها من المنزلق السياسي الذي يدعي مسؤولية المدنيين عنه، يأتي وسط تنديد دولي ورفض لتلك الإجراءات التي تقوض مستقبل البلاد الديمقراطي، في ظل وساطات عدة لإثناء الجنرال عن قراراته الأخيرة وعودة الأمور إلى نصابها الطبيعي.
دعم إقليمي لتقوية موقف رئيس مجلس السيادة المنحل لمواصلة خطواته نحو عسكرة الدولة، فيما يراهن المدنيون على الشارع لاستعادة مكتسبات ثورة ديسمبر التي يخطط الجنرالات منذ اليوم الأول لتوليهم السلطة للإجهاز عليها عبر قرارات ناسفة شكلًا ومضمونًا لأبجدياتها وتفرغها من مضمونها بزعم الحفاظ على الأمن والاستقرار.
مليونية 30 أكتوبر
القوى الداعية للتظاهر وعلى رأسها “تجمع المهنيين السودانيين” أشارت في بيان لها أن الهدف من “مليونية السبت” هو إسقاط المجلس العسكري وتسليم السلطة كاملة لحكومة مدنية، إضافة إلى تقديم أعضاء المجلس العسكري للمحاسبة”، منوهة أنه لا تفاوض مع المجلس العسكري، ومشددة في الوقت ذاته على أن “كل من يقبل أو يشارك في حوار معه يفتقر للتفويض من الشارع” وفق نص البيان.
من جانبها أكدت قوى “الحرية والتغيير” (المنقلب عليها) أن مطلبها الأساسي من المشاركة في تلك المليونية إطلاق سراح جميع المعتقلين، مضيفة في بيانها أن الأدوات والآليات التي ستحسم الصراع هي الشارع وقواه الحية أولًا، ومؤسسات الدولة الشرعية ثانيًا.
وطالبت القوى بالعودة للدستور مرة أخرى والعمل بالوثيقة الدستورية واسترداد كل هياكل السلطة الانتقالية المدنية، مؤكدة بطلان كل القرارات التنفيذية التي اتُخذت بعد 25 من أكتوبر/تشرين الأول، المتعلقة بحل الحكومة ومجلس السيادة وإعفاء الولاة والمديرين ومن بعدهم عشرات السفراء الرافضين للانقلاب.
وفي السياق ذاته وفي إطار توسعة رقعة المشاركة، تحولت بعض المساجد إلى منصات لدعوة المواطنين للانضمام إلى الحشود الغفيرة المزمع انطلاقها اليوم، فقد بث نشطاء وأحزاب سودانية مقاطع فيديو من داخل مساجد بالخرطوم لحث الشعب على التحرك لاسترداد ثورته التي يسعى العسكر لسرقتها.
في المقابل أعلنت المؤسسة العسكرية السودانية حالة الطوارئ القصوى استعدادًا لتلك التظاهرات، حيث أغلقت قوات الأمن غالبية الجسور في العاصمة، فيما قال التليفزيون السوداني إن إدارة المرور أعلنت إغلاق الطرق الرئيسية وكل الجسور في الخرطوم باستثناء جسري الحلفايا وسوبا.
وفي الساعات الأولى من صباح اليوم قُطعت شبكة الإنترنت وكل شبكات الاتصال الخلوية، وهي الإستراتيجية التقليدية التي تلجأ إليها السلطات السودانية مع كل تظاهرة كبيرة، ما دفع الثوار والنشطاء لنشر دعوات التظاهر وشعاراتهم المرفوعة على جدران المنازل والكيانات وفي الشوارع والطرقات الرئيسية، كحلول مؤقتة بديلة لحث السودانيين على المشاركة.
تشبث برهاني بالسلطة
هناك إصرار كبير من البرهان على عدم التراجع – قدر الإمكان – عن قرارته – رغم الاستجابة السريعة للضغوط التي مورست عليه بشأن اعتقاله رئيس الوزراء، فقد أطلق سراحه وأعاده وأسرته لمنزله -، وهو ما يبدو جليًا من التصعيد المتبادل بينه وبين الرافضين لانقلابه، إذ تتدحرج كرة الثلج يومًا تلو الآخر.
الجنرال رفع عصا الإقالة في وجه كل من يغرد خارج سربه المفصل على مقاسه السلطوي، إذ أعفى عددًا من الدبلوماسيين والسفراء من الخدمة، آخرهم سفراء السودان في كل من تركيا والإمارات وجنوب إفريقيا، بجانب رئيس بعثة السودان بالأمم المتحدة بالإنابة واثنين من السفراء العاملين بوزارة الخارجية.
وفي تسجيل له حصلت عليه الجزيرة، أكد السفير السوداني المعزول في سويسرا، علي بن أبي طالب الجندي، المندوب الدائم لدى مكتب الأمم المتحدة بجنيف، عدم اعترافه بالسلطة الجديدة في الخرطوم، واصفًا ما حدث في بلاده بـ”الانقلاب”، رافضًا إعفاءه من منصبه، كون من فعل ذلك سلطة انقلابية سطت على الدستور، على حد تعبيره.
الساعات القليلة الماضية شهدت سيولة سياسية في المشهد السوداني، تتعلق باستجابة بعض العواصم الخليجية للضغوط الغربية
ميدانيًا.. قال قائد الجيش السوداني، إن التظاهر السلمي حق مكفول ومشروع للجميع، طالما كانت التظاهرات في إطارها السلمي، مؤكدًا في تصريحات له أن القوات الأمنية لن تتدخل كلما كانت المظاهرات بعيدة عن العنف، مع الوضع في الاعتبار سقوط عدد من القتلى والجرحى خلال مناوشات بين الأمن والمتظاهرين خلال احتجاجات الأيام الخمس الماضية.
ورغم التطمينات التي يحاول البرهان أن يبثها، فإن مكتب الناطق باسم الحكومة السودانية المنحلة يشير إلى أن السلطة العسكرية الحاليّة تخطط لافتعال أحداث تخريبية حتى تجد مسوغًا للإفراط في العنف الذي تخطط له، محذرًا من استغلال تلك التظاهرات لتمرير أجندة قمعية جديدة.
تحذيرات دولية
على المستوى الخارجي، تتصاعد التحذيرات بشأن استمرار سيطرة العسكريين على السلطة في البلاد، فقد نقلت وكالة “رويترز” عن مسؤول أمريكي (لم تسمه) قوله إن ردة فعل الجيش السوداني على مظاهرات السبت ستكون مؤشرًا على طبيعة نياته، منوهًا إلى أن البرهان يحاول إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وأن بلاده تتفهم التشكك في أوساط المدنيين السودانيين فيما يتعلق بالعمل معه.
وأكد المسؤول الأمريكي أن واشنطن ستواصل جهودها من أجل السماح لمجلس وزراء مدني بإدارة المرحلة المقبلة، ملمحًا إلى أن عشرات المليارات من الدولارات من تخفيف عبء الدين الذي يسعى له السودان لن تتحقق إذا ظل الجيش مستمرًا في محاولات قيادة البلاد منفردًا.
كما تتواصل الإدانات الأوروبية إزاء تلك التطورات، إذ دعا الاتحاد الأوروبي مجددًا السلطات العسكرية السودانية إلى ضبط النفس ومعاملة المتظاهرين والصحفيين بالاحترام الواجب خلال مظاهرات 30 أكتوبر/تشرين الأول، مشددًا على أن العودة الفورية إلى مسار الانتقال الذي يقوده المدنيون إلى الديمقراطية، هو الطريق الوحيد للحرية والسلام والعدالة لجميع السودانيين.
أما السفير البريطاني في الخرطوم، جايلز ليفر، فأكد إدانة بلاده لما أسماه “انقلاب الجيش على الحكومة المدنية في السودان”، واصفًا مليونية السبت بأنها “حق أساسي”، منوهًا على عدم شرعية أي إجراءات أحادية بخصوص الوثيقة الدستورية التي تسير بموجبها مهام الحكومة الانتقالية، وداعيًا في الوقت ذاته إلى إطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين، وتابع “لندن تُحمل السلطات الأمنية مسؤولية سلامتهم”.
أمميًا.. جدد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إدانة ما أسماه الانقلاب في السودان، داعيًا عشية انعقاد قمة مجموعة الـ20 في إيطاليا، إلى العودة للمسار الديمقراطي المحدد وفق الوثيقة الدستورية، كما حث جنرالات الدولة على ضبط النفس إزاء التظاهرات التي تدعو لها القوى الثورية المدنية.
معركة نفوذ
هناك معركة نفوذ يدور رحاها حاليًّا فوق التراب السوداني بأيادٍ خارجية، بين الفريق الداعم للانقلاب ووأد أي تجربة ثورية ناجحة، والفريق الآخر المتمسك بمكتسبات الثورة والمضي قدمًا في تنفيذ بقية استحقاقاتها وعلى رأسها تسليم السلطة للمدنيين وتفعيل مسار الانتقال الديمقراطي.
في تقارير عدة تمت الإشارة إلى أن البرهان ما كان له أن يقدم على تلك الإجراءات دون ضوء أخضر خارجي، قيل إنه خليجي في المقام الأول، وهو ما يفسر تلميح المسؤولين الأمريكيين إلى إجراء اتصالات مكثفة مع بعض قادة دول الخليج للعودة إلى المسار الديمقراطي بالسودان، في إشارة واضحة إلى مسؤوليتهم ودورهم وتأثيرهم في قرارات الجنرال السوداني.
الساعات القليلة الماضية شهدت سيولة سياسية في المشهد السوداني، تتعلق باستجابة بعض العواصم الخليجية للضغوط الغربية، كما أثير حديث بشأن وساطة إماراتية لتقريب وجهات النظر بين عسكر السودان ومدنييه، في محاولة للخروج من تلك الشرنقة، إيمانًا بالدور الذي لعبته أبو ظبي ولا تزال في الداخل السوداني والعلاقات القوية التي تجمع بين أبناء زايد والبرهان ونائبه حميدتي.
حتى القاهرة التي خرجت بعض التسريبات لتشير إلى أن إجراءات البرهان تمت دون علمها أو التنسيق معها عكس ما كان يتردد قبل ذلك، كما صرح بذلك مسؤول دبلوماسي غربي رفيع المستوى لصحيفة واشنطن بوست، فإن تلميحات تشير إلى احتمالية أن تقوم بدور ضاغط على الخرطوم للعودة للمسار الديمقراطي، كنوع من رد الاعتبار على ما قام به البرهان الذي يتمتع بعلاقة قوية مع السلطات المصرية التي تعد واحدة من أكبر الداعمين له في الآونة الأخيرة مع السعودية والإمارات.
التطورات المتلاحقة للمشهد السوداني وضعت الجانب المصري في حرج كبير، بين الاستمرار في المسار السعودي الإماراتي أو الانتصار لسيادته واستقلال قراره السياسي، خاصة أنها ليست المرة الأولى التي تتعرض فيها القاهرة لطعنات من حلفائها في المنطقة، إذ تعرضت للفعل ذاته قبل ذلك من حليفها الليبي الجنرال خليفة حفتر، بهجومه على طرابلس دون تنسيق مسبق، وهو ما أثار غضب بعض المسؤولين في النظام المصري، ما كان له أثره على الدعم المصري للجنرال لاحقًا من جانب، ومدى الانخراط في المسار الإماراتي داخل ليبيا من جانب آخر.
يؤمن الشعب السوداني الثائر حاليًّا أن المشاركة في تلك المليونيات وتعزيز حالة الضغط السلمي على سلطات الانقلاب ليست من قبيل الدفاع عن قوى الحرية والتغيير التي تواطأت بشكل أو بآخر في تقديم الحكم للعسكر، إنما زودًا عن مستقبل بلد بأكلمه.
الكلمة للشارع
استمرار الاحتجاجات الشعبية بهذا الزخم بالتزامن مع تفعيل إجراءات العصيان المدني الشامل، يضع البرهان ورفاقه في مأزق خطير، خاصة أن الحاضنة السياسية التي نجح في تكوينها مؤخرًا (المنشقون عن الحرية والتغيير وفلول الإنقاذ وبعض الجماعات المسلحة والتيارات المستبعدة من السلطة) لم تسعفه في التصدي لتلك الأمواج المتلاطمة.
السواد الأعظم من الكيانات النقابية والعمالية دخلت بالفعل في إضراب مدني شامل، فيما استجابت قطاعات جماهيرية واسعة لدعوات العصيان المدني، تزامن ذلك مع عقوبات أمريكية وتعليق بعض المنح الدولية، الأمر الذي يمثل ضغطًا كبيرًا على المؤسسة العسكرية التي ترتكن في إصرارها على خطواتها على ما لديها من ثروات تسيطر عليها على مدار السنوات الماضية.
غير أن تلك الثروات وغيرها من الأموال الموجودة في صناديق البلاد السيادية ومعها الموارد الطبيعية المتاحة لا يمكنها بأي حال من الأحوال الصمود كثيرًا أمام العصيان المدني الشامل، حال استمر طويلًا، الأمر ينسحب كذلك على الدعم الإقليمي الممنوح للبرهان لتمرير انقلابه، فلن يستمر طويلًا كذلك في ظل حالة التدني المعيشي الغائرة في المجتمع السوداني التي لا تحتمل أي ثغرة مهما كان حجمها في موارد البلاد الاقتصادية.
يؤمن الشعب السوداني الثائر حاليًّا أن المشاركة في تلك المليونيات وتعزيز حالة الضغط السلمي على سلطات الانقلاب ليست من قبيل الدفاع عن قوى الحرية والتغيير التي تواطأت بشكل أو بآخر في تقديم الحكم للعسكر على طبق من ذهب بفشلهم وانشقاقاتهم وسعيهم للاسئثار بالسلطة، إنما زودًا عن مستقبل بلد بأكلمه يحلم شعبه بانتقال ديمقراطي سلمي وسلطة مدنية تنهي عقود من حكم الجنرالات.
الفصل الأخير في تلك المسرحية التراجيدية سيكتبه بلا شك صاحب النفس الأطول بين طرفي الأزمة، فالذي يملك القدرة على الصمود والتحدي والاستعداد لتقديم المزيد من التضحيات ستكون له الكلمة العليا في إسدال الستار، فيما يلتزم المجتمع الدولي إلى حد ما مقاعد المتفرجين، حتى إن مارس ضغوطات مؤقتة حاليًّا لعدة اعتبارات، في انتظار من سيرفع الراية البيضاء لينضم على وجه السرعة إلى الفرق المنتصرة، بصرف النظر عن تفاصيل العلاقة مستقبلًا والضمانات المطلوبة لتعزيزها.