قبل نحو 72 ساعة من تسطير هذه المادة، أصدر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة بموجب المنظومة القانونية في مصر، قرارًا يقضي بتعيين الفريق أسامة عسكر قائدًا لأركان الجيش المصري.
فيما تعدُّ الإطاحة بالفريق محمد فريد حجازي من منصب قائد أركان الجيش لكي يتولى عسكرُ ذلك المنصب خليفة له أمرًا مفهومًا في ضوء اعتبارات تولي حجازي المنصب لـ4 سنوات، بداية من 2017، وهي المدة القصوى التي يسمح بها القانون العسكري لقائد الأركان في هذا المنصب، فإن تساؤلات كثيرة أثيرت بشأن اختيار عسكر تحديدًا لهذا المنصب، ثم طريقة إدارة السيسي للأمور في الجيش.
كيف ينظم القانون العسكري أحوال القيادات؟
حتى نفهم ملابسات إبعاد حجازي واختيار عسكر على وجه التحديد وطريقة إدارة السيسي للأمور في الجيش، لا بد أن نستحضر بعض الأساسيات المنظمة لحركة القيادات العليا في الجيش المصري.
بموجب القانون العسكري المصري، فإن لكل رتبة من رتب الجيش سنًا أقصى للتقاعد، فاللواء لا بد أن يتقاعد بمجرد بلوغه 58 عامًا، والفريق لا بد أن يتقاعد ما إن يبلغ 64 عامًا، والفريق الأول يمكن أن يظل في الخدمة على أساس تلك الرتبة حتى سن 62 عامًا، وتعد رتبة المشير، التي كان آخر من تولاها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قبل أن يخلع البذلة العسكرية، أعلى الرتب التي يمكنها الاستمرار في الخدمة عمرًا، وذلك حتى عمر 65 عامًا.
لكي يقوم الرئيس المصري بمد فترة خدمة أحد الضباط بعد بلوغه سن التقاعد، لا بد أن يكون ذلك الضابط يشغل واحدًا من هذه المناصب الخمس
بالطبع، يتيح القانون العسكري لرئيس الجمهورية، بصفته القائد الأعلى للجيش، أن يمد في فترة خدمة من يرى في بقائهم ضرورةً عسكريةً، لكن ذلك يسري على “المناصب” ولا يسري على “الرتب” المجردة، مع العلم أن هناك تناسبًا معينًا بين المناصب والرتب.
بمعنى، أنه لكي يقوم الرئيس المصري بمد فترة خدمة أحد الضباط بعد بلوغه سن التقاعد، لا بد أن يكون ذلك الضابط يشغل واحدًا من هذه المناصب الخمس: وزير الدفاع، قائد الأركان، قادة الأفرع الرئيسية الثلاث، الجوية والبحرية والدفاع الجوي.
تفصيل القوانين على مقاس عسكر!
لماذا نذكر هذه المقدمة الطويلة؟ نذكر هذه المقدمة، لأنه في نهاية مايو/آيار الماضي، أي قبل 5 أشهر من الآن، أصدر البرلمان المصري على وجه السرعة تعديلًا على قانون تنظيم أعمار تقاعد العسكريين، بحيث يمكن لمن يشغل رتبة الفريق أن يظل في منصبه عامًا إضافيًا، وذلك إلى أن يبلغ سن 65 عامًا.
لم يبرر البرلمان المصري ولا وزارة الدفاع ولا أي من الجهات الرسمية في البلاد سبب هذا التعديل، باستثناء ذكر “الديباجات” المعهودة بخصوص ضرورة تحقيق الاستفادة القصوى من الرتب العليا في الجيش، وعلى رأسها رتبة الفريق.
لكن تحليلًا عميقًا لملابسات إصدار القانون، الذي مرره رئيس الجمهورية بعد موافقة مجلس النواب، في مدة إجمالية لم تتجاوز يومين، إضافة إلى مصادر صحافية تحدثت لوكالات معارضة، أوضح أن هذا التعديل مفصل على مقاس شخص واحد فقط، هو الفريق أسامة عسكر، الذي كان يشغل منصب رئيس هيئة عمليات الجيش المصري.
في تلك الفترة، لم يكن في الجيش إلا شخصان يحملان رتبة فريق، الشخص الأول هو قائد أركان الجيش الفريق محمد فريد حجازي، الذي اشتهر بإشرافه على المناورات المصرية السودانية، وصعوده لذلك المنصب خلفًا لصهر السيسي قائد أركان الجيش محمود حجازي، الذي أطيح به بعد اتهامات للجيش بالإخفاق في التنسيق مع الشرطة المدنية خلال إحدى المواجهات مع العناصر المسلحة غرب البلاد عام 2017، التي أودت بحياة عدد كبير من ضباط وأفراد جهاز الأمن الوطني.
بالنسبة للفريق حجازي، فرغم بلوغه سن 67 عامًا، فيما ينص القانون على أن السن الأقصى لرتبة الفريق 64 عامًا فقط، فإنه يستفيد من عدة قوانين، كحق رئيس الجمهورية في مد سنوات خدمته في المنصب، باعتباره واحدًا من الشخصيات الخمسة الكبرى المشار إليها، إضافة إلى أن رئيس الأركان يجوز له أن يظل في المنصب قانونًا لمدة 4 أعوام، وبالتالي، فإن هذا التشريع المستعجل لا علاقة مباشرة له بحجازي.
الشخص الثاني الذي يحمل رتبة الفريق في هذا التوقيت، كان الفريق أسامة عسكر، الذي كان يشغل منصب رئيس هيئة عمليات الجيش المصري، وكان سيبلغ 65 عامًا في الأول من يونيو/حزيران الماضي، وبالتالي كان الاستنتاج البديهي أن هذا التشريع مفصل على مقاس الرجل، كي يستمر مدة أطول في ذلك المنصب.. لكن، كيف تقلد عسكر أصلًا رتبة فريق؟
في نهاية يناير/كانون الثاني 2015، استحدث الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي منصبًا مخصوصًا لأسامة عسكر، وهو قيادة منطقة شرق القناة لمكافحة الإرهاب، بعد أن شنت عناصر تنظيم ولاية سيناء هجومًا ضاريًا على قوات الجيش في تلك المنطقة، بهدف انتزاع مناطق رئيسية من سيطرة الدولة، وإعلانها تابعة للتنظيم كما حدث في العراق وسوريا من قبل، وقد رقى السيسي عسكر في تلك الحركة من رتبة لواء إلى رتبة فريق أيضًا.
اتهامات بالفساد لعسكر
ظل عسكر في ذلك المنصب المستحدث لمدة عامين تقريبًا، بداية من يناير/كانون الثاني 2015 إلى ديسمبر/كانون الأول عام 2016، وهي فترة شهدت تحسنًا نسبيًا معقولًا في ضبط الحالة الأمنية في شمال سيناء، بالتزامن مع تدشين المقر الجديد لقيادة مكافحة الإرهاب، وبالقياس على فترات ما قبل تدشين تلك القيادة.
لم يظهر عسكر إلى النور مجددًا، إلا نهاية عام 2019، حينما أعاده السيسي إلى الواجهة العملياتية من خلال تعيينه في منصب رئيس هيئة عمليات الجيش
لكن اللافت، أن السيسي استحدث منصبًا جديدًا آخر لعسكر بعد إزاحته من منصب قيادة قوات شرق القناة لمكافحة الإرهاب، وهو منصب: مساعد وزير الدفاع لشؤون تنمية سيناء، بمجرد تركه للمنصب العملياتي في تلك المنطقة.
ضمنَ هذا المنصب الجديد لعسكر أن يظل عضوًا بالمجلس الأعلى للقوات المسلحة، بموجب قانون قديم سنه السيسي يجعل مساعدي وزير الدفاع أعضاء في المجلس العسكري، كما ضمن له الاضطلاع بأدوار إشرافية ضخمة على مشروعات الجيش في تلك المنطقة، مع احتفاظه برتبة فريق بالطبع.
إلا أن ذلك المنصب – كما يبدو – كان وبالًا على عسكر، الذي قالت مصادر صحافية في ذلك التوقيت، إنه خضع للتحقيق ومعرض للتجريد من مناصبه العسكرية على خلفية اتهامات بالفساد تصل إلى نصف المليار جنيه، بالترتيب مع نجله، فيما يخص ملفات تنمية سيناء.
ومنذ ذلك التوقيت، نهاية عام 2017، غاب عسكر عن الأضواء، فيما ترددت أقاويل أنه لم يسجن ولم يتعرض للمحاكمة، لكنه في نفس الوقت، خضع لتحقيقات شديدة بواسطة صهر السيسي الفريق محمود حجازي قائد أركان الجيش آنذاك، ووضع تحت الإقامة الجبرية في أحد فنادق الجيش.
ولم يظهر عسكر إلى النور مجددًا، إلا نهاية عام 2019، حينما أعاده السيسي إلى الواجهة العملياتية من خلال تعيينه في منصب رئيس هيئة عمليات الجيش على رتبة فريق، وذلك وسط تكهنات بتعرض السيسي لضغوط عسكرية داخلية لرد اعتبار عسكر بعد إهانته، وذلك بالتزامن مع الإفراج عن الفريق سامي عنان القائد الأسبق لأركان الجيش الذي حبسه السيسي بسبب ترشحه أمامه في الانتخابات الرئاسية عام 2018.
كيف يدير السيسي الأمور بالجيش؟
ظهر في الأروقة البحثية تخصص جديد شهد اهتمامًا مضاعفًا في الدوائر العربية خلال السنوات الأخيرة تحت تصنيف: إدارة العلاقات المدنية العسكرية، الذي يهدف إلى رصد واقتراح طرق معقولة للتعامل مع هذا الملف الحساس في المنطقة.
من خلال هذه المنهجية وبالنظر إلى خلع السيسي البذلة العسكرية عام 2014 واضطلاع عسكر من جهة أخرى بكثير من الأعمال المدنية في سيناء خلال الأعوام السابقة، وباستقراء سلوك السيسي وقراراته المتعلقة بهذا الجانب، فإنه يعتمد أسلوب “العصا والجزرة”، على حد وصف أحمد مولانا الباحث الأمني في الشؤون المصرية.
أبرز الشواهد المُبرهنة على اتباع السيسي تلك السياسة في تعامله مع قيادات الجيش المصري، بالإضافة إلى المثال المتعلق بعسكر، وفقًا لمولانا، هي تغييراته المستمرة لقادة الجيش والأجهزة الأمنية كل فترة، وإطاحته تقريبًا بكل من شارك في الانقلاب العسكري يوليو/تموز 2013، باستثناء عسكر وممدوح شاهين المسؤول عن الملفات القانونية للجيش.
كما سن السيسي قانونًا يمنع العسكريين، في الخدمة أو على المعاش، من الترشح إلى أي منصب انتخابي، بما في ذلك رئاسة الجمهورية، إلا بعد موافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة، بالإضافة إلى قانون صدر مؤخرًا يقصر مدة بقاء قائد الأركان وقادة الأفرع الرئيسية في مناصبهم على عامين، قابلة للتجديد بموافقة رئيس الجمهورية.
ما يخشاه السيسي ويعمل على تجنبه وفقًا لما خلص إليه ذلك التحليل، هو أن يتمكن العسكريون من تشكيل مراكز قوة تهدد سيطرته الكاملة على البلاد في الوقت الحاليّ، متفاديًا خطأ الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك الذي سمح للمشير حسين طنطاوي بالبقاء في منصبه وزيرًا للدفاع 20 عامًا، إلى أن شارك الرجل في الإطاحة به خلال ثورة يناير/كانون الثاني 2011.