شارك عشرات آلاف السودانيين، من أنحاء البلاد كافة، في “مليونية 30 أكتوبر” التي دعت إليها بعض القوى المدنية، تنديدًا بالإجراءات التي اتخذها قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، في 25 من الشهر الحاليّ، التي وصفتها القوى المدنية بالانقلاب العسكري كامل الدسم.
وأسفرت التظاهرات عن سقوط 3 قتلى في مدينة أم درمان بعد إصابتهم بالرصاص، وإصابة ما لا يقل عن 100 من المتظاهرين في عدد من الولايات، بحسب لجنة أطباء السودان المركزية، فيما رصد مراسلون إعلاميون إطلاق قوات الأمن الرصاص الحي على المحتجين وسط العاصمة وفي شارع الستين وبالقرب من المجلس التشريعي في أم درمان.
المتظاهرون الذي رددوا هتافات ثورية أبرزها “الردة مستحيلة” و”يسقط يسقط حكم العسكر”، رفعوا حزمة من المطالب على رأسها إسقاط المجلس العسكري وتسليم السلطة كاملة لحكومة مدنية، إضافة إلى تقديم أعضاء المجلس العسكري للمحاسبة، وفق البيان الصادر عن “تجمع المهنيين السودانيين” أحد أبرز القوى الثورية المشاركة في ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018.
حالة من الترقب، المحلي والإقليمي والدولي، لتظاهرات الأمس، التي من المرجح أن تلعب دورًا في تشكيل خريطة المرحلة المقبلة، إذ كان يراهن العسكر على إجهاض حماسة الثوار عبر قرارات 25 من أكتوبر، فيما جاءت الرسالة صارخة وواضحة لا تقبل التأويل، رفضًا لتلك الإجراءات ومطالبة بعودة المسار الديمقراطي، بل تجاوز المتظاهرون السقف المتوقع، مطالبين بمحاكمة العسكر وتنحيتهم عن المشهد بصورة كاملة، فضلًا عن رفض أي مفاوضات يكون الجنرالات طرفًا فيها.
رهانات مليونية 30 أكتوبر على المسارين السياسي والعسكري كبيرة للغاية، في الوقت الذي تدور فيه في الكواليس السياسية الدولية والإقليمية حاليًّا وساطات عدة للخروج من هذا المأزق، الذي ربما يدخل البلاد في آتون من الظلامية والدموية التي لا يمكن وقف شلالاتها، وشهدت الساعات القليلة الماضية بعض المؤشرات التي ترجح احتمالية وجود صفقة بين العسكر والمدنيين بوساطة بعض الكيانات الدولية على رأسها أمريكا والاتحاد الأوروبي، للوصول إلى نقطة مشتركة تجنب السودان الولوج في مستنقع الفوضى.. فما ملامح تلك الصفقة؟
السودانيون يقولون كلمتهم
كان يراهن المكون العسكري منذ تشاركه السلطة مع المدنيين عقب الإطاحة بنظام عمر البشير، على عامل الوقت لتشويه صورة المكون المدني وزرع العراقيل أمام طريقه بما يجهض كل مساعيه لتلبية أحلام الثائرين، ما قد يترتب على ذلك إعادة نظر في أولويات الشارع الذي بلا شك سيرتمي في أحضان الجنرالات بصفتهم المنقذ، أو هكذا كانوا يتصورون استنادًا لتجارب بعض البلدان المجاورة.
الرهان هنا كان محفوفًا بالمخاطر، وفي الوقت ذاته كان بعيدًا عن الواقع، فمنذ الساعة الأولى لانقلاب 25 أكتوبر، كان السودانيون في الشوارع والميادين، منددين بما حدث، مدركين تمامًا لخطورة هذا التحرك، رغم نجاح الجنرالات في استحضار حاضنة سياسية لهم من المنشقين من الحرية والتغيير وفلول الإنقاذ وبعض الجماعات المسلحة والأحزاب المستبعدة من تورتة الحكم.
أثبت السودانيون الذين سقط منهم قرابة 12 مواطنًا فيما أصيب المئات منذ بداية الانقلاب وحتى مساء الأمس، أن الزود عن ديمقراطيتهم ومدنية بلادهم هدفًا منشودًا لا يمكن التراجع عنه
الحشود الغفيرة التي خرجت منذ بيان البرهان ولا تزال مستمرة حتى اليوم، لم تضع نصب عينها قوى الحرية والتغيير ولا مستقبلها السياسي، إنما كان خروجها دفاعًا عن البلد بأكمله، وديمقراطيته المنشودة أمام مخطط مكتمل الأركان للعودة بالبلاد إلى قرون الظلام والحكم العسكري.
ومن ثم انضم لتلك الفعاليات الاحتجاجية العديد من أطياف اللون السياسي المتباينة، والمختلفة جملةً وتفصيلًا مع قوى الحرية والتغيير، التي خرجت لأجل إعادة البلاد إلى مسارها الصحيح الذي رسمته ثوره ديسمبر، ومن ثم جاءت الرسائل قوية ومدوية.
أثبت السودانيون الذين سقط منهم قرابة 12 مواطنًا فيما أصيب المئات منذ بداية الانقلاب وحتى مساء الأمس، أن الزود عن ديمقراطيتهم ومدنية بلادهم هدفًا منشودًا لا يمكن التراجع عنه رغم مخطط التشويه والانقسام الذي نفذه العسكريون بحق القوى الثورية التي ساعدت دون قصد على تقديم السلطة للبرهان وحميدتي على طبق من ذهب.
رهانات 30 أكتوبر
لم يتوقع الجنرالات أن التظاهرات الرافضة لانقلابهم ستحقق تلك النتائج وردود الفعل المدوية، بل لم يدر بخلدهم أنه بعد كل هذا القمع والتنكيل والضغوط الممارسة لتفتيت اللحمة الوطنية وبث روح الفتنة بين الجسد الثوري، أن يخرج السودانيون بكل تلك الأعداد رفضًا للإجراءات البرهانية.
الأمر تجاوز فكرة الرفض إلى رفع شعارات ربما تضع حياة المشاركين في الانقلاب على المحك، إذ طالب المتظاهرون بتسليم جميع أعضاء المجلس العسكري الانقلابي لمحاكمات عاجلة وفورية بتهمة الانقلاب العسكري، وحل كل المليشيات المسلحة وإعادة تكوين قوات الشعب المسلحة – خلال فترة محددة – وفق عقيدة وطنية هدفها حماية حدود الوطن وحقوق الشعب في الحرية والسلام والعدالة، بجانب إبعاد القوات النظامية من العملية السياسية نهائيًا، بتجريم ومنع ممارسة السياسة من العسكر.
كما أعلنوا في الوقت ذاته أنه لا حوار ولا تفاوض مع أي من أعضاء المجلس العسكري الانقلابي وكل أعضاء اللجنة الأمنية ورفض المحاور الدولية، وضرورة تكوين كل هياكل السلطة الانتقالية في فترة محددة، بإشراف الأجسام المهنية والأكاديمية ذات الصلة، مع تأكيد أهمية الاستقلالية التامة لسيادة الدولة السودانية فيما يخص كل القرارات الاقتصادية والسياسية والأمنية.
المجتمع الدولي الذي كان يتحرك بخطوات متأرجحة في مسار الضغط على عسكر السودان للعودة إلى المسار الديمقراطي فإنه اليوم وبعد تلك المليونية سيكون التحرك بخطوات أكثر قوةً وثباتًا، مستندًا إلى إرادة شعبية أعلنت رفضها صراحة للانقلاب
حملت تلك المطالب رسائل واضحة للمجتمع الدولي الذي تصاعدت لهجة خطابه السياسي إزاء جنرالات السودان، فيما تواترت مواقف الإدانة الإقليمية والدولية لما حدث، تزامن ذلك مع تسريب أخبار عن مبادرات لجهات وقوى إقليمية ودولية لعودة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، خاصة في ظل انشقاق أكثر من 60 سفيرًا حول العالم وإدانتهم ما سُمّي “تصحيح المسار الديمقراطي”.
الداخل والخارج كان في انتظار نتائج مليونية السبت، تلك المليونية التي نجح السودانيون من خلالها في تجاوز سقف توقعات العسكر الذين فوجئوا بتلك الأعداد الغفيرة رغم الضغوط الممارسة عليهم، ومن ثم وبعدما تكشف للعيان وضوح وقوة الرسائل السياسية التي بعث بها الشعب الثائر فمن المتوقع أن يكون لهذا التصعيد تداعيات على المستوى المحلي والدولي.
محليًا.. نتائج تلك المليونية ستحسن من أوراق الضغط التي بيد رئيس الوزراء عبد الله حمدوك والمدنيين بصفة عامة، لا سيما بعدما استعاد الشارع زخمه مرة أخرى، ليجهض كل محاولات الإجهاز عليه من المكون العسكري طيلة العامين الماضيين، وتشير المؤشرات الراهنة إلى أنه يومًا تلو الآخر – بعد الانقلاب – يزداد موقف الثوار قوةً مقارنة بالضعف الذي يعاني منه الانقلابيون.
دوليًا.. فإن المجتمع الدولي الذي كان يتحرك بخطوات متأرجحة في مسار الضغط على عسكر السودان للعودة إلى المسار الديمقراطي فإنه اليوم وبعد تلك المليونية سيكون التحرك بخطوات أكثر قوةً وثباتًا، مستندًا إلى إرادة شعبية أعلنت رفضها صراحة للانقلاب ومستعدة لبذل المزيد من التضحيات للزود عن مدنية الحكم في بلادها.
ثمة مقاربات ربما تضع النقاط فوق الحروف قدمتها تظاهرت 21 و30 أكتوبر/تشرين الحاليّ، إذ نسفت الحشود المشاركة في تلك الفعاليات كل الرهانات القديمة التي كان يستند إليها العسكر، التي كان يتوهم أنه استطاع إحكام القبضة على الشارع من خلال الانقسامات التي نجح – بمشاركة قوى الحرية والتغيير – في زرعها داخل الجسد المدني.
التطورات المتلاحقة للمشهد والتسريبات التي تشير إلى احتمالية أن يكون لحمدوك دور في المرحلة المقبلة عبر توليه رئاسة الحكومة مرة أخرى، لكن ليس شرطًا أن تكون بنفس الأسماء القديمة، وهي التسريبات التي أفصح عنها البرهان بنفسه خلال تصريحاته لوكالة “سبوتنيك”.. الأمر الذي يدفع للتساؤل: هل يقبل حمدوك العودة مجددًا وفق صفقة جديدة مع العسكر؟ وما ملامح تلك الصفقة؟
إرهاصات صفقة سياسية
استمرار الثوار في الشوارع والميادين يسحب من رصيد البرهان ورفاقه بلا شك، ومن الواضح أن هناك إصرارًا شعبيًا على إعادة الأمور إلى ما كانت عليه، الأمر الذي قد يدفع الجنرال المنقلب إلى التراجع خطوة للوراء لإعادة تقييم المشهد وفق أبجدياته الجديدة.
لكن يبقى السؤال: هل يتراجع البرهان عن انقلابه؟ بالطبع الأمر ليس بتلك الصورة السهلة أو المبسطة مهما كانت الضغوط الداخلية والدولية، وهو ما قد يقود الجميع إلى الجلوس على مائدة حوار جديدة، مكونة من ثلاثة أطراف: العسكر والمدنيين والوسطاء الدوليين.
من الطبيعي أن يفرض البرهان – بصفته الأقوى مرحليًا – شروطًا مسبقةً لإعادة الأمور إلى مسارها قبل 25 أكتوبر/تشرين الأول، أبرزها تغييب لبعض الأسماء التي كانت مشاركة في الحكومة المنحلة، مع تقزيم صلاحيات قوى الحرية والتغيير في ظل السجال المتبادل بينهما الذي وصل إلى طريق مسدود.
أيًا كانت نوعية الصفقات المحتمل إبرامها، والشخوص المختارون لتنفيذها، وبعيدًا عن الأجندة العسكرية المزمع تنفيذها ميدانيًا خلال الفترة المقبلة، تبقى الكلمة الفصل للشارع والعصيان المدني الذي سيكون له دور كبير في رسم ملامح تلك الصفقة ووزن وثقل كل طرف فيها
سيبحث الجنرال عن دور أكبر للعسكر داخل الحكومة الجديدة، مع ترضيات نسبية ورمزية لبعض القوى المستبعدة ضمانًا لتعزيز ثقل حاضنته السياسية الجديدة، مع إضفاء بعض التعديلات على الوثيقة الدستورية الحاليّة خاصة فيما يتعلق بتوقيت تسليم السلطة للمكون المدني، لا سيما أن هناك تباينًا قديمًا في وجهات النظر بشأن تفسير بعض بنود الوثيقة محل الجدل بين المكونين.
في المقابل، فإن التراجع عن الانقلاب خطوة كبيرة لن يوافق الفريق البرهان عليها إلا بشروط مؤثرة وأثمان باهظة على تحالف الحرية والتغيير، وذلك بعد أن تحولت المعركة السياسية معه إلى تراشق لفظي، وتمت شخصنة الصراع السياسي لدرجة مطالبة المكون العسكري بتنحية أسماء بعينها من المجلس السيادي.
هناك رغبة أمريكية ملحة في إتمام تلك الصفقة في أقرب وقت، فبعيدًا عما يثار بشأن منح واشنطن ضوءًا أخضر للبرهان لتمرير انقلابه لأسباب عدة، فإن الأمريكان لا يفضلون استمرار الوضع على تلك الكيفية أطول من ذلك، خشية أن يفتح المشهد بصورته تلك بابًا كبيرًا لدخول قوى أخرى، على رأسها الصين وروسيا.
الأمريكان يريدون إعادة رسم الخريطة السياسية بالسودان بما يحقق مصالحهم السياسية والاقتصادية في ظل صراع النفوذ في تلك المنطقة الإستراتيجية، التي تعد بوابة إفريقيا بأكملها، ولن يتحقق ذلك في ظل وجود الخريطة القديمة التي كانت تعرقل الأجندة الأمريكية بصورة أو بأخرى.
وبصرف النظر قبل حمدوك تلك الصفقة أم لا، فإن السيناريو لن يتغير كثيرًا، فهناك العديد من الأسماء المستقلة المرشحة خارج الإطار الحزبي وغير المنتمية لأي من القوى التقليدية الحاليّة، يمكن أن تقوم بهذا الدور، وإن كان حمدوك هو الأنسب نظرًا لما اكتسبه من خبرات طيلة العامين الماضيين، وعلاقاته المتشعبة بالقوى الدولية التي ربما توفر له حاضنة سياسية قوية.
وفي الأخير… أيًا كانت نوعية الصفقات المحتمل إبرامها والشخوص المختارون لتنفيذها، وبعيدًا عن الأجندة العسكرية المزمع تنفيذها ميدانيًا خلال الفترة المقبلة، تبقى الكلمة الفصل للشارع والعصيان المدني الذي سيكون له دور كبير في رسم ملامح تلك الصفقة ووزن وثقل كل طرف فيها، وهو ما يراهن عليه الثوار للحفاظ على مكتسباتهم قدر الإمكان.