هذا هو المقال الثالث من سلسلة مقالات مترجمة حول الوضع الإيراني، من عدد نوفمبر 2014 من مجلة الإيكونوميست البريطانية
طبقًا للقانون في إيران، يجب على كل المباني الحكومية أن تحتوي على غرف للصلاة، ولكن بجولة في أنحاء البلاد المختلفة، يتكشف للناظر أن الأحذية المتناثرة خارج هذه الغرف في محطات الحافلات، والمباني الإدارية، ومراكز التسوق، قليلة للغاية. يقول أحد العاملين في تلك المباني: “نحن نتجه لتلك الغرف للنوم بعد الغذاء”.
رفع الأذان كذلك أصبح نادرًا جدًا، وقد بدأ المسؤولون في إسكات المؤذنين لكسب ود المواطنين الذين يشتكون من الضوضاء. في السابق، كانت يتم قطع مباريات كرة القدم لبث الأذان مباشرة، أما الآن فتظهر علامة صغيرة في ركن الشاشة.
إيران هي الثيوقراطية الدستورية الأولى والوحيدة في العالم، وهي أيضًا واحدة من البلدان الأقل تديّنًا في الشرق الأوسط، إذ يتضائل الدور الذي يلعبه الدين في المجال العام اليوم عمّا كان عليه الحال منذ عقد. تقول واحدة من بنات رجل دين معروف: “لقد مات الاعتقاد الديني، وحل الاشمئزاز محل الإيمان”.
بينما جاهدت القيادات العلمانية في العالم العربي لقمع الإسلام لعقود، خالقة نقطة التفت حولها الكثير من الاحتجاجات السياسية، حدث في إيران العكس تمامًا. فقد أدى تحوّل الإسلام الشيعي لأيديولوجية إلى تراجع صورة كلٍ من الدولة والمسجد، ولسخرية القدر، أدت سياسات الثورة الإسلامية إلى علمنة اجتماعية أكثر مما أدت سياسات الشاه الاستبدادية منذ انقلاب ١٩٥٣، والتي قمعت رجال الدين. بفرض الدين على الناس، أصبحت التعبّد علقمًا. فقد سأم الناس أن يقول لهم أحد ما الذي يجب أن يفعلوه، وتوقفوا عن الاستماع لصوت الدين.
البعض يجد ملاذًا اليوم في المادية، إذ تزداد المحال ومراكز التسوق بشدة، كما يلاحظ سعيد ليلاز، اقتصادي معروف: “لا يمكنك أن تُغدق على شعبك بتريليون دولار في عقد من الزمن، ثم تنتظر منه أن يظل تقيًا وثوريًا. لقد اعتاد الناس على الراحة والرفاهة”.
تراجع كثيرًا نفوذ رجال الدين اليوم في إيران، وأصبح غير مباشر، والكثير منهم اكتفى بالحوزات العلمية، ولم يعد يشارك في الإدارة اليومية للاقتصاد والعلاقات الدولية، رُغم أن الدولة لا تزال تستشيرهم في الأمور الرئيسية. يقول المفاوضون الغربيون في المباحثات بخصوص البرنامج النووي، أن نظراءهم الإيرانيين كثيرًا ما كانوا يغيرون مواقفهم في المفاوضات بعد رحلات إلى قم، معقل الثورة الإسلامية. يملك رجال الدين ثروات هائلة، وبالتالي لا يزالون يتمتعون بنفوذ اقتصادي.
يظل الإيرانيون روحانيين كشعب، ويرون الإسلام جزءًا من هويتهم، ولكن الشيء الذي نفر منه الجميع قدر استطاعته هو الدين المؤسسي. لا يزال على النساء ارتداء الحجاب في الشارع، ولا زلن ممنوعات من دخول الملاعب. الفصل في الحافلات بين الرجال والنساء كذلك لا يزال ساريًا، إذ تجلس النساء في مؤخرة الحافلة وخلف حاجز. بيد أن نساء الخليج يقُلن أنهن يشعرن بحرية أكبر حين يزرن إيران مقارنة ببلدانهن، حيث تقول إحداهن أن كراهية النساء متجذرة في الدولة ربما أكثر في إيران، ولكنها ليست منظمة كما في الخليج.
تطغى النساء على الجامعات في إيران، وأحيانًا تشكلن ثلثا الطلبة، وهو ما دفع إلى مطالبات بوجود كوتة للرجال. كذلك أظهر استطلاع رأي أجري مؤخرًا أن ٨٠٪ من النساء غير المتزوجات لديهن علاقات خارج إطار الزواج.
لا يدلل على هذا التغيّر في إيران أكثر من النظر إلى قُم نفسها، العاصمة الدينية. فقُم، التي يتدفق لها الآلاف ليسمعون الخطب المعادية للغرب من قبل آيات الله، قد تخدعك بهذه القشرة. فالمدينة التي تضاعف سكانها عشر مرات، ليصل إلى مليون ونصف اليوم، تضاءلت فيها مكاتب الحكومة والحوزات العلمية، تحديدًا في شارع الشهيد الذي يسميه الناس شارع المرح، نظرًا لظهور مركز تسوق ضخم — وتُعرَض فيه سراويل النساء الضيقة دون تدخل.
الوافدون من طلبة علوم الدين وآيات الله أيضًا لهم من الخيرات جانب. فرُغم أنه يُفرَض عليهم ارتداء ملابس رجال الدين، ويقضون ساعات يوميًا في الدراسة، يقول واحد من أصحاب محال النظارات أنهم ينفقون لشراء أكثر أنواع النظارات بذخًا. يقول واحد من طلبة الحوزات العلمية، والحزين على هذه الحال: “الحرام يملأ العالم الشخصي للإيرانيين في قُم. لدينا هنا أعلى معدلات استهلاك للكحول في إيران.”
هذه هي إيران إذن، حيث يختلط النساء بالرجال بحرية في المقاهي، والتي اعتادت في السابق أن تغلق أبوابها مبكرًا، ولكنها تظل اليوم حتى المساء. غطاء الوجه الذي كان شائعًا يومًا ما بين النساء، منعته الدولة بعد أن استخدمه رجال لدخول مدرسة حكومية والاعتداء على الطالبات فيها.
الحالة الإيرانية ليست استثناءً، إذ يبدو أنها تقترب من النمط الأوربي. يقول دبلوماسي أوربي: “البلد هنا إسلامي بنفس المعنى الذي نعنيه حين نقول أن إيطاليا بلد كاثوليكي. الكل هنا بشكل رسمي مؤمن، ولكن في بيوتنا الجميع يغش. يغش في دفع الضرائب، وحتى يغش زوجته”.
هذا هو التقرير الثالث من سلسلة تقارير من مجلة إيكونوميست حول الوضع الإيراني بعنوان (نهاية الثورة!)