خطة لإعادة الفشل الديمقراطي

يتابع التونسيون بحماس موجة ثانية من الثورة السودانية ضد آخر انقلاب في سلسلة انقلابات الجيش السوداني على الحكم المدني، وللسودان تاريخ حافل بالانقلابات يوشك المرء أن ينسى عددها.
متابعون كثر يحتفون بما يرون ويتمنون لو أنهم خرجوا على الانقلاب في تونس خروج السودانيين ضد البرهان آخر المنقلبين (يا لسخرية الأسماء إذ يصير البرهان قائد انقلابات) لكن بقدر تمنيهم ينكشف عجزهم وهم فيما يبلغنا من كواليس الشارع الرافض للانقلاب يستعدون للخروج وإغلاق القوس الانقلابي في نهاية السنة، وبعض المتحمسين منهم يقولون سيكون ذلك قبل نهاية السنة الحاليّة.
لقد وضعت خطة تنكشف يوم الثاني من نوفمبر للعموم وترسم خريطة طريق لتحركات سياسية تنوى – لو قدرت – على إنهاء الرئيس نفسه وربما جره أمام المحاكم بتهم أعلاها الخيانة العظمى وأدناها الاعتداء على الدستور وكلها موجبة للإعدام
الخطة ووسائلها
لا أظن أنني أسرب سرًا عسكريًا، فخطاب الرئيس المتوتر الداعي إلى ما يشبه حربًا أهليةً يكشف أن توتره ليس مبنيًا فقط على مزاج سوداوي بل على معلومات أشعرته بأن معركة كسر عظام تتهيأ ضده، أي أن الصف المعارض مخترق حتى العظم وكواليس اجتماعاته تنتهي عند الرئيس وحزامه الأمني والسياسي.
تقوم الخطة على التجمهر بعدد وافر (20 ألفًا في الحد الأدنى) أمام البرلمان وفتحه بالقوة وإدخال النواب المعارضين للانقلاب وهم بالأساس نواب حزب النهضة ونواب قلب تونس وائتلاف الكرامة، وربما يتحمس معهم نواب فقدوا رواتبهم ودفعهم الرئيس إلى وضع مادي بائس، فهم بلا رواتب، ولم يحل البرلمان ليمكن لهم العودة إلى أعمالهم بل بلغ بهم المقت أن حرمهم من العلاج من أمراض مزمنة.
هذا العرف يشمل أيضًا منع الإسلامين من تولي حقائب محددة هي الدفاع والداخلية والعدل والخارجية (الدبلوماسية) والتربية والثقافة
فإذا فتح البرمان عنوة يتولى النواب بالداخل فرض قانون انتخابي جديد وتصعيد أعضاء المحكمة الدستورية (كوتا البرلمان) وجر الحكومة (حكومة الانقلاب) إلى مناقشة قانون المالية (ميزانية تكميلية لسنة 2021 وميزانية 2022) أو إقامة الحجة عليها أمام مؤسسات التمويل الدولية إذا رفضت الحضور وأنكرت شرعية البرلمان.
لكن الجدول يتضمن خطوات أخرى أولها استقالة رئيس البرلمان كشرط لإعلان موعد انتخابات برلمانية ورئاسية سابقة لأوانها أي عمليًا عزل الرئيس وإقامة شرعية حكم برلمانية تفاوض العالم دون المرور بالرئيس. هنا سينكشف الغش الديمقراطي.
حماة الدستور يحتالون عليه أيضًا
هذا الاتفاق الذي سيخرج إلى العلن قريبًا يقوم على التحايل على الدستور، إذ ينص الدستور على أن المحكمة الدستورية (غير القائمة بعد) تعاين فراغ منصب رئس الجمهورية (لسبب طبي أو لسبب مشابه) فيتولى رئيس البرلمان الرئاسة لمدة تتراوح بين 45 يومًا و90 يومًا تنظم خلالها انتخابات رئاسية.
لكن الخطة المزمعة خضعت لشرط غير دستوري وغير مكتوب، لكنه دخل في العرف السياسي الذي لم يحدد من الداخل (وهو ألا يصل أي عنصر من حزب النهضة إلى رئاسة الجمهورية و(خاصة زعيم الحزب راشد الغنوشي)، فقد ترسخ في الأذهان أن موقع رئيس الجمهورية ممنوع منعًا باتًا وقاطعًا على أي نهضوي ولو تحلى بكل صفات الديمقراطية. من وضع هذا الشرط؟ هذا شرط فرنسي صرف فرض على تونس ووجد هوى لدى النخب السياسية منذ الثورة، وهي نخب يتكلم أغلبها لغة السيادة الوطنية.
وهذا العرف يشمل أيضًا منع الإسلاميين من تولي حقائب محددة هي الدفاع والداخلية والعدل والخارجية (الدبلوماسية) والتربية والثقافة، وهذا بقطع النظر إن كانوا هم من يشكلون الحكومة أو يشاركون في حكومة يشكلها غيرهم، أي أن نتيجة الصندوق الانتخابي ليس المعيار أو القاعدة لتوزيع الحقائب بل هوى النخب المتماهي مع هوى دولة الاحتلال.
من هذه الزاوية وعلى قاعدة هذا العرف غير الدستوري وضعت خطة التصدي للانقلاب ووضع داخلها شرطًا لا يجب أن يؤدي (رمزيًا أو واقعيًا) عند عزل الرئيس إلى تولي راشد الغنوشي الرئاسة ولو في مرحلة انتقالية قصيرة الأمد، وقد نزلت بعض تبريرات هذا العرف إلى حد القول إن الغنوشي ليس وسيمًا بما يكفي ليكون رئيسًا، كأن الباجي قائد السبسي أو قيس سعيد كانا من نجوم هوليوود أو بوليود.
هذا خروج صريح عن النص الدستوري وهو مطابق في الجوهر لما قام به قيس سعيد الحكم بغير النص وفرض أمر واقع بعقل استئصالي، لكن لماذا يقبل الإسلاميون بخطة مماثلة ويخضعون لشروطها؟
الإسلاميون الصاغرون
لدى الإسلاميين قائمة طويلة من التبريرات لمواقفهم الخانعة لشروط غير ديمقراطية، إذ اعتبروا أنفسهم تابعين لا فاعلًا رئيسيًا صاحب حق في المشاركة، لذلك دفعوا إلى القبول بالحدود الدنيا كأنهم موالون لقبيلة الديمقراطية التونسية، وقد تجلى ذلك منذ حكومة حمادي الجبالي، وكان يسهل عليهم القول إنهم يفعلون ذلك من أجل مصلحة البلد وأن ما يفعلون تضحية أو شهادة في سبيل الله، كأن مصلحة البلد وديمقراطيته الناشئة أن ينتخب الناس حزبًا فيحكم غيره، لقد كانت تنازلاتهم بوابة للاعتداء المستمر على التجربة الديمقراطية.
بوابو الديمقراطية سيشتغلون كغطاء ديمقراطي لنهضة غير ديمقراطية فيعيدونها إلى السلطة بثمن مسبق (متفق عليه)
هل كانت تلك التنازلات المتكررة وآخرها الخطة الجارية لمواجهة الانقلاب تضحيةً من أجل البلد أم من أجل مواقع مريحة في السلطة لبعض القيادات الطموحة.
الجزم بإحدى الإجابتين لا يقدم تفسيرًا لتعطل التجربة الديمقراطية، لكن النتيجة الأكيدة التي حصلت هي أن هذه التنازلات أدت الى تخريب التجربة حتى مرق من فشلها قيس مثل قيس سعيد، وإحدى علامات خرابها أن يصل شخص مثل سمير بالطيب (الذي كان رئيس حركة التجديد/الحزب الشيوعي التونسي سابقًا) إلى تولي حقيبة الزراعة أي المسؤول الأول عن غذاء التونسيين وهو الذي خاض مع مجموعته انتخابات 2014 وسقط سقوطًا مريعًا (صفر نواب في برلمان 14-19) لكنه ظفر بالتحكم في غذاء التونسيين وهو يحاكم الآن بتهمة العبث بمقدرات البلد الزراعية، تلك التنازلات هي ما جعلت مثله حكمًا على مطمورة روما.
الخطة المزمعة للتحرك ضد الانقلاب قامت على نفس المبدأ التحرك في الشارع بجمهور النهضة الكثيف والمنظم، لكن بشرط أن لا يكون لهم موقع قدم فيما بعد، بدأ بعزل رئيسهم كشرط للاتفاق وقد قبل الشرط المذل في انتظار استكمال شرط شكلي هو أن الاستقالة لا تجوز قانونًا إلا أمام برلمان منعقد وخلاصة ذلك: جمهور النهضة مقابل إعادة إدماج النهضة في المشهد السياسي بمعنى أن هناك بوابين محترفين نصبوا أنفسهم لحراسة المنطقة الديمقراطية يدخلون إليها من يشاؤون نظير أتاوة سياسية وهذه الأتاوة الآن هي كسر رأس رئيس الحزب (إذلاله) مَنْ عين هؤلاء البوابون على المربع الديمقراطي؟ وما أسلحتهم لحراسة المنطقة؟
من يهن يسهل الهوان عليه
إن أهم سلاح عند هؤلاء البوابين المزيفين هي استعدادات النهضة المسبقة لتقديم تنازلات مهينة، أي قابليتها الأبدية للابتزاز السياسي، فقد وضعت نفسها في موضع الجدار القصير الذي يتقافز عليه أطفال السياسة.
في الخطة أن بوابي الديمقراطية سيشتغلون كغطاء ديمقراطي لنهضة غير ديمقراطية فيعيدونها إلى السلطة بثمن مسبق (متفق عليه)، وأن النهضة (الديمقراطية نظريًا) قبلت بذلك مستبطنة وضعًا دونيًا ينفي عنها الديمقراطية فعلًا، وهذا الاتفاق يحمل في باطنه بذرة انهياره بعد إنجاز مهمته (هذا لو أفلح في إنجازها).
هل كانت هناك حلول أخرى؟ نعم توجد حلول أخرى تقع في صلب الديمقراطية وأهمها أن تترك هذه الوجوه النيرة ديمقراطيًا (البوابون المزيفون) لمصيرها البائس في مواجهة الانقلاب، فقد تراكم ما يكفي من المؤشرات على فشلها قبل الانقلاب وفي مواجهته.
فهي رؤوس بلا أجسام (وإنما زعامات صغيرة لمعها الإعلام ونفخ في صورها حتى ظنت وظن الإسلاميون خاصة أنها قادرة فعلًا) أو تتضمن الخطة كلامًا بالأسود على الأبيض، مفاده بكل الوضوح الضروري الخضوع الفعلي دون أي مناورات استئصالية لحكم الصندوق.
في الوقت الذي يبرر إسلاميون الخروج على الانقلاب باسم المصلحة الوطنية يغتنم هؤلاء الصغار الوضع ليتقدموا الصفوف النهضوية الخانعة ويخطبون فيها كزعماء وهم الذين لو ساروا وحدهم في الشارع لظنهم الرائي مواطنين بسطاء يتسوقون.
ماذا لو ترك الإسلاميون الانقلاب يسقط من تلقاء نفسه؟ فأعرضوا عن الحديث عن الشرعية البرلمانية وعن عودة المؤسسات؟ حتى يعرف الجميع عمق الأزمة السياسية التي خربت التجربة وحتى يعرف الناس (البسطاء المجهولين) أقدار الأحزاب والشخصيات التي يمكنه الاعتماد عليها فعلًا.
لقد ظن الانقلاب ومسيروه من الخارج والمتحمسون له في الداخل أن الانقلاب قد أقصى النهضة من الحكم، وهو ظن سليم حتى الآن لكنه لم يروا الانقلاب يكشف أحجام من نسميهم مجازًا بالصف الديمقراطي، هذه الحقيقة المغيبة التي لا يريد حتى حزب النهضة البناء عليها ستؤدي إلى وضع النكرات السياسية على سرج المرحلة ما بعد الانقلاب (وهي مرحلة قادمة ولو فشلت الخطة الحالية) وسيكون ركوبهم بشروطهم فالنهضة تعيرهم جمهورها (المسكين) لتقف خلفهم بنفس الذلة والمسكنة القديمة.
اختصر هذه الخطة تحمل في باطنها جرثوم فشلها في مرحلة التنفيذ أولًا، فإذا نجت وهو احتمال ضعيف فستحمل جرثوم فنائها لما بعد الانقلاب أي عند توزيع مغانم السلطة المستعادة، لذلك يمكن للانقلاب الآن أن يحرك قوته الصلبة ويستمر في فرض واقع لن يواجهه فيه أحد، فحجة حماية الوطن ليست حكرًا على أحد.