من الطبيعي والمفهوم أن تتأثر الاقتصادات والأسواق بالمتغيرات الخارجية، أي الخارجة عن جنس التصنيف الاقتصادي، وذلك في ظلِّ العلاقة المباشرة بين الاقتصاد من جهة والسياسة من جهة أخرى، وتصميم الاقتصاد العالمي المعاصر على نحو يجعله متشابكًا ومرتبطًا ببعضه، من خلال مفاهيم العولمة الاقتصادية والتجارة العالمية، فلا اقتصاد معزول تقريبًا عن المتغيرات الخارجية سواء كانت في القُطر نفسه أم خارجه.
وتزيد تلك “العلاقة الاعتمادية”، بمفهوم علم النفس الاقتصادي والتأثُّر بمتغيرات خارج الاقتصاد أو خارج البلاد؛ لدى الاقتصادات التي تعتمد على قطاعات وأنشطة غير إنتاجية وغير مستدامة، ما يجعل أي هزّة في السياسة الداخلية للبلاد، أو على المستوى الخارجي، تُحدث أثرًا سلبيًّا على ذلك الاقتصاد.
هذا ما حدث في مصر خلال العقد الأخير الذي شهد تغيُّرات سياسية كبيرة، أي أنها ليست اقتصادية بشكل مباشر من الدرجة الأولى، ولكنها أثّرت في الاقتصاد، بالإضافة إلى طبيعة الانحيازات والسياسات التي تبنّاها كل نظام، وأثر التغيُّرات العالمية في الاقتصاد المصري الذي ترتبط مداخيله المحدودة بعوامل غير مستقرّة، كحركة التجارة العالمية ورسوم قناة السويس والسياحة والتحويلات الخارجية.
نحاول في هذه المادة تقديم عرض بانورامي لأبرز التحولات التي شهدها الاقتصاد المصري خلال العقد الأخير، بفعل بُنيته غير الإنتاجية وتفاعُلها مع المتغيرات السياسية داخل البلاد وخارجها، بدايةً من ثورة يناير/ كانون الثاني التي أطاحت بالرئيس الأسبق محمد حسني مبارك بعد عجزه عن توفير “العيش والعدالة الاجتماعية”، مرورًا بعام الديمقراطية اليتيم، وصولًا إلى عصر السيسي الذي يمثِّل الحقبة الأكبر من هذا العقد، والتي يخضع الاقتصاد المصري خلالها لتحوُّلات جذرية، أغلبها لا تصبُّ في مصلحة المواطن، كما تقول التقارير العالمية.
الحقبة الأولى: فجوة بالغة
يمكن القول دون أي مبالغة إن سؤال الاقتصاد، اليومي والمستقبلي، كان أحد الأسباب التي دفعت المصريين إلى هذا الفعل الجمعي الاستثنائي الذي وقع مطلع العقد، أي ثورة يناير/ كانون الثاني 2011 التي تشكّلت رمزيًّا في أحد أبرز ميادين البيروقراطية المصرية: ميدان التحرير.
دون كلام إنشائي، كان الوضع في تلك المرحلة بالغ الغرابة، إذ تقول أرقام الحكومة إن كل شيء يسير على ما يرام: معدلات النمو، الصادرات، النقد الأجنبي، أرقام البطالة، برنامج الإصلاح الاقتصادي؛ بينما في الوقت نفسه لا يرى المواطن، وبالأخصّ الشباب، ترجمة عملية لتلك المؤشرات على أرض الواقع.
تقول السردية الحكومية في ذلك التوقيت، نهاية عصر مبارك، إن معدلات النمو وصلت إلى 7%، وهو معدل متواصل لم تحقّقه إلا دول قليلة على غرار الصين في ظل أزمات كبرى أثّرت سلبًا على الاقتصاد العالمي مدة طويلة، كالأزمة المالية العالمية عام 2008.
وإن معدلات البطالة كانت في مستوى آمن بين 10% و15%، تزيد وتنقص، وأنه بفضل استقرار السياحة الأجنبية وتحويلات المصريين في الخارج ورسوم قناة السويس وتحسُّن الصادرات، كان هناك وفرة من المال الأجنبي تقدَّر بـ 35 مليار دولار تقريبًا، وهي نفس معدلات الديون الخارجية مستحقة الدفع على أمداء بعيدة.
عُزيت تلك الفجوة في الحالة المصرية من عديد من المتخصِّصين آنذاك، إلى تفشّي سياسات الخصخصة والفساد والاحتكار، حتى عُرفت حكومات ما قبل الثورة في مصر بـ”حكومات رجال الأعمال”.
أما على أرض الواقع، فإن كل شيء في البلاد كان مشابهًا للحالة الصحية والعمرية للرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، وحزبه الحاكم الحزب الوطني الديمقراطي، والعيش على سرديات انتصار أكتوبر/ تشرين الأول عام 1973.
كانت كل الخدمات العامة تقريبًا متردية مصابة بالشيخوخة؛ فالمدارس مكتظّة بالصغار والكبار، لا يجدون مقعدًا خاليًا للجلوس عليه، والحال في المستشفيات لا تختلف عن ذلك كثيرًا بل ربما أسوأ، وحوادث النقل المروعة مقرّر يومي في النشرة الإخبارية، ورائحة أكوام القمامة التي لا تقوم البلدية بجمعها تفوح من كل مكان، ومراكب الموت المصرية إلى أوروبا لا تتوقف عن العدْو في البحر؛ كأن هناك عالمَين منفصلَين في مصر.
بالإضافة إلى الزيادة السكانية المطّردة وفاتورة الدعم المكلفة وقلّة الموارد العامة للبلاد من الثروات النفطية بخلاف كثير من الدول المجاورة، فقد عُزيت تلك الفجوة في الحالة المصرية من عديد من المتخصصين آنذاك إلى تفشي سياسات الخصخصة والفساد والاحتكار، حتى عُرفت حكومات ما قبل الثورة في مصر بـ”حكومات رجال الأعمال”، إذ كان كل وزير رجل أعمال في تخصُّصه، له مصالحه التي قد تتعارض مع المصلحة العامة، دون رقيب أو حسيب.
عام الديمقراطية اليتيم
كان واضحًا أنّ ثمة خللًا في العلاقة بين السلطة ورجال الأعمال في مصر قبل الثورة بشكل لا تخطئه عين، فبينما أفرجت الدوائر القضائية عن أساطين عهد مبارك لأسباب سياسية وإجرائية في وقت لاحق، فإن عددًا معتبرًا من رموز المزاوجة بين المنصب والمال في العهد نفسه قد وافقوا على دفع مبالغ مالية كبيرة من الأموال التي تحصّلوا عليها بطُرُق غير مشروعة قبل الثورة مقابل تسوية ملفات الفساد الخاصة بهم، مثل رشيد محمد رشيد وزير الصناعة الأسبق ورجل الأعمال البارز حسين سالم.
في العام التالي للثورة، بعد صراعات على وتيرة وطريقة تسليم السلطة من الجيش إلى المدنيين، وضعت الإدارة الجديدة المنتخَبة للبلاد، برئاسة الراحل محمد مرسي، خطةً عاجلة لإنقاذ الوضع المتدهور خلال فترة غياب الحكم المنتخَب، سُمّيت لاحقًا بخطة الـ 100 يوم، والتي تمثل انطلاقةً لمشروع النهضة الذي كان يلخّصه مرسي في كلمات موجزة تضع الاقتصاد أساسًا للسياسة، قائلًا: “نريد إنتاج دوائنا وغذائنا وسلاحنا، حتى نمتلك إرادتنا”.
بكلّ تأكيد، يصعب الحكم على فاعلية وجدوى وواقعية تلك الخطة التي أرساها الإخوان في ذلك التوقيت، بسبب الانقلاب العسكري الذي عصف بهم بعد عام واحد فقط من الوصول إلى السلطة؛ ولكن في الوقت نفسه إنّ هناك ملامح عامة لهذا المشروع، حاولنا أن نقف عليها في “نون بوست” عبر حوار مع عمر سمير، الباحث الاقتصادي في جامعة إسطنبول والمطّلع على الشأن المصري.
وفقًا لعمر الذي يكتب في عدد من المنصات الصحفية والبحثية المتعلقة بإنتاج وتقييم السياسات، فإنّ “الإدارة المصرية الجديدة ما بعد الثورة كان لديها خطة لإدارة الاقتصاد خارج الصندوق إلى حدٍّ ما، تقوم تلك الخطة على تبنّي عدد من المشاريع القومية الكبرى مثل مشروع إقليم قناة السويس، ودعم المزارعين، وتصفير الفساد في وزارة التموين، وإعادة ضبط قطاع النفط والتعدين”.
تقول التقارير إنه رغم تسلُّم تلك الحكومة البلاد اقتصاديًّا وهي على شفا الإفلاس، وفقًا لتصريحات رسمية عن القيادات العسكرية للمرحلة الانتقالية آنذاك، وصلت إلى حد التحذير من “مجاعة”، فإن حكومة هشام قنديل نجحت في الحفاظ على معدل نمو اقتصادي مقبول.
وبسؤاله عن القدرة على توفير الموارد المالية اللازمة لهذه المشاريع، أوضح سمير أن “الرئيس مرسي كان لديه رؤية شبه واضحة لإعادة هيكلة تجارة مصر الخارجية، وإيجاد شبكة داعمين إقليميين جُدد مغايرة لشبكة نظام مبارك، وأهم أطراف هذه الشبكة هم الرباعي تركيا وقطر والعراق وليبيا، دون القطيعة مع الشبكة القديمة”.
ويضيف سمير في السياق نفسه: “رأينا علامات في تلك الفترة على مغازلة الصين وإيران وروسيا، ومحاولة فصل الاقتصادي عن السياسي معهم، بالإضافة إلى مشروع مالي عاجل أقلّ كلفة من الديون من المؤسسات الدولية، يستند على الاستثمارات والمعونات من تلك المحاور الجديدة والصكوك، وهي المشاريع التي كان من الممكن أن يُكتَب لها النجاح لو قُدِّر لهم إكمال الفترة الرئاسية الأولى في السلطة على الأقل”.
ومع تأكيده على خطورة ما حدث في 3 يوليو/ تموز 2013، عندما أطاح الجيش بالسلطة المدنية المنتخَبة، يحدِّد سمير 4 عوامل ساعدت في دفع تلك الأحداث إلى ذروتها، هي: “وجود سياق إقليمي رافض للتيار الحاكم لمصر من منظور مصلحي واقعي بحت، حيث كانت ترى الإمارات والسعودية أن أي مشروع خارج عن السيطرة والمألوف يمثل تهديدًا مباشرًا لاستقرار أنظمة الحكم في الخليج”.
“وبدرجة أقلّ محليًّا، وجدنا عملًا دؤوبًا من السلفيين ليل نهار لإجهاض قانون الصكوك تحت دعاوى دينية، في الوقت الذي كانت تقفُ فيه البيروقراطية وعلى رأسها القضاء حجر عثرة أمام استمرار المسار الجديد، وذلك عن طريق حلّ مجلس الشعب المنتخَب والسماح بالإعلان الدستوري المكبِّل لصلاحيات الرئيس مرسي، بالإضافة إلى ضعف خبرة الحزب الحاكم حينها في التعامل مع مسؤولية السلطة بهذا الحجم على المستوى الرئاسي، ما مثّل عنصر ضعف شديد في إدراك هذه التحديات والتعامل معها”، بحسب سمير.
ومع ذلك، تقول التقارير إنه رغم تسلُّم تلك الحكومة البلاد اقتصاديًّا وهي على شفا الإفلاس، وفقًا لتصريحات رسمية عن القيادات العسكرية للمرحلة الانتقالية آنذاك، وصلت إلى حد التحذير من “مجاعة“، فإن حكومة هشام قنديل نجحت في الحفاظ على معدل نمو اقتصادي مقبول هو 2.2%، دون اللجوء إلى أي إجراءات استثنائية في الاقتراض الخارجي أو فرض الضرائب على المواطنين.
حقبة السيسي
في تصريح سابق له على طريقته المعهودة التي يستحوذ فيها على الكلام فيما يقبع خلفه كل رجال الدولة، قال السيسي متحدِّثًا عن الاقتصادي والسياسي في آن واحد، إن ما حدث في ثورة يناير/ كانون 2011 كان “علاجًا خاطئًا لتشخيص خاطئ” في إشارة إلى التوابع السلبية لفعل الثورة على الاقتصاد المصري.
كما اتّهم السيسي الفعلَ نفسه بالتسبُّب في خسارة مصر 400 مليار دولار.. ولكن ما هو العلاج الصحيح للتشخيص الصحيح الذي اعتمد عليه السيسي خلال أكثر من 8 أعوام يحكم فيها مصر بصلاحيات مطلَقة؟
في كتاب أستاذ دراسات الشرق الأوسط في كلية لندن الملكية يزيد صايغ: “أولياء الجمهورية: تشريح الاقتصاد العسكري المصري”، الذي صدرَ نهاية عام 2019، أي بعد مضي أكثر من 6 أعوام على حكم السيسي للبلاد وتبلور سياساته الاقتصادية بوضوح، فإنّ صحّت عبارة السيسي في وصف الأثر الاقتصادي لثورة يناير/ كانون الثاني، فإنّه أيضًا يقوم باتّباع سياسات مدمِّرة للاقتصاد المصري.
يستند صايغ في أطروحته على عدة شواهد ومؤشرات يصف بها سلوك السيسي في مجال الاقتصاد، على رأسها قيامه بسحب رصيد المصريين من الودائع في مطلع ولايته الأولى لتدشين مشروع توسعة المجرى الملاحي لقناة السويس والذي كلّفَ 64 مليار جنيه، دون أي عوائد ملموسة حتى الآن.
قبل ذلك، برّر السيسي اقتراحه لهذا المشروع بأنه يهدفُ إلى شحذ الروح المعنوية للمصريين، وكما ذكرَ صايغ نقلًا عن الوزير المصري، فإن وزير المالية لم يعلم بإطلاق المشروع إلا من خلال التلفاز، شأنه في ذلك شأن المواطن العادي، أي أن الأمور تجري دون تنسيق، بالإضافة إلى هروب الشركة الإماراتية التي اتّفقَ معها النظام في المؤتمر الاقتصادي الدولي بشرم الشيخ على مشاركته في تنفيذ إمبراطوريته الكبرى، العاصمة الإدارية الجديدة.
بات الجيش المصري يستحوذ على قطاعات معيَّنة استحواذًا شبه كامل مثل المياه المعدنية والوقود والأسمنت، وتطوّرَ الأمر إلى أن وصل إلى توظيف سلاح الجو في مشاريع زراعية عملاقة شمال البلاد لا تخلو من فساد وسوء إدارة.
معظم تلك المشاريع العملاقة التي طرحها السيسي في حكمه في مجالات البنية التحتية كانت قد عُرضت على الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك، ولكن النظام في ذلك الوقت كان يرفضها بسبب عدم وجود عوائد حقيقية منها، وتعارُضها مع الأولويات الحقيقية التي ينبغي الإنفاق عليها، وفقًا لصايغ.
المستفيد الرئيسي من سياسات السيسي الاقتصادية، بعد السيسي نفسه الذي يرى أن تلك المشاريع تخليد لاسمه في التاريخ المصري المعاصر كما يذكر صايغ، هو المؤسسة العسكرية، والتي انتقلت من مؤسسة تشارك في الاقتصاد بنِسَب بسيطة لخلق مظلّة أمان لها خارج الاقتصاد الرسمي وتحسين وضع ضبّاطها اجتماعيًّا تماشيًا مع حقبة ما بعد النصر العسكري خلال مدة حكم مبارك، إلى مؤسسة تهيمن على كل مفاصل الاقتصاد المصري تقريبًا في عهد السيسي، تحت دعاوى السرعة في التنفيذ والنزاهة والكفاءة والاقتراب من الرئيس.
من جانبها، تشرِّح الصحفية الفرنسية هيلين سالون في مقال لها منشور في جريدة “لوموند” نهاية عام 2019، كيف تغوَّلَ الاقتصاد العسكري أفقيًّا ورأسيًّا في عهد الرئيس القادم من مخابرات الجيش والذي كان يرأس حقيبة الدفاع قبل الانقلاب العسكري، عبد الفتاح السيسي، فتقول إن الجيش المصري بات يستحوذ على قطاعات معيَّنة استحواذًا شبه كامل مثل المياه المعدنية والوقود والأسمنت، وتطوّرَ الأمر إلى أن وصل إلى توظيف سلاح الجو في مشاريع زراعية عملاقة شمال البلاد لا تخلو من فساد وسوء إدارة.
الفقراء الخاسر الأكبر
على المستوى المالي البحت، قامت استراتيجية السيسي الاقتصادية كما يوضِّح خبراء الاقتصاد، على 3 قرارات رئيسية جرى اتخاذها تباعًا، تلك القرارات هي رفع الدعم بشكل تدريجي عن الوقود والطاقة بداية من عام 2014، ثم رفع الدعم عن سعر الجنيه المصري عام 2016، الأمر الذي أدّى إلى انخفاض قيمة الجنيه أمام الدولار من نحو 7 جنيهات إلى ما يتجاوز 15 جنيهًا بسعر هذه الأيام، بالتوازي مع رفع سعر الفائدة على الجنيه عند إيداعه في البنوك.
تتّصلُ تلك القرارات بُنيويًّا ببعضها في منظومة واحدة، فعلى سبيل المثال اشترطت المؤسسات الدولية عام 2016 فرض ضريبة على الاستهلاك تبدأ من 13% في الاقتصاد المصري، من أجل السماح بالحصول على قرض بقيمة 12 مليار دولار على مدة 3 سنوات، وهي ما تُعرف بضريبة القيمة المضافة.
أي أننا نتحدث عن ارتفاع الأسعار المحلية، بسبب رفع أسعار الوقود والطاقة تدريجيًّا وفق خطة رفع الدعم، ثم ارتفاع أسعار السلع نفسها بسبب انخفاض قيمة الجنيه (تحرير سعر الصرف) وارتفاع تكلفة الاستيراد، ثم ارتفاع ثالث بسبب تطبيق ضريبة القيمة المضافة التي اشترطت المؤسسات الدولية تطبيقها من أجل الإقراض، ضمن حزمة “الإصلاح الاقتصادي”.
كان من المفترض أن تؤدّي تلك القرارات غير المسبوقة من حيث آثارها السلبية على المواطن العادي، إلى جانب زيادة الضرائب والديون الأجنبية؛ إلى سيولة مالية لدى الحكومة واستقرار نسبي في الأسواق بعد صدمة التضخُّم الأولى، وحدوث تغييرات هيكلية إيجابية في الاقتصاد، وبالأخصّ في قطاعات التصدير والإنتاج المحلي، بعد ارتفاع كلفة الاستيراد.
ولكن ما حدث كان مختلفًا، فباستثناء بعض التحسُّن في بعض المؤشرات الهامشية التي يتمُّ التلاعب بها بأكثر من طريقة، مثل عجز الموازنة ونسبة الدين إلى الناتج المحلي؛ فإنَّ المؤشرات الخاصة بتقييم أحوال معيشة المصريين، أو تحديد حدوث تغييرات إيجابية في المقومات الاقتصادية، تقول إن برنامج الإصلاح الاقتصادي لم يؤتِ أكله على نحو يحسِّن من حياة المواطنين.
رغم بلوغ احتياطي الطاقة الكهربائية المنتَجة في مصر مستويات غير مسبوقة، تمثّل ضعف حاجة السوق المحلي، تصل إلى 60 ألف ميغاواط، إلا أن الحكومة ما زالت تصمِّم على تدشين محطة الطاقة الكهروذرية مع روسيا.
وفقًا لتقرير معدلات الدخل والإنفاق الذي أصدره الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، وهو مؤسسة رسمية يتولى رئاستها لواء من الجيش، فإن نِسَب الفقر عام 2018 تخطّت 32%، مع ارتفاعات هائلة في معدلات التضخُّم، وتراجُع في الإنفاق على قطاعات الصحة والتعليم، وعدم التحسُّن في مؤشرات التصدير.
رغم مرور 3 أعوام على إصدار هذا التقرير، فإنه يعدّ دالًّا على الحالة المصرية، وفقًا للخبراء، لجملة من الأسباب على رأسها أنه أول تقرير يتزامن مع إجراء مسح شامل لعدد السكّان في مصر، وأنه، بسبب اعتماده مرجعًا دالًّا على الأوضاع الاقتصادية في البلاد، فقد عملَ المسؤولون على إدخال تعديلات تحسينية على التقارير اللاحقة تفاديًا للانتقادات التي وُجِّهت للنظام المصري إثر هذا التقرير.
يفسِّر تقرير آخر أحدث صدرَ في نشرة “إنتبرايز” عن البنك الدولي عام 2020، هذه النتائج غير السارة لقطاع المال والأعمال في مصر رغم الإجراءات القياسية التي تعرّض لها المجتمع، أنها بسبب غياب قوانين جادّة تحمي من الاحتكار، وتشجِّع المستثمرين الأجانب على الاستثمار الآمن دون الخوف من تعارض المصالح بينهم وبين الجهات الرسمية، كالشركات التابعة للنظام والجيش.
وقد أدّت هذه السياسة غير المتوازنة، والتي تقوم على اتخاذ إجراءات جذرية يتحمل تكلفتها المواطن البسيط، دون ضخّ تلك العوائد في مشاريع إنتاجية، مع التصميم على تمويل مشاريع ضخمة ذات طابع دعائي وسياسي، دون حاجة حقيقية إليها، إلى وصول الدين الخارجي إلى نحو 135 مليار دولار أمريكي خلال الربع الثالث من عام 2021، واضطرار النظام الحاكم إلى اتِّباع طُرُق تمويلية لخدمة الدين والإنفاق على المصروفات عبر طرح أصول سيادية للارتهان الدولي، والعودة إلى المنح الخليجية.
على سبيل المثال، رغم بلوغ احتياطي الطاقة الكهربائية المنتَجة في مصر مستويات غير مسبوقة، تمثِّل ضعف حاجة السوق المحلي، تصل إلى 60 ألف ميغاواط، إلا أن الحكومة ما زالت تصمِّم على تدشين محطة الطاقة الكهروذرية مع روسيا، عبر تمويل قروض من موسكو بقيمة 25 مليار دولار.
وفي الوقت نفسه تقوم أطراف خليجية بضخّ حزم دعم جديدة بقيمة 3 مليارات دولار كودائع في البنك المركزي، وهو ما يطرح علامات استفهام كبيرة عن أثر السياسة في إدارة الاقتصاد في مصر بعد مرور 8 أعوام على الانقلاب العسكري، الذي بشّر منفِّذوه أنهم يهدفون إلى إنقاذ الاقتصاد.
الحلول المتاحة
من جانبه، يعتقد يزيد صايغ، الباحث في مركز كارنيغي للشرق الأوسط، أن ما يحتاج إليه الاقتصاد المصري فعلًا وعلى وجه السرعة هو إجراء مراجعة حقيقية لاقتصاد الجيش، بحيث يعود ذلك الاقتصاد إلى حجمه الطبيعي بأقلّ الخسائر الممكنة على المجتمع.
حيث إن الجيش بهذا الشكل يتمتّع بامتيازات تفضيلية تمنع أي جهة أخرى من المنافسة وتعزِّز من مناخ الفساد وسوء توزيع الثروة، مثل ملكية معظم الأراضي العامة، والإعفاءات الجمركية والضريبية، وإسناد الأعمال بالأمر المباشر، ووجود الضبّاط على رأس كل المؤسسات، ما يؤثِّر على التنافسية والاستثمار.
وبسؤاله عمّا إذا كان الاقتصاد المصري سيسلك المسار نفسه حال عدم وقوع الانقلاب العسكري قبل 8 أعوام، استبعدَ الباحث عمر سمير هذه الفرضية، وذلك لأسباب لا تتعلق بهوية الجهة الموجودة في الحكم آنذاك، بقدر ما تتعلق بالسياق العام والملامح الاقتصادية التي بدت عند الإدارة الجديدة بعد الثورة.
يكمل سمير: “رغم أن مشروع الإخوان المسلمين الاقتصادي لم يخرج عن الإطار النيوليبرالي، إلا أنه كان من المستبعَد أن تصل الأمور إلى ما وصلت إليه مؤخرًا، وذلك بسبب السياق الثوري الذي كان يميّز تلك المرحلة، وضغوط “اليسار” المستمرة على حكومة الإخوان لإثنائهم عن أي حلول تضرُّ جذريًّا بالمواطنين”.
“بالإضافة إلى وجود خطة بديلة تتمثل في مراجعة وضع الصناديق الخاصة التي تصل موازناتها إلى مليارات الجنيهات، وأوضاع الأغنياء ضريبيًّا، ونذكر جميعًا الأزمة التي حدثت بينهم وبين رجل الأعمال نجيب ساويرس بسبب تهرُّبه من ضرائب تصلُ إلى 14 مليار جنيه، وعدول الرئيس مرسي عن توقيع قرض صندوق النقد الدولي بقيمة 5.2 مليارات دولار في الأيام الأخيرة لحكمه”.
ويؤكّد سمير “أن هذه الموارد، إلى جانب الصكوك، كانت ستجنّب الميزانية التكاليف السياسية الباهظة للمعونات الخليجية والقروض الدولية، وفي أسوأ الأحوال لم يكن الإخوان يستطيعون أبدًا تمرير قانون مثل قانون القيمة المضافة”.