كيف نجحت الحكومة الكويتية في تفكيك الكتلة المعارضة في مجلس الأمة؟

بدا واضحًا للمتابعين للشأن السياسي الكويتي، مع بدء دور الانعقاد الثاني لمجلس الأمة، أن الحكومة الكويتية نجحت في تفكيك واحدة من أقوى وأصلب الكتل المعارضة التي واجهتها خلال تاريخ مجلس الأمة (المؤسسة البرلمانية) في الكويت، والتي كان أساس برنامجها قائمًا على عزل رئيس مجلس الأمة المدعوم حكوميًّا مرزوق الغانم، ورئيس مجلس الوزراء الشيخ صباح الخالد الصباح، إضافة إلى قضية “العفو الشامل” عن المتهمين في قضية دخول مجلس الأمة إبّان الاحتجاجات الشعبية ضد رئيس مجلس الوزراء الأسبق الشيخ ناصر المحمد الصباح عام 2011.
وكان من أبرز الدلائل على نجاح الحكومة تفكيك الكتلة المعارضة التي أعطت النواب أغلبية في استجواب جميع الوزراء وإنهاء مستقبلهم السياسي، إضافة إلى استجواب رئيس مجلس الوزراء؛ هو موافقة 3 من أبرز أعضاء مجلس الأمة، وهم حسن جوهر وعبيد الوسمي ومهلهل المضف، على الدعوة التي وجّهها أمير البلاد للحوار الوطني بين السلطتَين التشريعية والتنفيذية لإنهاء حالة التأزُّم المستمرة.
حيث جاء هذا الحوار ليؤكّد على تخلّي تيار واسع من المعارضة عن مطلب “رحيل الرئيسَين” كأولوية مطلقة، إضافة إلى استعدادها التعاون مع الحكومة الحالية بشرط تنفيذ برنامج “الحوار الوطني”، والذي لم يعلَن عن بنوده بشكل كامل لكن أبرز ما جاء فيه، بحسب مصادر “نون بوست”، هو تنفيذ عفو “كريم” وغير شامل عن المحكومين بالقضايا السياسية وقضايا الرأي، إضافة إلى تعديل القوانين المقيِّدة للحريات.
سنحاول في هذا المقال شرح التكتيكات التي اتّبعتها الحكومة لتفكيك كتلة 31 المعارضة، مستعملةً بذلك وسائل قوتها ورسوخها في المجال السياسي، مقابل كتلة معارضة غير واضحة المعالم مشتّتة الأفكار ولا يجمعها سوى الضغط الجماهيري والرغبة الشعبية باستبعاد رئيس مجلس الأمة مرزوق الغانم وعزله عن المشهد السياسي، محمّلين إياه الأزمات السياسية التي مرّت بها البلاد خلال العقد الأخير.
كيف بدأت الأزمة؟
مثّل مرزوق الغانم، رئيس مجلس الأمة خلال دورتَين سابقتَين (2013-2020)، إحدى أبرز الأزمات السياسية في البلاد، إذ حمّلته التيارات المعارضة، من تيارات إسلامية وكتل قَبَلية ونواب مستقلين، مسؤولية جزء كبير من الأزمات السياسية في البلاد، واتُّهم بأنه كان وراء قانون “عزل المسيء للذات الإلهية والأميرية من التصويت والترشح في مجلس الأمة” وقانون “البصمة الوراثية” الذي ألغته المحكمة الدستورية في الكويت بسبب انتهاكه للخصوصية.
كما اتُّهم بإحكامه قبضته على البرلمان وتمريره للقوانين الحكومية، بينما كانت ترى الحكومة أن وجود الغانم أعاد للمؤسسة البرلمانية الاستقرار السياسي الذي كانت تفتقره منذ عام 2009، على خلفية الاستجوابات المتلاحقة التي كان يقدِّمها نواب مجلس الأمة آنذاك لرئيس مجلس الوزراء وللوزراء المتبقين.
وشهد عام 2020 عددًا من “الكوارث السياسية” بالنسبة إلى الحكومة، إذ جاءت جائحة كورونا والإغلاقات الاحترازية المصاحبة لها، لتزيد من غضب الجماهير وتزيد من تركيزها على أخطاء الحكومة، فيما جاءت وفاة أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الصباح في أواخر شهر سبتمبر/ أيلول عام 2020 لتزيد من ارتباك المشهد السياسي بالنسبة إلى الحكومة التي فشلت في التعامُل مع المتغيرات السياسية داخل البلاد.
وجاءت انتخابات ديسمبر/ كانون الأول عام 2020 بـ 31 نائبًا معارضًا من أصل 50 نائبًا، حيث عمل النائب السلفي المنتمي إلى تجمع ثوابت الأمة، بدر الداهوم، وهو تجمع سلفي مستقلّ، على حشد أصوات النواب من أجل ترشيح مرشح المعارضة بدر الحميدي كرئيس لمجلس الأمة، بدلًا من مرزوق الغانم.
وأصبحت “معركة رئاسة مجلس الأمة” المعركة السياسية الأولى في البلاد، لكن الغانم استطاعَ اختراق المعارضة وانتزاع عدد من الأصوات من أعضائها، خصوصًا أن التصويت سرّي، إضافة إلى تصويت الحكومة معه ليحصل على 33 صوتًا مقابل 28 صوتًا لمرشح المعارضة بدر الحميدي، فيما أبطل 3 نواب أصواتهم.
قالت المحكمة الدستورية في إعلان حكمها إن شروط الانتخاب لا تنطبق على بدر الداهوم، كونه أُدين بقضية مساس بالذات الأميرية، وبالتالي يُحرَم من الانتخاب والترشح في مجلس الأمة
وأدّى تصويت الحكومة وإعلانها الاصطفاف مع مرزوق الغانم بشكل واضح، إلى تقديم 3 نواب هم بدر الداهوم وثامر السويط وخالد العتيبي استجوابٍ لرئيس مجلس الوزراء بسبب “مخالفة الحكومة لأحكام الدستور عند تشكيل الحكومة بعدم مراعاة عناصر واتجاهات المجلس الجديد”، في إشارة إلى عدم توزير وزراء من الأغلبية المعارضة و”هيمنة السلطة التنفيذية في تكوين البرلمان”، وذلك بعد تصويت الحكومة لصالح مرزوق الغانم وسيطرتها على لجان مجلس الأمة.
وأدّى هذا الاستجواب إلى سقوط الحكومة بعد مضي أقل من شهر على تشكيلها، لكن أزمة سياسية أخرى جاءت عقب قرار المحكمة الدستورية في منتصف شهر مارس/ آذار هي إبطال عضوية النائب بدر الداهوم وعدم صحة انتخابه عضوًا في مجلس الأمة، وإجراء انتخابات تكميلية في الدائرة الخامسة.
وقالت المحكمة الدستورية في إعلان حكمها إن شروط الانتخاب لا تنطبق على الداهوم، كونه أُدين بقضية مساس بالذات الأميرية، وبالتالي يُحرَم من الانتخاب والترشح في مجلس الأمة، وفقًا لقانون “منع المسيء للذات الإلهية والأميرية”، والذي مُرِّر عام 2016.
وتسبّب الحكم في أزمة سياسية عاصفة، إذ امتنع النواب عن حضور جلسة أداء الحكومة الجديدة للقسم أمام مجلس الأمة في أواخر شهر مارس/ آذار، وكادوا أن يفقِدوا الجلسة النصاب بسبب شطب عضوية بدر الداهوم، لولا استجابة بعض النواب لضغوط أمير البلاد الشيخ نواف الأحمد الصباح الذي دعاهم إلى تمكين الحكومة من أداء القسم.
واستغلَّ رئيس مجلس الوزراء فرصة تواجد نواب المعارضة الـ31 خارج قاعة الجلسة ليعلن عن طلبه تأجيل “الاستجوابات المقدَّمة له والمزمع تقديمها حتى منتصف عام 2022″، وهو ما وافق عليه المجلس بأغلبية 33 عضوًا من أصل 34 متواجدين، كون النواب الذين كانوا داخل القاعة نوابًا مؤيّدين للحكومة إضافة إلى أعضاء الحكومة من الوزراء.
وأجريت انتخابات تكميلية في 23 مايو/ أيار انتهت بفوز النائب المعارض عبيد الوسمي برقم قياسي هو 43 ألف و800 صوت، لتعلن عن زعيم سياسي جديد داخل البرلمان.
وعبرت الحكومة جلسة الميزانيات التي حاولت المعارضة مقاطعتها وتخريبها عبر الجلوس في مقاعد الوزراء في 22 يونيو/ حزيران، ثم جاءت العطلة الصيفية التي مكّنت الحكومة من التقاط أنفاسها والعمل على تفكيك كتلة المعارضة.
كيف فكّكت الحكومة الكتلة؟
كتلة المعارضة المكوَّنة من 31 نائبًا لم تكن كتلة متجانسة، إذ إنها اشتملَت على نواب قَبَليين يُعرَفون باسم “نواب المعاملات”، الذين جاؤوا لمجلس الأمة من أجل تسيير مصالح القبيلة التي انتخبتهم، إضافة إلى وجود نواب إسلاميين مستقلين، ووجود نواب تابعين لجماعة الإخوان المسلمين وذراعها السياسي “حدس”، ونواب ذوي توجهات ليبرالية، إضافة إلى متشدِّدي المعارضة الذين يهدفون إلى إسقاط رئيس مجلس الأمة بأي ثمن.
ما جمع هؤلاء النواب كان الموجة الشعبية الكبيرة التي صبّت جام غضبها على رئيس مجلس الأمة مرزوق الغانم، ودعت إلى رحيله وترك المشهد السياسي واستبداله بأي مرشح حتى لو كان بدر الحميدي، وهو وزير سابق ذو توجهات تجارية لا تختلف عن مرزوق الغانم.
لكن الكثير من النواب لم يكن مقتنعًا بفكرة جعل رحيل رئيس مجلس الأمة أولوية قصوى على حساب أولويات أخرى، مثل “العفو عن المتواجدين خارج البلاد”.
وكانت الحكومة تعرف هذه العوامل، وتعرف أن هؤلاء النواب لهم قواعد انتخابية تريد منهم تسيير المعاملات والمصالح الخاصة بهم، فلجأت إلى خطط متنوِّعة لتفكيك كتلة المعارضة.
أبرز الخطط التي ذكرها مصدر حكومي بارز لـ”نون بوست” هي وقف أي معاملة حكومية تأتي من مكتب نائب منتمٍ إلى كتلة 31، وهو ما ضيّق الخناق عليهم وجعل هؤلاء النواب يصابون بالحرج الشديد أمام قواعدهم الانتخابية، التي وإن صبرت لمدة شهر أو شهرَين فإنها لا تصبر لمدة عام كامل، إضافة إلى وقف “تعيينات الترضية” التي كانت تتمُّ للنواب في بعض المناصب الهامشية وغير المهمة داخل الوزارات.
لدى الحكومة الكويتية قدرة على تفكيك أي حالة معارضة تواجهها بسبب امتلاكها لعاملَي الوقت والسلطة، إذ إنها تعمل بأريحية لا تتوفر للمعارضة التي لا يجمعها أي مشترك.
أما الخطة الأخرى فهي اللجوء إلى النواب الذين يُعتبَرون من قيادات المعارضة، لكنهم غير راضين عن الأساليب التي يلجأ إليها فريق المتشدِّدين داخل المعارضة لإسقاط الحكومة ويرونها غير ذات جدوى، وأبرز هؤلاء عبيد الوسمي وحسن جوهر، إذ وعدتهم الحكومة بالوصول إلى حلٍّ وسط.
يبدأ هذا الحلّ أولًا بالاعتراف برئيسَي مجلس الأمة ومجلس الوزراء كأمر واقع، ووقف عملية الجلوس على كراسي الوزراء ومنع الجلسات من الانعقاد، مقابل تعهُّد الحكومة بإرجاع المتواجدين في الخارج والعفو عنهم، وسحب طلب رئيس الحكومة تأجيل الاستجوابات، والذي يعدّ طلبًا غير دستوري بحسب وجهة نظرهم، وهو ما تمَّ عبر دعوة أمير البلاد إلى الحوار الوطني أواخر شهر سبتمبر/ أيلول الماضي، وإعلان النواب الاستجابة لهذه الدعوة ومن ثم تشكيل لجنة خاصة بالعفو.
وكانت الخطة الأخيرة هي عزل متشدِّدي المعارضة، مثل محمد المطير وثامر السويط وخالد العتيبي، وجعلهم في مواجهة المعارضة غير الصلبة مثل عبيد الوسمي، إذ تصاعدت الحرب الكلامية بين عبيد الوسمي ومحمد المطير داخل مجموعة واتساب النواب بحسب ما سُرِّب في وسائل التواصل الاجتماعي، والتي أكّد محمد المطير وبدر الداهوم صحّتها، وكان سبب الخلاف هو الموقف من رئيس مجلس الأمة إذ دعا عبيد الوسمي إلى التعاون معه فيما رفض متشدِّدو المعارضة هذا الخيار.
في نهاية الأمر، كان من الواضح للمراقبين أن الحكومة الكويتية لديها قدرة على تفكيك أي حالة معارضة تواجهها بسبب امتلاكها لعاملَي الوقت والسلطة، إذ إنها تعمل بأريحية لا تتوفر للمعارضة التي لا يجمعها أي مشترك، وأيضًا بيدها أدوات “ترهيب وترغيب” للنواب تعرف متى تستخدمها وقت الحاجة.
كما أن الأزمة التي أدّت إلى انتخاب 31 نائبًا معارضًا لا تعكس خللًا في بنية النظام الكويتي الانتخابي وسيطرة الحكومة عليه، بقدر ما تعكس عن “ارتباك لحظي” حدث بسبب وفاة أمير البلاد السابق وعدم وضوح الرؤية بالنسبة إلى القيادة السياسية الجديدة، وبما أن هذه الرؤية قد توضّحت فإننا نستطيع القول إن الحكومة الكويتية سيطرت على الحالة بشكل تامّ.