هل سرقت الدولة العثمانية التراث العربي والإسلامي أم حمته من الضياع؟ سؤال جدلي انقسمَ بشأنه المؤرِّخون والباحثون على مدار عقود طويلة مضت، بين من يرى أن العثمانيين كانوا حماة التراث العلمي وتولّوا إنقاذه من مخططات التخريب والتشويه، وآخرين يفسرون نقل كبريات المكتبات وأمّهات الكتب في العواصم العربية المنضوية تحت راية الدولة العثمانية للأستانة على أنه سرقة لهذا التراث الضخم.
وبين هذا الفريق وذاك تتوه الكثير من الحقائق، لا سيما أن كل فريق يتحيّز لما يتبنّاه من أيديولوجيات وعقائد سياسية وفكرية، دفعته لتبنّي رؤية معينة، بعضها كان بصورة متطرفة حيث تغلب الشخصنة على كثير منها، كما سيرد ذكره لاحقًا، وهو ما جعل من تلك المسألة مثار جدل كبير من الباحثين رغم مرور كل تلك السنوات على أفول نجم الإمبراطورية العثمانية.
المؤرِّخ المصري أيمن فؤاد سيد، المتخصِّص في التاريخ والحضارة العربية والإسلامية، وهو من المؤرِّخين المشهود لهم بالأمانة العلمية، يشير في كتابه “الكتاب العربي المخطوط وعلم المخطوطات” إلى أن عدد المخطوطات العربية في المكتبات التركية تقدَّر بحوالي 300 ألف مخطوط، 200 ألف منهم في المكتبة السليمانية بإسطنبول وحدها، منوِّهًا إلى أن جميعها محاطة بعناية فائقة، وأن الدولة التركية أنفقت عليها أموالًا كثيرة للحفاظ عليها وإتاحتها لجميع الباحثين في مختلف دول العالم للاستفادة منها.
نحاول الإجابة في هذا التقرير عن هذا السؤال بشيء من الموضوعية، متجرّدين من أي تحيُّزات من شأنها أن توقعنا فيما وقع فيه غيرنا من افتقار للموضوعية وتجنُّب للحياد والنزاهة التي يجب أن تكون ديدن الباحثين والمفكرين، مستندين في ذلك إلى العديد من الأسانيد الموثوقة والتي تسلِّط الضوء بصورة بانورامية على تلك المسألة الجدلية من كافة جوانبها.
مطابع الأستانة
بداية عرفَ العثمانيون الطباعة نهايات القرن الخامس عشر، أي بعد قرابة 40 عامًا من اختراع المطبعة على يد الألماني يوهان غوتنبرغ عام 1436 ودخولها حيّز التنفيذ عام 1450، وكانت معرفتهم بها عن طريق أحد اليهود الذين أحضرو مطبعة وحروف عبرية لنشر بعض الكتب الدينية، وقد أحدث دخولها جدلًا كبيرًا لدى الشارع العثماني في ذلك الوقت.
كان لدى السلطات العثمانية عدة مخاوف بشأن استخدام المطابع استخدامًا خاطئًا، قد يسيء للتراث الإسلامي ويشوِّه القرآن والسنّة بالتحريف والنقل غير الدقيق، ما دفعَ السلطان بايزيد الثاني (1447-1512) إلى إصدار قرار صارم عام 1485 يحرِّم استخدام الطباعة على غير اليهود، وهو القرار الذي استمرَّ كذلك في عهد السلطان سليم الأول (1470-1520).
واستطاعت المطبعة اليهودية نشر العديد من الكتب العربية باللغة العبرية، أبرزها “التوراة العربية” عام 1551، ترجمة سعيد الفيومي، وهو من أوائل المجلدات التي طُبعت في المنطقة العربية، وفتحَ الباب أمام عشرات الكتب الأخرى التي تأرجحت معظمها في المؤلفات الدينية اليهودية وبعض المطبوعات الاجتماعية والتراثية.
ظلت الطباعة العبرية هي المسيطرة على الدولة العثمانية حتى استقرَّ في يقين سعيد أفندي (ابن السفير التركي في باريس في ذلك الوقت، محمد أفندي، والذي أصبح صدرًا أعظم فيما بعد) أهمية المطبعة بعدما تعرّف إليها في فرنسا، ما دفعه للتفكير في نقل تلك التجربة لبلاده، والاستفادة ممّا تقدِّمه للإنسانية من خدمات ثقافية جليلة.
في عام 1716 أفتى شيخ الإسلام عبد الله بجواز استخدام المطبعة لطباعة الكتب في العلوم الطبيعية، وكان ذلك إيذانًا بدخول المطبعة الدولة العثمانية
وعقب عودته للأستانة تواصل سعيد أفندي مع رموز الدولة الثقافية والفكرية وتحدّث معهم في هذا الأمر، واقتنعوا بكلامه، واستقرَّ الأمر على إدخال الطباعة العربية للبلاد، وكان هناك في ذلك الوقت رجل يُدعى إبراهيم أفندي المجري من المشهود لهم بالثقافة والذكاء، ودرايته الكبيرة بالعلوم والرياضيات، وكان يحظى بثقة كبار رجالات الدولة.
أوكل سعيد أمر إنشاء المطبعة للمجري، فرحّب بالفكرة وشرع في التنفيذ، لكن كانت تساوره شكوك حول موافقة الباب العالي على هذا الأمر في ظل المخاوف التي تسيطر علي السلطان من فكرة إنشاء المطبعة، فكتبَ إلى صهر السلطان إبراهيم باشا، وناشده الحصول على الإذن بطباعة كتب في مجالات معيَّنة بداية الأمر، كالحكمة واللغة والطب والتاريخ، متعهّدًا بعدم الاقتراب من كتب الفقه والتفسير والعلوم الإسلامية.
وفي عام 1716 أفتى شيخ الإسلام يكيشهر لي عبدا لله أفندي بجواز استخدام المطبعة لطباعة الكتب في العلوم سالفة الذكر دون غيرها، وكان ذلك إيذانًا بدخول المطبعة الدولة العثمانية، حيث صدرَ فرمان سلطاني بالترخيص بإنشاء مطبعة لسعيد أفندي وشخص آخر يُدعى إبراهيم متفرقة، ويُقال إن الأخير هو الذي سبكَ الحروف العربية.
إهمال وتعطيل
بخطوات بطيئة سارت المطبعة العثمانية تحت ولاية سعيد أفندي وإبراهيم متفرقة إلى أن توفيا، لتواجه إهمالًا كبيرًا من قبل الحكومة العثمانية آنذاك، الأمر الذي عطّلها قرابة 20 عامًا كاملة، قبل أن يعاد افتتاحها مرة أخرى عام 1783، ورغم العودة ظلت مكبَّلة وأسيرة المخاوف ذاتها التي يبدو أنها سيطرت بشكل كبير على العقل السلطاني.
سلاطين الدولة العثمانية ساروا على النهج نفسه تقريبًا، حيث دفعهم الخوف من تشويه وتحريف الكتب الدينية إلى استمرار تحريم الطباعة العربية في البلاد، فالسلطان سليم الأول لم يشأ أن يغيّر قرار والده بحظر استخدام المطبوعات على رعايا الدولة العثمانية، وحين جلس على العرش عام 1485 أيّد منشور أبيه وأمر باستمرارية تنفيذه وتطبيقة على كافة الولايات الخاضعة للدولة.
الفريق الداعم لتبرئة الدولة العثمانية من تلك التهم التاريخية يستند في موقفه هذا إلى عدة أسانيد، تؤكد أن الهدف من وراء هذا النقل كان حماية تلك المطبوعات وحفظها من التلف
ورغم دخول المطبعة الأراضي العثمانية نهاية القرن الخامس عشر، إلا أن أول كتاب عربي طُبع داخل مطبعة الأستانة كان عام 1728، والمعنون بـ”تحفة الكبار في أسفار البحار” الذي يعدّ تأريخًا لحياة الحاج خليفة (1004-1067هـ)، لتبدأ مرحلة انتشار المطابع فيما بعد ومن أبرزها “مطبعة الجوائب” التي أسّسها اللبناني أحمد فارس الشدياق عام 1861، وكان من باكورة إنتاجها تصانيف عربية جليلة كـ”الجاسوس على القاموس” و”ديوان البحتري” و”ديوان الطغرائي” و”رسائل الخوارزمي”.
وبعد عقود من التجريم والتحريم، بدأ نور العلم والثقافة ينتقل من الأستانة إلى بقية العواصم العربية، فكان إنشاء مطبعة بولاق الشهيرة في مصر، التي أنشأها محمد علي باشا عام 1822، تلتها مطابع المغرب عام 1860 التي أسّسها التونسي محمد الصادق باشا، ومن باكورة منشوراتها جريدة “الرائد التونسي” الصادرة في نفس عام إنشاء المطبعة.
ورغم تعدُّد المطابع في البلدان العربية والإسلامية التي كانت خاضعة للراية العثمانية، فإن معظم مطبوعاتها ومنشوراتها وذخائر الكتب التي كانت تزيّن أرفف كبريات المكتبات في تلك العواصم، قد انتقلت إلى عدة مكتبات تركية خاصة في إسطنبول، حتى تجاوز عدد الكتب العربية التي تحويها تلك المكتبات التركية أكثر من 300 ألف منشور، الأمر الذي دفع البعض للتساؤل حول مسمّى هذا النقل لهذا الحجم الهائل من الكتب العربية، بين من يراه سرقة وآخر يعتبره حماية.. فأيهما يكون؟
سرقة أم حماية؟
نادرًا ما جرى اتهام الدولة العثمانية بسرقة ونهب التراث العربي من قبل مؤرِّخين معتبرين، ولعل أقدم تلك الاتهامات ما ورد عن المؤرِّخ المصري محمد بن إياس الحنفي القاهري (1448-1523) الذي أشار في كتابه التأريخي “بدائع الزهور فى وقائع الدهور” إلى أن وقوع مصر تحت الراية العثمانية قد أفقدها بريقها، واصفًا الفتح العثماني لمصر بـ”الكارثة بكل المقاييس”، ومع ذلك لم يشر صراحة إلى أن العثمانيين سرقوا مكتبات مصر ونهبوا تراثها الثقافي كما يردِّد البعض.
وبجانب أن المؤرِّخ المصري لم يتعرّض بشكل واضح لسرقة عثمانية للمطبوعات المصرية، إلا أن شهادته في الوقت ذاته مجروحة، إذ غلب عليها الطابع الشخصي، فتحامله على العثمانيين يمكن تفهُّمه باعتباره من ذوي أصول شركسية: “كان أميرًا من أصل شركسي وكان حفيد الأمير إياس الفخر الظاهرى الذي كان من أمراء السلطان الظاهر سيف الدين برقوق”، وفي هذا الشأن يشير المؤرِّخون إلى أنه لو كانت هناك ذرّة اتهام واحدة على سرقة العثمانيين للتراث العربي، ما كان سيتركها ابن إياس دون التركيز والعزف عليها من خلال عدة مؤلفات.
وفي الجهة المقابلة، فإن الفريق الداعم لتبرئة الدولة العثمانية من تلك التهم التاريخية يستند في موقفه هذا إلى عدة أسانيد، تؤكد أن الهدف من وراء هذا النقل كان حماية تلك المطبوعات وحفظها من التلف، والعمل على نشرها على أكبر قدر ممكن بحيث يستفاد منها السواد الأعظم من الباحثين في جميع أنحاء العالم.
المحقق السعودي سامي الصقار: “الكتب العربية التي تجمعت في تركيا لم تكن مجرد مخزون كتبي للتباهي به، بل استخدمت في مئات المدارس والكليات التي عمّت أنحاء البلاد”.
بداية، إن العثمانيين الذين آلت إليهم زعامة العالم الإسلامي بدءًا من القرن السادس عشر الميلادي، منوط بهم حفظ التراث العربي والإسلامي، والزود عنه، وتنميته في بعض الأحيان إن تطلّب الأمر، ومن ثم لا يجوز علميًّا وصفهم بـ”السارقين والناهبين” لهذا التراث، وفق عدد من الشواهد.
الشاهد الأول: جزء كبير من التراث المتواجد في المكتبات التركية نُقل عن طريق الهدايا، حيث كان يحرص حكّام الولايات العربية التابعة للدولة العثمانية على التقرُّب من السلاطين عبر تقديم الهدايا التي كان من بينها أمهات الكتب وكبريات المجلدات في مختلف العلوم والمجالات، وكان السلاطين يولونها مكانة كبيرة فيخصِّصون لها أماكن بارزة في مكتابتهم.
الشاهد الثاني: كانت الأستانة في ذلك الوقت هي عاصمة الخلافة، ومن ثم تحولت إلى قِبلة العلماء والباحثين من العرب والعجم على حد سواء، وعليه كانوا يتركون نسخًا من مؤلفاتهم في المكتبات التركية، أو يسخّرون جهدهم لكتابة مؤلفات خاصة لتلك المكتبات نظير أموال يُمنحون إياها من كبار رجالات الدولة العثمانية.
الشاهد الثالث: تشير الكثير من الروايات إلى أن نقل مكتبات عربية بأكملها لإسطنبول كان من قبيل حمايتها من السرقة والنهب والحفاظ عليها من التلف، حيث وقعت عواصم الحضارات الإسلامية (بغداد – القاهرة – قرطبة) أسيرة صراعات واستعمارات هدّدت تاريخها التراثي، ومن ثم كان لا بدَّ من نقل خزائنها من المنشورات والمطبوعات للعاصمة العثمانية لحمايتها والحفاظ عليها.
ويستشهد أنصار هذا الرأي بنقل معظم مؤلفات مكتبة بغداد إلى القاهرة التي كانت عاصمة الخلافة الجديدة خلال حكم المماليك، حين حدثت كارثة للمكتبة في عهد هولاكو خان، ويتساءلون: هل يعدّ ذلك النقل سرقة ونهبًا للكتب العراقية أم حفظًا لها من الحرق والتمزيق على أيدي المغول؟
السؤال الأهم إذًا: ماذا كان مصير تلك الكتب العربية الموجودة في مكتبات إسطنبول؟ إذ تحمل الإجابة عن هذا السؤال الإجابةَ بشكل أو بآخر عن السؤال الجدلي القديم.
المؤرِّخ والمحقق السعودي، سامي الصقار، خلال بحثه المنشور في مجلة “الفيصل” في عددها الـ 44 الصادر في يناير/ كانون الثاني 1981، أكّد أن “الكتب العربية التي تجمعت في تركيا لم تكن مجرد مخزون كتبي للتباهي به، بل إنها استخدمت في مئات المدارس والكليات التي عمّت أنحاء البلاد”.
كان للموسوعات العلمية التي ألّفها العثمانيون ونشرتها مطابع الأستانة، دور كبير في حفظ العديد من كتب التراث العربي التي تعرّضت للتلف أو الضياع
حفاظ الدولة العثمانية للتراث العربي والإسلامي يتناغم شكلًا ومضمونًا مع دورها في النهضة العلمية التي شهدتها كافة الدول التي كانت تحت راية العثمانيين، إذ حرصوا مع نزولهم لأي قطر ما على تدشين منظومة متطوِّرة من المدارس والكتاتيب والمراكز العلمية والثقافية والمكتبات، وما زالت مدارسهم في القاهرة ومكة والمدينة والجزائر وغيرها من الدول العربية شاهدة على هذا الدور التاريخي.
وعطفًا على ذلك، كان للموسوعات العلمية التي ألّفها العثمانيون ونشرتها مطابع الأستانة، دور كبير في حفظ العديد من كتب التراث العربي التي تعرّضت للتلف أو الضياع، حيث أتاح التطرُّق إليها في تلك المؤلفات العثمانية للعرب التعرُّف إليها، ومن أبرز تلك الموسوعات “مفتاح السعادة” الذي صنّفه طاش كوبري زادة، و”كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون” من تأليف حاجي خليفة.
ومن هذا المنطلق، يمكن القول إن العثمانيين ربما عطّلوا حركة الثقافة العربية فترة ما بسبب تجريم الطباعة وتحريم استخدامها، لكن في الوقت ذاته وضع العثمانيون التعليم والنهضة الثقافية على قائمة أولوياتهم في الأقطار التي كانت تحت إمرتهم، وبذلوا قصارى جهدهم لتخريج أجيال من المثقفين المستنيرين، ومن الصعب التصديق أنهم عمدوا إلى نهب تراث تلك البلدان، حتى إن اعترى تاريخها بعض المنحنيات المتعرِّجة التي أثّرت سلبًا على المكتبة العربية بداية الأمر.