فرضت الولايات المتحدة نفسها على المشهد السوداني بصورة مكثفة – مقارنة بما كانت عليه قبل ذلك – منذ إسقاط نظام الرئيس السوداني السابق عمر البشير في أبريل/نيسان 2019، حين دعمت الحراك الثوري وراقبت ضمن مجموعة الترويكا (تضم أمريكا وبريطانيا والنرويج) اتفاق تقاسم السلطة بين المكونين، المدني والعسكري.
الحضور تعزز أكثر مع تموضع جديد لواشنطن ضمن لها متابعة خطوات إجراءات نقل الحكم إلى سلطة مدنية منتخبة، مطالبة بين الحين والآخر بضرورة تفعيل المسار الديمقراطي المتفق عليه وفق الوثيقة الدستورية، وضرورة تسليم السلطة كاملة للمدنيين عبر انتخابات ديمقراطية تكون الكلمة فيها للشارع.
الموقف انتابه نوع من الضبابية نسبيًا بعد قرارات 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، إذ تجنبت واشنطن وصف ما حدث بـ”الانقلاب العسكري” رغم إجماع القوى المدنية على هذا الوصف، فيما ارتأى الأمريكان مسك العصا من المنتصف، كوسيط بين الطرفين، فلا هم يتبنون سردية الانقلاب تماهيًا مع المزاج المدني، وفي الوقت ذاته يلوحون بإيقاف المساعدات، بما يفهم منه ضمنيًا عدم الموافقة على ما جرى في البلاد.
علامات استفهام كثيرة بشأن الموقف الأمريكي حيال الأزمة السودانية ومستجداتها الأخيرة، فهذا الاهتمام غير المسبوق يحمل الكثير من الدلالات التي تأتي في سياق صراع النفوذ الكبير بين الولايات المتحدة وخصومها التقليديين (روسيا والصين)، ومن جانب آخر يكشف التناقض الفج في السياسة الأمريكية بين شعارات القيم المزعومة والبرغماتية التي لا ترى إلا بعين واحدة.
أمريكا والعسكر.. عقيدة تاريخية
تتعامل أمريكا مع الأنظمة الحاكمة في العالم وفق سياق جيوساسي لا يتغير بتغير الإدارات المتعاقبة على البيت الأبيض، ينطلق هذا السياق من تقسيم خريطة العالم إلى قسمين، عالم متقدم، وفيه تنتصر واشنطن للقيم الديمقراطية والحريات، وآخر نامٍ تكون البوصلة فيه لمن يسيطر على السلطة، أيًا كانت هويته، عسكرية أو مدنية.
وفي الشرق الأوسط ودول العالم النامي، يميل الأمريكان لمن يحقق لهم مصالحهم، بصرف النظر عن منظومة القيم والشعارات الأخلاقية التي تغازل بها الولايات المتحدة شعوب العالم، لتجميل صورتها، بصفتها حامل لواء الحضارة الإنسانية وقيمها السامية.
فيلتمان أسهم بشكل ما في فتح الطريق أمام الفريق عبد الفتاح البرهان للسيطرة الكاملة على السلطة
وكما كان الحال في مصر قبل 2011 وما بعد 2013، مرورًا بما شهده الموقف العام في سوريا خلال العامين الماضيين، وصولًا إلى التغيرات الطارئة على الموقف من النظام السعودي وقضية مقتل الصحفي المعارض جمال خاشقجي، ارتأت واشنطن أن تتعامل مع الحالة السودانية من نفس المنطلق.. المصلحة فوق وقبل أي شيء.
تدرك أمريكا جيدًا أن استبعاد الجيش من المشهد السوداني أمرًا غاية في الصعوبة، لا سيما أن ركائز الدولة المدنية لم تنضج بالشكل الذي يؤهلها لقيادة البلد بصورة مستقلة، ورغم التصريحات الوردية التي يرددها مسؤولو الإدارة الأمريكية بشأن مدنية الدولة فإن الواقع يناقض ذلك تمامًا.
ثمة تقاربات تدفع الولايات المتحدة إلى عدم القطيعة مع المؤسسة العسكرية السودانية، الشريك الأقوى حاليًّا في ثنائية الحكم في البلاد، غير أن المستجدات التي شهدها السودان خلال الأسبوع الأخير، وبداية تشكيل مرحلة جديدة وفق تلك الأحداث، كشفت عن وجه أمريكي آخر، أكثر ميلًا للعسكر من المدنيين.. وهو ما بث الريبة في نفوس بعض المقربين من المطبخ السياسي السوداني ممن ألمحوا ضمنيًا إلى أصابع أمريكية وراء أحداث 25 من أكتوبر.
هل دعمت واشنطن انقلاب البرهان؟
إقدام البرهان على انقلابه بعد ساعات قليلة من المباحثات التي جرت مع المبعوث الأمريكي الخاص للقرن الإفريقي، جيفري فيلتمان، ذهب بالبعض إلى وجود تنسيق ما بشأن هذا التحرك الذي ما يمكن للجنرال السوداني أن يقدم عليه بمعزل عن ضوء أخضر مُنح له، إقليميًا كان أو دوليًا.
“في تقديري، أن فيلتمان أسهم بشكل ما في فتح الطريق أمام الفريق عبد الفتاح البرهان للسيطرة الكاملة على السلطة”، هكذا علقت مديرة البرنامج الإفريقي بمركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية ورئيسة تحرير سلسلة أفريقيات، أماني الطويل، على ما يثار بشأن تواطؤ أمريكي إزاء الانقلاب البرهاني.
الخبيرة في الشأن السوداني مالت في مقال لها إلى احتمالية إعطاء واشنطن الضوء الأخضر للجنرالات بالقيام بهذا الانقلاب، منوهة أن هذا التنسيق من شأنه أن يقوي مستوى العلاقات بين العسكر والأمريكان وفق عدد من السياقات، أولها عدم ارتياح الإدارة الأمريكية لاتساع نفوذ ومساحة اليسار داخل حكومة عبد الله حمدوك.
تملك أمريكا العديد من الأدوات لهندسة منصة جديدة تكون قادرة على استقبال معادلة توازنية على كل المسارات، تحقق مصالحها
واستندت في هذا الرأي إلى التصريحات الصادرة عن مستشار رئيس الوزراء، ياسر عرمان، خلال المؤتمر الصحفي الأخير لقوى الحرية والتغيير، حين أشار إلى أن مسألة توسيع المشاركة السياسية في السلطة غير مقبولة إلا من الحزب الشيوعي، الضلع الأبرز في التحالف المدني الحاكم.
كما أن اعتماد الحكومة السودانية المنحلة على منهجية المقاربات الرأسمالية من خلال الخضوع لأجندتي البنك وصندوق النقد الدوليين، من شأنه أن يزيد من تفاقم الوضع المعيشي للسودان بما يهدد منظومة الاستقرار المجتمعي، الأمر الذي قد يقود لاضطرابات جديدة تضع مصالح الأمريكان على المحك.. سياق آخر لدعم واشطن لانقلاب البرهان.
وفي ضوء السياقين الماضيين، استقر في يقين إدارة الرئيس جو بايدن أن المكون المدني بتوجهاته تلك سيهدد مخططات أمريكا بتحويل السودان إلى منصة لمقاومة النفوذ الروسي الصيني المتوغل داخل مفاصل القارة الإفريقية، مع الوضع في الاعتبار التقاربات الأيديولوجية بين يسار السودان، المشاركين في السلطة، والأجندة الشيوعية في بلدان آسيا.
وسواء كانت أمريكا وراء هذا الانقلاب أم لا، فإن دخول روسيا على خط الأزمة عبر الانحياز المبكر للعسكر خلال جلسة مجلس الأمن التي عقدت قبل 4 أيام لمناقشة مستجدات الوضع في السودان، ورفضها وصف ما حدث بالانقلاب، أربك حسابات الأمريكان، وعليه كان لا بد من فرض تموضعات جديدة تلبي مصالح الولايات المتحدة ولا تسمح بتمدد النفوذ الروسي، وهذا بالطبع لن يتم مع سيطرة كاملة للعسكر على المشهد، ومن ثم كان لا بد من مقاربة جديدة.
ماذا يريد الأمريكان إذًا؟
أراد الأمريكان خلط الأوراق السياسية بما يمهد لتموضع جديد للسلطة يضمن ولاءات تساعد واشنطن على تنفيذ مخططها والحفاظ على مصالحها التي ما كان لها أن تكون في ظل التشكيل الجديد، وهذا لم ولن يتم إلا عبر أحد طريقين، إما انتخابات عامة تعيد تشكيل الحكومة الحاليّة وإما انقلاب عسكري يقلب الطاولة ويعيد بلورة المشهد وفق صياغات جديدة.
ويبدو أن الولايات المتحدة اختارت الحل الأسرع، فكان هذا الانقلاب، لكن في الوقت ذاته وكما تم الإشارة سابقًا فإن اكتمال نمو هذا الحراك بما يعزز سلطة العسكر ويساعد على هيمنتها على الصورة بأكملها لن يكون في صالح الأجندة الأمريكية، ومن ثم كان التدخل هنا وعبر وساطة مزعومة أو حقيقية لترتيب الأجواء نحو مرحلة جديدة تلبي مطامع العسكر من جانب وتزيح الوجوه المعترض عليها أمريكيًا من الحكم من جانب آخر.
يذكر أن قوى الحرية والتغيير، ذات الميول اليسارية وصاحبة العلاقات القوية بخصوم الأمريكان في آسيا، تشكل 67% من المجلس التشريعي للمرحلة الانتقالية طبقًا للوثيقة الدستورية وهو ما يهدد مصالح الولايات المتحدة والغرب بصفة عامة مستقبلًا.
وتملك أمريكا العديد من الأدوات لهندسة منصة جديدة تكون قادرة على استقبال معادلة توازنية على المسارات كافة، تحقق مصالحها، أبرزها الضغوط الاقتصادية والسياسية، حيث التلويح بورقة العقوبات والإرهاب وفرض حالة الطوارئ، وتساعدها في استخدام تلك الأدوات بريطانيا والاتحاد الأوروبي بصفة عامة، ما يجعل تأثيرها قويًا، ومن ثم تكون رادعة لدفع عسكر السودان ومدنييه معًا للاستجابة لتلك المعادلة الجديدة.
أزمة تلو الأزمة، وحالة بعد حالة، تثبت أمريكا أن شعارات الأخلاق والقيم التي تتشدق بها من إدارة لأخرى، ليست إلا محاولة لدغدغة المشاعر، وأداة سياسية لجلب المزيد من الأصوات داخل صناديق الاقتراع
وإزاء تلك السياقات يتوقع أن تواصل أمريكا دورها من أجل التوصل إلى حل مرضٍ للمكونين المدني والعسكري، وفي نفس الوقت يكون مقنعًا للشارع الثائر، هذا الحل لن يكون بتغول العسكر على المشهد أكثر من الوضعية الحاليّة، لكن سيكون هناك إعادة ترتيب لوضعية المكون العسكري في السلطة وإضفاء الشرعية عليها ومنحها العديد من الصلاحيات والامتيازات التي تطمئنها وتدفعها للعمل في إطار التشاركية مع المدنيين دون تأثير لنزاع النفوذ على الأداء العام للسلطة.
وفي الجهة المقابلة ستكون هناك ضغوط على المكون المدني، بحيث يُفتح الباب – استغلالًا للمستجدات الأخيرة وتداعياتها – نحو تعددية سياسية أكبر من بوتقة التحالف الحاليّ، مع تقزيم صلاحيات قوى الحرية والتغيير، وتقليم أظافرها السلطوية قدر الإمكان، وذلك عبر منح قوى أخرى صلاحيات أكبر ربما تلبي طموحات العسكر في تكوين حاضنة سياسية قوية في مواجهة التحالف اليساري.
وتتبنى الولايات المتحدة في تعاملها مع الوضع السوداني إستراتيجية برغماتية بحتة، منذ تأسيس مكتب إفريقيا والشرق الأوسط التابع لوزارة الخارجية الأمريكية عام 1958، رغم تأرجحها صعودًا وهبوطًا بين الحين والآخر، من أوج قمتها خلال عهد الفريق إبراهيم عبود، ومن بعده جعفر النميري، إلى أن وصلت إلى حدود توترها القصوى إبان فترة عمر البشير، وصولًا إلى الحضور المؤثر في المشهد الحاليّ بعد ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018.
أزمة تلو الأزمة، وحالة بعد حالة، تثبت أمريكا أن شعارات الأخلاق والقيم التي تتشدق بها من إدارة لأخرى، ليست إلا محاولة لدغدغة المشاعر وأداة سياسية لجلب المزيد من الأصوات داخل صناديق الاقتراع، فيما تبقى البرغماتية التي تصل في بعض الأحيان إلى الميكافيللية الضلع الأبرز في السياسة الخارجية للبلد الذي لا يتحرك إلا حفاظًا على مصالحه أو مقاومةً لمن يهددها، يتساوى في ذلك التحالف مع المدنيين والعسكر على حد سواء.