يبدو أن أيام وزيرة الصحة المصرية، هالة زايد، فوق كرسي الوزارة باتت معدودة، إثر أزمة الفساد الكبرى التي هزت أركان ذلك البنيان التاريخي المواجه لمجلس النواب (البرلمان) في منطقة وسط البلد، إذ تورط الذراع اليمنى للوزيرة ومدير مكتبها، رفقة عدد من الشخصيات البارزة المقربة من زايد في قضية رشوة وصفت بـ”الفضيحة”، كانت حديث مواقع التواصل الاجتماعي خلال الأيام الماضية.
القضية التي تعد الأولى من نوعها داخل مكتب الوزيرة المقربة من الرئيس عبد الفتاح السيسي، أعادت مجددًا الحديث عن ملف الاستغناء عن خدمات الوزيرة صاحبة الرقم القياسي في الأزمات التي تسببت بها، كذا صاحبة الرصيد الأكبر من حجم الاستجوابات البرلمانية التي واجهها وزير داخل وزارة مصطفى مدبولي، وسط إصرار غير مفهوم على التمسك بها رغم كل هذا الإخفاق.
جاءت واقعة الضبط على بعد أمتار قليلة من مكتب الوزيرة، وهو الأمر الذي لم تتحمله، لتسقط مغشية عليها، وتنقل على إثرها إلى أحد المستشفيات العسكرية، ليتولى وزير التعليم أمور وزارة الصحة مؤقتًا، في خطوة فسرها البعض بأنها خطاب استغناء غير رسمي عن الوزيرة، وسواء كانت إقالة أم استقالة فالنتيجة واحدة، هالة زايد خارج حكومة مدبولي بعد سنوات من الثقة المطلقة التي منحها لها السيسي وسط تساؤلات عن أسباب التمسك بها كل هذه المدة رغم عشرات علامات الاستفهام على أدائها.
زلزال داخل الوزارة
تشير التسريبات التي نشرتها بعض المصادر الإعلامية والرقابية أن من أبرز الأسماء المتورطة في تلك القضية، مدير إدارة الاتصال السياسي وأربعة من مديري إدارة العلاج الحر (الجهة المسؤولة عن منح التراخيص للهيئات الطبية)، والمتهمون بتلقي رشوة قدرها مليوني جنيه، من أصل مبلغ 35 مليون جنيه هي إجمالي الرشاوى التي حصل عليها العديد من مسؤولي الوزارة.
ما تم تسريبه حتى اليوم يؤكد أن الوزيرة فوجئت بهذا الكم الهائل من الاتهامات والأدلة بشأن تورط مسؤولين وثيقي الصلة بها
وبحسب أحد المصادر فقد تم التحقيق مع الوزيرة 3 مرات حتى كتابة هذه السطور، بجانب زوجها السابق، وعدد من أفراد طاقم مكتبها، منوهًا أن الرشاوى تباينت في طبيعتها بين رشاوى مادية كالتي قدمتها بعض شركات التأمين الصحي التي تقدمت بطلب تراخيص وتوريدات بالأمر المباشر، بما يخالف القانون، أو سيارات كتلك التي حصل عليها أحد المقربين منها من نوعية “بي إم دبليو”.
ما تم تسريبه حتى اليوم يؤكد أن الوزيرة فوجئت بهذا الكم الهائل من الاتهامات والأدلة بشأن تورط مسؤولين وثيقي الصلة بها، وهو ما أصابها بوعكة صحية حادة، نقلت بسببها إلى مستشفى وادي النيل التابع لجهاز المخابرات العامة المصرية، فيما أكدت النيابة العامة مباشرة التحقيقات دون توضيح طبيعة الاتهامات وصفات المسؤولين المتورطين بها.
النيابة في بيان لها، الأربعاء الماضي، أشارت إلى رصدها ما تم تداوله في بعض المواقع ومنصات التواصل الاجتماعي بشأن تلك القضية، منوهة أنها “تهيب بالكافة الالتزام بما تعلنه وحدها من معلومات حول الواقعة، والالتفات عن أي أخبار كاذبة أو غير صحيحة قد تضع ناشريها تحت المسؤولية القانونية”، إلا أنها أكدت في الوقت ذاته حرصها على مبادئ الشفافية مع المجتمع، وعزمها إعلانها، حسبما تراه مناسبًا لحسن سير التحقيقات وضمان سلامتها، ونتائج التحقيقات، وما يتاح من معلومات أو بيانات.
بين الإقالة والاستقالة
الجمعة الماضية، وبعد أقل من يومين على كشف فضيحة الفساد، وبينما كانت الوزيرة تتلقى العلاج داخل المستشفى، أصدر رئيس الوزراء المصري، قرارًا بتكليف وزير التعليم العالي خالد عبد الغفار، لأداء مهام الوزيرة لحين شفائها، وهي الخطوة التي أثارت الجدل بشأن ما إذا كانت تعني إبعاد الوزيرة من منصبها بشكل مناسب خاصة مع ما يثار عن اقتراب إجراء تعديل وزاري شامل.
هناك رأي آخر يشير إلى أن الوزيرة التي نالت ثقة السيسي لأكثر من 3 سنوات ما كان لها أن تغادر منصبها بـ”فضيحة فساد” وعليه يميل أنصار هذا الرأي إلى أن زايد ستعود مؤقتًا إلى الوزارة ثم تقدم استقالتها بدعوى عدم قدرتها صحيًا على مباشرة مهام الوزارة، وهو الخروج الأمن غير المسيئ من المنصب.
اللافت أن بيانات الوزارة وأخبارها المنشورة على حساباتها على منصات التواصل الاجتماعي خلت تمامًا من ذكر اسم الوزيرة أو حتى صورتها، وهو ما فسره البعض بأنها باتت خارج الوزارة وإن لم يكن بشكل رسمي، فيما تناقل البعض أخبارًا تشير إلى ضغوط يمارسها عليها مسئولون كبار في الدولة لتقديم استقالتها خلال الساعات القادمة لدواع “صحية”، تفاديًا للإقالة من المنصب.
وكانت الوزيرة قد تعرضت لانتقادات حادة خلال الآونة الأخيرة بسبب أدائها العام سواء على المستوى الشخصي أم الوزاري، وسط مطالب بإقالتها، غير أن حجم قضية الفساد المضبوطة تلك التي لم تكن بالطبع وليدة الأيام الماضية فقط، ستعجل بالإطاحة بالوزيرة وإبعادها عن المشهد خلال المرحلة القادمة.
مثيرة للجدل
منذ أدائها اليمين الدستوري كوزيرة للصحة في 14 يونيو/حزيران 2018 وتتصدر زايد قائمة أكثر الوزراء جدلًا في حكومة مدبولي، فقد أثارت الكثير من الأزمات، بعضها كانت بطلتها الأولى والأخيرة، آخرها كارثتي مستشفى الحسينية بالشرقية وزفتى العام بالغربية، التي راح ضحيتهما عدد من المصابين بفيروس كورونا (بسبب نقص الأكسجين وفق الرواية الشعبية، والأمراض المزمنة وفق الرواية الرسمية) في يناير/كانون الأول الماضي.
وكانت طريقة إدارة زايد لأزمة كورونا واحدة من أكثر منافذ الهجوم عليها، ففي البداية نفت وجود أي إصابة في مصر، وهي التصريحات التي بطأت من إجراءات غلق الأجواء ما تسبب في انتشار الجائحة بعد ذلك، وبينما كان العالم على مشارف إغلاق أجوائه البرية والجوية والبحرية، طارت الوزيرة على رأس وفد رفيع المستوى، في زيارة سياسية في المقام الأول، إلى الصين وإيطاليا، لتقديم يد العون والمساعدة، محملة بشحنات من المستلزمات الطبية في الوقت الذي كانت تعاني فيه المستشفيات المصرية من نقص شديد في تلك المستلزمات.
انتقلت حالة الاحتقان من أداء الوزيرة من إطار الكوادر الطبية والجماهير إلى البرلمان
وخلال زيارة تفقدية لها لمستشفى بورسعيد للتأمين الصحي نهاية يوليو/تموز 2019، أثارت الوزيرة الجدل بشأن سخريتها من طاقم التمريض الموجود حين أشارت إلى أنهن يعانين من السمنة وزيادة الوزن، لافتة إلى أن من يرغب في الالتحاق بقطاع التمريض فعليه تقليل وزنه خلال فترة لا تتجاوز 3 أشهر فقط، السخرية تجاوزت الوزن للحديث عن زي الممرضات وانتقاد الحجاب الطويل بدعوى أن مثل تلك الملابس لا تتناسب وطبيعة عمل الممرضة.
قبل ذلك بخمسة أشهر تقريبًا، دخلت في أزمة جديدة مع الصيادلة، وذلك خلال اجتماع لها بلجنة الصحة بالبرلمان فبراير/شباط 2019، إذ انتقدت زيادة أعداد خريجي كليات الصيدلة في مختلف الجامعات المصرية، وألمحت إلى نيتها في وقف تكليف خريجي تلك الكليات، وهو الأمر الذي أغضب آلاف الصيادلة الذين استقر في يقينهم أن وزيرة الصحة تنظر لهم على أنهم “حملًا ثقيلًا” على الدولة والوزارة، وفي يونيو/حزيران من نفس العام أشارت إلى أن غياب الصيادلة لن يؤثر كثيرًا على منظومة التأمين الصحي وأداء الخدمات المقدمة بصورة عامة، مضيفة “غياب 100 صيدلي لا يشعرني بأزمة ولكن غياب ممرضة واحدة مؤثر بالنسبة لي”.
ومن أكثر المعارك الضارية التي خاضتها زايد كانت مع نقابة الأطباء، حيث تجاهل أزمات الأطباء وعدم الالتفات لشكاواهم، منتقدة ظاهرة هجرتهم للخارج دون دراسة أسباب هذه الظاهرة المتفاقمة، هذا بخلاف تجاهلها لحالات الاعتداء المتكررة على الكوادر الطبية في المستشفيات خلال ممارسة عملهم.
وانتقلت حالة الاحتقان من أداء الوزيرة من إطار الكوادر الطبية والجماهير إلى البرلمان، فخلال مدة عملها تصدرت زايد قائمة الوزراء الأكثر استجوابًا داخل البرلمان، إذ تقدم ضدها 5 طلبات إحاطة بصورة مباشرة، وأكثر من 30 آخرين ضمن طلبات إحاطة مقدمة للحكومة بصفة عامة، ورغم ذلك لم يتخذ ضد الوزيرة أي إجراء يذكر.
لماذا كان الإبقاء عليها إذًا؟
أكثر من عامين كاملين وتواجه الوزيرة المقربة من السيسي انتقادات لاذعة ومطالب بالإقالة ومغادرة الوزارة بعد تردي مستوى الخدمة الصحية المقدمة لعامة الناس، وتجاوزات الوزيرة بحق الكوادر الطبية بشتى أطيافها، فضلًا عن سقطاتها المستمرة، إلا أن ذلك لم يكن مبررًا للقيادة السياسية للاستغناء عن خدمات زايد، التي كانت على رأس الوزراء المستمرين في مناصبهم مع كل تعديل وزاري.
تمسك النظام بزايد رغم كل ما سبق أرجعه البعض لسببين لا ثالث لهما: الأول سبب سياسي يرتبط بكونها من الوزراء المطيعات والمنفذات لأوامر القيادة دون اعتراض أو نقاش، حتى لو كان في ذلك مخاطر تهدد حياتها نفسها، وهو ما تكشف بصورة كبيرة خلال قبول السفر للصين وإيطاليا وقت ذروة الجائحة لإيصال رسالة سياسية نيابة عن الرئيس.
كل المؤشرات تذهب إلى أن أيام هالة زايد في الوزارة باتت معدودة حتى إن عادت لمنصبها ثم التقدم باستقالتها لحفظ ماء الوجه
وينبثق من هذا السبب تسويقها السياسي المستمر لكل ما يقوم به الرئيس، في محاولة لتجميل صورته شعبيًا، حتى إنها لقبت بـ”وزيرة المبادرات” في إشارة إلى كثرة المبادرات الصحية التي كانت تقوم بها الوزارة تحت رعاية الرئيس، إذ سخرت عربات الوزارة الملصق عليها صورة السيسي لتجوب كل محافظات الجمهورية.
أما السبب الثاني، فيرتبط بالعامل النفسي، حيث “عناد السلطات الفوقية” التي ترى أن الاستجابة لمناشدات الإقالة وتنحية الوزيرة من منصبها في ظل فشلها هو رضوخ لرغبات الشعب، وعليه كان النظام يتمسك بكل الأسماء التي تواجه انتقادات حادة ومطالب إقالة، على رأسها وزيرة الصحة ووزير الأوقاف ووزير التربية والتعليم، في محاولة لإيصال رسالة للشعب بأن الكلمة الأولى والأخيرة للرئيس وأن رأي الشارع لا قيمة له مطلقًا.
ورغم أن كل المؤشرات تذهب إلى أن أيام هالة زايد في الوزارة باتت معدودة حتى إن عادت لمنصبها ثم التقدم باستقالتها لحفظ ماء الوجه، فليس بالمستبعد – من باب العناد السلطوي الفوقي – أن يُبقي السيسي عليها خلال التعديل الجديد، ثم تُعفى من منصبها بعد أن تهدأ الأجواء، وإن كان البعض يستبعد هذا السيناريو في ظل حجم قضية الفساد الحاليّة، المتورط فيها مقربون من الوزيرة التي ما كانت تتخيل يومًا ما أن يكون هذا هو المصير بعد كل ما قدمته للنظام من خدمات على مدار 3 أعوام كاملة.