مع اقتراب موعد الانتخابات الليبية المقررة في 24 ديسمبر/ كانون الأول، تسارعت وتيرة الحراك الدولي خلال الأيام الماضية، ما اعتبره محلِّلون محاولة جديدة من القوى الإقليمية لإعادة ترتيب الخارطة الجيوسياسية في البلد الذي يُعاني من الاقتتال والانقسام مدفوعًا بدعم قوى الثورة المضادة.
قبل أقل من شهرَين على إجراء الاستحقاق الانتخابي، يجد الفرقاء السياسيون أنفسهم من جديد على طاولة الحوار، وهذه المرة في العاصمة الفرنسية باريس، لحضور مؤتمر يرعاه الرئيس إيمانويل ماكرون في 12 نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، وذلك بعد مؤتمر دعم استقرار ليبيا الذي عُقد في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي بطرابلس، وسط تساؤل عن أهمية الاجتماع في هذا التوقيت، وفرص نجاح قصر الإليزيه في إقناع الليبيين بكونه وسيطًا موثوقًا به بعد انحيازه في السابق إلى معسكر حفتر.
باريس.. الأهداف المعلنة
منذ اندلاع ثورة 17 فبراير/ شباط 2011 التي أطاحت بنظام معمر القذافي، تسعى باريس إلى لعب دور محوري في ليبيا، الامتداد التاريخي لنفوذها في إفريقيا ودول الساحل، ومع صعود الرئيس إيمانويل ماكرون إلى الحكم يُحاول الإليزيه التخلُّص من سياسة سلفه نيكولا ساركوزي الحليف الأسبق للقذافي، إلا أن دبلوماسية باريس غير المستقرة فشلت إلى الآن في تحقيق أهدافها الأساسية.
المؤتمر الجديد الذي تنوي باريس عقده في 12 نوفمبر/ تشرين الثاني، يهدف بحسب مندوب فرنسا الدائم لدى الأمم المتحدة، نيكولاس دو ريفيير، إلى “إظهار دعم فرنسا المستمر للعملية السياسية، لا سيما تنظيم الانتخابات التشريعية والرئاسية الليبية، وكذلك من أجل التنفيذ الكامل لوقف إطلاق النار، وعلى نطاق أوسع، لتحقيق الاستقرار في ليبيا، مع الأخذ في الاعتبار التداعيات الإقليمية للأزمة الليبية”.
إجلاء المقاتلين الأجانب على رأس مؤتمر باريس حول ليبيا https://t.co/hiTXNdUJLq
— بوابة افريقيا الاخبارية Afrigatenews (@afrigatenewsly) October 28, 2021
يأتي هذا الإعلان قبل نحو شهر من الانتخابات التشريعية والرئاسية التي من المقرر تنظيمها في 24 ديسمبر/ كانون الأول، رغم الشكوك التي تحيط بإمكانية إجرائها، خصوصًا في ظلِّ خلافات سياسية في ليبيا منذ المصادقة على قانون للانتخابات الرئاسية صدر في 9 سبتمبر/ أيلول.
على الصعيد ذاته، يتوقع المراقبون أن تدعم مبادرة باريس، بحسب ما أعلنه وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، ما تمَّ التوصُّل إليه في مؤتمر “دعم استقرار ليبيا”، الذي عُقد في 21 من الشهر الجاري في طرابلس، وسيعمل على المصادقة على الخطة الليبية لخروج القوات الأجنبية والمرتزقة، ويدعم تنفيذها ضمن جدول زمني لوضع حد للتدخل الأجنبي.
الظاهر أن باريس ستسعى من خلال حشد القوى الدولية لمؤتمرها القادم، إلى طيّ صفحة الماضي وإعادة إحياء دورها في حل الأزمة الليبية من خلال وساطة جديدة قائمة على النزاهة والثقة، والتخلُّص من الازدواجية الدبلوماسية القائمة على دعم طرابلس علنًا ومساعدة الشرق سرًّا.
خطط ماكرون
عمليًّا، لن يضيف المؤتمر الفرنسي أي جديد على مخرجات الاتفاق السياسي الذي ترعاه الأمم المتحدة ومؤتمرا برلين حول ليبيا، لكن المؤكد أن باريس ترمي من وراء هذه الخطوة إلى إعادة مسك زمام الأمور في حال فشل الانتخابات.
هذه المبادرة التي جاءت في الوقت الضائع كانت بدافع الرهانات والحسابات دولية، وتهدف بالأساس إلى إعادة التموقع في الخارطة الجيوسياسية الجديدة لليبيا، فالقفز على مخرجات مؤتمرَي برلين 1 وبرلين 2، قد يمكّن الفرنسيين من الجلوس على رأس الطاولة مجدّدًا وقيادة المرحلة القادمة.
باريس تعلم جيدًا أن أوروبا فقدت أيّ دور فاعل في المنطقة، بسبب غياب المواقف الموحَّدة وتواصُل المنافسة والصراع بين دول التكتل (فرنسا وإيطاليا وألمانيا) حول الأزمة الليبية، وأن فرنسا خسرت مكانتها كلاعب أساسي بعد دخول الروس والأتراك وأخيرًا الأمريكيين على الخط.
لذلك، يحاول ماكرون جاهدًا استثمار التلكُّؤ الدولي في التعامل مع الملف الليبي، وما اختياره هذا التوقيت تحديدًا إلا لاغتنام فرصة اتفاق المجتمع الدولي على ضرورة خروج القوات الأجنبية والمرتزقة من ليبيا، لكسر الحواجز الدبلوماسية وتسجيل نقاط في مرمى خصومه الدوليين وعلى رأسهم تركيا.
إجلاء المقاتلين الأجانب على رأس مؤتمر باريس حول ليبيا https://t.co/hiTXNdUJLq
— بوابة افريقيا الاخبارية Afrigatenews (@afrigatenewsly) October 28, 2021
يرى الفرنسيون أن مدَّ النفوذ التركي ليشمل منطقة شمال إفريقيا، بات أمرًا غير مقبول خاصة بعد نجاحها في قلب موازين القوى على الأرض في ليبيا، وانتكاسة حليف باريس خليفة حفتر المخزية على أسوار العاصمة، لذلك بات من الضروري خلط الأوراق من جديد.
موقف الأتراك
لعبة ماكرون الجديدة في الملف الليبي تقوم على إدخال لاعبين جدد على طاولة الحوار، والدفع بالقضايا الإقليمية الأخرى كمسألة ترسيم الحدود البحرية بين أنقرة وطرابلس التي تعارضها اليونان بغرض الابتزاز والمقايضة، لذلك وجّهت باريس دعوات للاحتلال الإسرائيلي واليونان وقبرص لحضور المؤتمر.
La mega operation #İrini en #Méditerranée, se compose juste de deux frégates, le française #JeanBart et grecque #Spetsai en alternance une semaine sur deux.
La #France soutien #Haftar et la #Grèce souhaite que l’accord Turco-Lybienne de frontières maritimes soit rompu.
— Fatih Tüfekci (@fatihtufekcipa1) June 20, 2020
هذه الخطوة لاقت رفضًا تركيًّا وعربيًّا، ففي تصريح صحفي بشأن لقائه مع ماكرون على هامش قمة العشرين، التي عُقدت بمدينة روما الإيطالية، أوضحَ أردوغان أن الملف الليبي تصدّرَ المحادثات، مشيرًا إلى أن الرئيس الفرنسي “يريد إجراء مؤتمر في باريس مشابه للذي جرى في برلين بخصوص ليبيا، وأن نشارك فيه كطرف رئيسي”.
كما علّق الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، على وجود دعوة من باريس لكل من الاحتلال الإسرائيلي واليونان وقبرص لحضور مؤتمر بشأن ليبيا، مشيرًا إلى أنه أكّد لنظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون رفض بلاده المشاركة إلى جانب تلك الأطراف.
#فرنسا تُوجه دعوة لإسرائيل لحضور مؤتمر #باريس حول #ليبيا المزمع عقده في 12 نوفمبر الجاري، و #تركيا تقول إنها لن تُشارك في المؤتمر إذا ما حضرت #إسرائيل و #قبرص الرومية. pic.twitter.com/8aClzzGhLB
— عين ليبيا (@EanLibya) November 1, 2021
كشفت مصادر ليبية بدورها أن رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة أعلن رفضه مشاركة الاحتلال في مؤتمر باريس، وذلك في لقاء جمعه بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على هامش قمة المناخ.
هل تنجح باريس؟
من المستبعد أن تنجح باريس في فرض أجندتها واستعادة تصدُّرها الحراك الدبلوماسي الخارجي في ليبيا، وذلك لطبيعة سياستها المتّبعة منذ الإطاحة بنظام معمر القذافي في 17 فبراير/ شباط 2011، ففرنسا ساركوزي كانت حليفًا وثيقًا للعقيد الراحل وانقلبت عليه وتزعّمت التدخل الدولي الذي ساند الثورة.
أضف إلى أن الدبلوماسية المتوتِّرة أو المشوَّشة التي تعجز عن تحديد الجبهات الرابحة، تسبّبت للإليزيه في كثير من الإحراج في الأزمة الليبية، جعلت فرنسا دولة غير موثوق بها، فرغم سعيها منذ 10 سنوات للعب دور محوري في ليبيا إلا أنها عجزت عن قيادة المشهد، ما فسح المجال أمام قوى إقليمية صاعدة في المنطقة للتحكُّم في مجريات الأمور.
سابقًا، حاولت فرنسا لعب الوسيط بهدف تقريب وجهات النظر بين شرق ليبيا الذي يقوده اللواء المتقاعد خليفة حفتر بمساعدة برلمان طبرق برئاسة عقيلة صالح، وغربها تحت سلطة حكومة الوفاق ويترأّسها فايز السراج، في يوليو/ تموز 2017، لكن الإليزيه فشلَ في صياغة اتفاق يحول دون استمرار نزاع الفرقاء السياسيين على السلطة.
في 29 مايو/ أيار 2018 نظّمت فرنسا مؤتمرًا ثانيًا لم يُحدِث بدوره أي تغييرات على الأرض، ولم يقدِّم حلولًا عملية للأزمة، ولم يدفع الأطراف المتصارعة إلى التزام بإجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية في 10 ديسمبر/ كانون الأول 2018.
في عام 2019، بادرت فرنسا إلى عقد مؤتمر دولي بشأن ليبيا في باريس لتحديد الالتزامات والاستحقاقات الدستورية والانتخابية القادمة، إلا أن دعمها للشرق فُضح بعد امتناعها عن إدانة هجوم خليفة حفتر على العاصمة طرابلس، ولم يمنع هذا المؤتمر من اندلاع الحرب في 4 أبريل/ نيسان، التي أُعدّ لها سلفًا وكانت باريس على علم بها بسبب مواصلتها دعم أحد أطراف الصراع وهو حليفها خليفة حفتر (فضيحة صواريخ جافلين)، ما عطّل مسار التفاوض.
بعد انتهاء حرب العاصمة ونجاح الألمان في رعاية المفاوضات بين طرفَي النزاع الليبي، عاودت فرنسا محاولة كسر الطوق الذي فُرض عليها من قبل اللاعبين الدوليين الجُدد كتركيا وروسيا، وهذه المرّة يبدو أنها ستُراهن من خلال مؤتمرها القادم على الموقف الأوروبي الموحَّد تجاه الأزمة الليبية، خاصة في ملف إخراج المرتزقة والمقاتلين الأجانب.
لكن باريس التي دفعت بالألمان والإيطاليين لمشاركتها القمة كنوع من الحشد الدولي لمبادرتها، ستعرف إحراجًا جديدًا قد يقوّض أجندة مؤتمرها، فإيطاليا وألمانيا لم تدعما في السابق الموقف الفرنسي القاضي بفرض حظر بحري وجوّي على وصول السلاح إلى ليبيا من خلال عملية “إيريني” الأوروبية، فيما أبدت برلين تحفُّظها تجاه أنقرة وحرصت على عدم مواجهة الأتراك المتحكمين بخيوط اللعبة الدولية في ليبيا.
على صعيد متّصل، ستصطدم المبادرة الفرنسية بالتنسيق السياسي والدبلوماسي لكل من تونس والجزائر وليبيا، الذين أعلنوا مؤخرًا خلال اجتماع على مستوى وزراء الخارجية عن توحيد الجهود الرامية للدفع بالمسار الأمني-العسكري، لتشجيع بوادر انفراج الأزمة وتعزيز التحسُّن الذي تشهده الأوضاع في هذا البلد.
عقد وزراء خارجية الجزائر وليبيا وتونس اجتماعًا على هامش مشاركة رمزية في الاحتفالات بالذكرى 67 لاندلاع ثورة التحرير الجزائرية… اقرأ التفاصيل
الرابط البديل: https://t.co/hnOT37t2orhttps://t.co/YpterMSVe6
— العربي الجديد (@alaraby_ar) November 1, 2021
البلدان الثلاث أكّدت على استثمار نجاح مؤتمر استقرار ليبيا المنعقد بطرابلس يوم 21 أكتوبر/ تشرين الأول المنصرم، وعلى مواصلة دعم هذه المبادرة وحشد الدعم الدولي اللازم لها بغية تحقيق الأهداف المرجوة منها، بما ينهي صفحة الخلافات ويحفظ أمن واستقرار ليبيا وجميع دول الجوار.
يطرح انعقاد مؤتمر باريس في هذا التوقيت تساؤلات عمّا يخبّئه الإليزيه في كواليسه حيال الأزمة الليبية، إلا أن هذه العادة الدبلوماسية الفرنسية لن تخرج عن سياق الروتين السياسي الذي ينتهجه قادة هذا البلد، لكسب الوقت وإعادة خلط الأوراق لتشكيل مشهد جديد يمكّنهم من المحافظة على موطئ قدم في مجال جغرافي بدأ نفوذهم التقليدي فيه يأخذ بالانحسار.