بعيدًا عن حالة الاحتقان الأمني الذي تشهده محافظة ديالى شرق العراق، إلا أن الجانب الآخر والمهم من الصورة لم يتّضح بعد، بل هناك من يريد لهذه الصورة أن تبقى على شاكلتها الحالية، مجرد احتقان عشائري ردًّا على هجوم شنّه تنظيم “داعش” على قرية الرشاد في قضاء المقدادية، راح ضحيته عدد من القتلى والجرحى.
لكن مجرد نظرة بسيطة إلى واقع المحافظة وأهميتها الاستراتيجية، يوضّح أنها ذات قيمة كبيرة، وتحديدًا لإيران التي ما زالت تبحث عن فرصة لتثبيت نفوذها السياسي والأمني في هذه المحافظة ذات الأغلبية السنّية.
حيث لم تترك إيران وسيلة لإخضاع هذه المحافظة إلا واستخدمتها، سواءً عبر قطع الجداول النهرية القادمة من الداخل الإيراني، أو تجفيف المسطحات المائية، أو حتى عبر سيطرتها وتأثيرها على الفصائل المسلحة المتنفّذة في المحافظة، إلا أنها لم تنجح حتى اللحظة في تحقيق ما تريد.
ديالى هدف إيراني متجدِّد
عانت إيران خلال الفترة الماضية من تأمين نفوذها العسكري داخل الأراضي العراقية، أو حتى على الحدود العراقية السورية، من هجمات الطائرات الإسرائيلية، بل حتى في إخضاع التمردات المسلحة الكردية التي تندلع بين الحين والآخر، والتي استنزفت الحرس الثوري بالعدّة والعدد؛ كل هذه الأسباب جعلت من إيران أن تُعيد تعريف أهمية هذه المحافظة وفق الاستحقاقات الأمنية الجديدة.
فإيران تُدرك أهمية هذه المحافظة دون غيرها، بل تعتبرها بمثابة “حجر الوزير” في رقعة الشطرنج الإيرانية في العراق، فهي الممرّ الاستراتيجي الرئيسي الذي يربطها بحلفائها في العراق أولًا، والطريق البرّي الذي يوصلها إلى البحر الأبيض المتوسط ثانيًا، ولذلك إن تخادمها فيما يجري من أحداث أمنية مقلقة في هذه المحافظة، ينطلق من مصلحة قومية إيرانية مهمة في خلق مناطق فراغ جديدة في العراق، على شاكلة جرف الصخر أو سهل نينوى، والهدف منها تحويل هذه المحافظة إلى عمق استراتيجي يخدم النفوذ الإيراني في العراق.
لا جدال في أن لإيران مصالح حيوية فيما يحدث في العراق الآن، ومن الواضح أيضًا أنها مارسَت نفوذها حتى الآن بضبط النفس بدرجة كبيرة وتحديدًا في الفترة اللاحقة لاغتيال قاسم سليماني، وكذلك حقيقة أن لديها القدرة على فعل المزيد، وأسوأ من ذلك بكثير، لتعظيم فرصة خروج العراق بنجاح من انتقاله السياسي، وفق رؤية سياسية تحفظ لإيران مصالحها ونفوذها بعيدًا عن نتائج الانتخابات الأخيرة التي شكّلت ضربة كبيرة لحلفائها.
أشارت تقارير إلى أن الحاجة الإيرانية تقتضي اليوم نقل هذه الصواريخ وتأمينها خارج الأراضي الإيرانية، ما يرشّح فرضية أن تطمح إيران لاستثمار عمليات التهجير التي يتعرض سكان نهر الإمام وغيرها في إنشاء قواعد ومخازن للصورايخ فيها.
هذا إلى جانب عودة التدهور في العلاقات الأميركية الإيرانية، وبالتالي إن المحاولة الإيرانية للاستثمار بالفوضى الأمنية التي تشهدها محافظة ديالى اليوم، يقفُ خلفها العديد من الأبعاد الداخلية والخارجية التي تتجاوز الانتخابات واستحقاقتها.
ظهرت في الآونة الأخيرة العديد من التقارير الاستخباراتية الإيرانية التي تحدّثت عن قيام إيران ببناء العديد من المدن الصاروخية في غرب البلاد قبالة محافظة ديالى، تابعة للحرس الثوري الإيراني في مدن تبريز ومدن أخرى تابعة لمحافظة أذربيجان الشرقية، وقيام الحرس باستخدام هذه القواعد لتخزين صواريخ ذاتية الدفع وصواريخ متوسطة وطويلة المدى من طراز شهاب بأجياله الثلاثة، وصواريخ ذو الفقار وسيمروغ.
فضلًا عن ذلك، أشارت هذه التقارير إلى أن الحاجة الإيرانية تقتضي اليوم نقل هذه الصواريخ وتأمينها خارج الأراضي الإيرانية، ما يرشّح فرضية أن تطمح إيران لاستثمار عمليات التهجير التي يتعرض سكان نهر الإمام وغيرها في إنشاء قواعد ومخازن للصواريخ فيها، وتحقيق أهداف أهمها قُربها من المدن الصاروخية الإيرانية المنشأة حديثًا داخل الأراضي الإيرانية، وكذلك بُعدها عن الطائرات المسيَّرة الإسرائيلية التي استهدفت أغلب مخازن السلاح الإيراني على الحدود العراقية السورية.
تشكّل محافظة ديالى الضلع الثالث من أضلاع “المثلث السنّي” بعد نينوى والأنبار، ونجاح إيران عبر الفصائل المسلحة القريبة منها في إنتاج دوائر نفوذ خاصة بها، سيدفعها إلى تكرار السيناريو ذاته في مدن ديالى، من أجل ضرب التواصل الجغرافي بين “الأقاليم السنّية”
وفي السياق ذاته، تطمح إيران إلى إنهاء حالة الاختراق الاستخباراتي الذي تتعرض له، من قبل عناصر “حركة مجاهدي خلق الإيرانية” المعارضة التي نجحت في تحقيق عدة اختراقات استخباراتية انطلاقًا من محافظة ديالى، بناءً على شبكة العلاقات التي أنشأتها خلال تمركزها في معسكر أشرف شرق ديالى الفترة الماضية.
كما أن الباحث الإيراني فرماز إيراني قد أشار إلى ذلك، وهذا ما يدفعنا إلى تسليط الضوء على طبيعة المزايا الاستراتيجية التي من الممكن أن تحققها إيران فيما لو نجح سيناريو إفراغ المدن التي تشهد احتقانًا أمنيًّا من سكانها في المحافظة.
إجمالًا، تشكّل محافظة ديالى الضلع الثالث من أضلاع “المثلث السنّي” بعد نينوى والأنبار، ونجاح إيران عبر الفصائل المسلحة القريبة منها في إنتاج دوائر نفوذ خاصة بها، وتحديدًا تلفعر وسنجار على الحدود التركية، وربيعة والقائم والنخيب على الحدود مع سوريا والأردن والسعودية، سيدفعها إلى تكرار السيناريو ذاته في مدن ديالى، من أجل ضرب التواصل الجغرافي بين “الأقاليم السنّية”، وتهيئة بيئة آمنة لمزيد من القادمين من خلف الحدود، كما حصل مع عملية إسكان العديد من الأفغان والباكستانيين في بعض أحياء النجف ودمشق وحلب.
وبعد أن فشلت جهودها بتحقيق هذا السيناريو في قضاء الطارمية شمال محافظة بغداد، يبدو أن الأنظار الإيرانية اتّجهت هذه المرة نحو مدن ديالى، لتحقيق مشروع إيراني قديم يستهدف ضرب النسيج الاجتماعي العراقي، عبر خلق كانتونات ذات صبغة طائفية محدَّدة، تُرسم حدودها بالدم، وبالشكل الذي يقطع أي فرصة لعودة عراق موحَّد ومستقرٍّ سياسيًّا وأمنيًّا.