يحتاج الأطفال الرضَّع والصغار، وحتى من هم في مراحل عمرية متقدِّمة، أن يدركوا جيدًا أن لهم اعتبارًا حقيقيًّا في هذه الحياة ليُنظر إليهم، وفوق ذلك أنهم رائعين وجديرين بالحب فى عيون والدَيهم؛ يحتاجون أيضًا أن يتعثّروا ويخطئوا في مسيرة حياتهم، وفي بعض الأحيان أن يقعوا ويرحَّب بهم ثانية بابتسامة أبيهم أو أمّهم المعزّية.
ومن خلال هذا القبول الوالدي، يتعلم الأطفال أن كينونتهم وذاتهم الجوهرية تستحقان الحب؛ تلك النظرة الذاتية الإيجابية هي النقيض لما يعرفه الشخص النرجسي عن حب الذات، فهو عاشق لذاته تحديدًا لأنه لا يستطيع أن يحب نفسه. إن علاقة من هذا النوع بين الأم وأبنائها قد تتسبّب في حدوث ضرر يؤثر على حياة الطفل بشكل كبير خلال مراحل نشأته.
هنا نطرح تساؤل: كيف تؤثِّر نرجسية الأم على بناء شخصية أطفالها؟
إجابةً على ذلك، توضِّح الدكتورة في علم نفس الطفل ومؤسِّسة المشروع القومي للتربية من أجل التعليم في مصر، أسماء الفقي، أن تأثير الأم النرجسية على الأبناء يختلف باختلاف حدّة نرجسية الأم، فقد تعاني المرأة من بعض الأعراض، بينما تعاني أخرى من جميعها، وفي كلتا الحالتين ذلك يسبِّب كارثة حقيقية في تربية الأبناء.
وتضيف الفقي خلال حديثها لـ”نون بوست”: “الأم النرجسية لا ترى إلا نفسها وهي دائمًا تسعى إلى الكمال، و تعتبر أبناءها جزءًا من صورتها العامة أمام الناس، وبالتالي قد تهمِّش أطفالها واحتياجاتهم ورغباتهم لقاء الحصول على صورة ترضيها أمام الآخرين على حساب أطفالها، فيعتاد الأبناء على أن يكونوا هم الساعين للحصول على القبول من الآخرين، مع العلم أنه من المفترض أن يقدَّم لهم في حياة طبيعية للغاية”.
وتتابع الفقي واصفةً حال الأم بالمقابل، لأنها ترغب فى أن يكون لديها أفضل الأبناء فلا تتحمّل الخطأ وتقلِّل من إنجازات أبنائها وتنتقدهم بشدة، فينشأون على قلة الثقة بالنفس، حيث إنها لا تتحمل أن يخطئ أبناؤها لأنها ترى نفسها ملكةً بين الآخرين.
وتشير الفقي أن ردَّ فعل الأم عادةً ما يتّسم بالعنف والعداء، ويعتقد الطفل أنه سيحظى برضاها إذا ما نفّذ تعليماتها وانصاع لأوامرها، كونها كثيرًا ما تلجأ إلى التوبيخ، فيعتقد الطفل بعقله الطفولي أنه بالتأكيد قد ارتكب خطأً جعله يستحقّ هذه المعاملة.
الطفل ليس طرفًا
في السياق ذاته، تبيّن المعالجة النفسية والأكاديمية ديالا عيناتي من لبنان، أن الطفل الذي يعاني مع أمٍّ نرجسية يفتقدُ إلى أهم ما يمكن أن يحصل عليه من أمه، وهو الدعم والمساندة والشعور بالحب، الحب غير المشروط الذي يطلبه كل طفل.
وتضيف لـ”نون بوست”: “سيتضح ذلك مع الوقت وفي كل سلوك تقريبًا، مثلًا في تلك الأوقات التي تحكي لها عن مشكلة ما تخصّك، موقف ما أسأت التصرُّف خلاله، وبينما تودّ منها أن تدعمك وتقدِّم لك بعض النصح، ستجد أنها قد حوّلَت حديثكما معًا ناحية إنجازاتها الخاصة في موقف شبيه تعرّضَت له قديمًا ثم تصرّفَت تصرُّفًا صائبًا تمامًا في ذلك الوقت، على عكسك، مهملةً وجودك في هذا الحديث من الأساس، وكأنك لست طرفًا فيه”.
كيف تؤثِّر النرجسية على مستقبل الأبناء؟
تتابع ديالا عيناتي: “تتسبّب النرجسية في عدة كوارث، أهمها أن يفقد الأبناء ثقتهم في ذواتهم، لقد تربّوا منذ الطفولة وكأنهم مربوطون كالثيران في ساقية، سيبذلون كل الجهد لكنهم لا يلفتون انتباه أمّهم كفاية، ولأنها الأم، جوهر العاطفة في المنزل، فإنهم يشعرون أن الخطأ فيهم، وأنهم لا يبذلون جهدًا كافيًا للفت انتباهها، وتستمر المأساة”.
ومن وجهة نظر عيناتي، فإن أبناء النرجسيات يخرجون إلى العالم من دون قدرة على تنظيم حياتهم وعواطفهم، لقد اعتادوا على درجات مرتفعة من التحكُّم في حياتهم، وللأسف قد يقعون في أسر علاقات سامّة، كالصداقة والزواج في المستقبل، تضعهم تحت تحكُّم شخصيات نرجسية أيضًا، وتستمر كرة الثلج في التضخُّم.
تجارب مع أمٍّ نرجسية
“لقد دمّرتنا أمي، أنا وأختَي، نفسيًّا واجتماعيًّا، مجرد بدأنا نذهب إلى الجامعة، ما كان يستثير غيرتها وغيظها”، هذا ما أخبرتني به صفاء عندما سألتها عن علاقتها بوالدتها، مضيفةً: “حتى صارت أمي انفعالية أكثر ممّا كانت في السابق، وازدادت الإهانات اللفظية والعنف الجسدي، لأنها لم تكمل دراستها الجامعية بسبب الفقر، والغريب أنها كانت تشجِّع أخوَي الذكرَين على الدراسة وتفضّلهما علينا”.
ولم تنسَ الشابة العشرينية كيف كانت والدتها تعنّفهم بالضرب دون تهمة، وتطلب منهم الاعتذار دون ذنب: “كثيرًا ما توبّخني أمام ضيوفها وتستهزئ بي، وتقلِّل من ثقتي حينما تردِّد أنني لستُ جميلة مثلها، لقد تفوّقنا دراسيًّا وأنهينا دراسات جامعية وحصلت كل واحدة منا على عمل جيد، لكننا نفشل دائمًا في العلاقات الاجتماعية والعاطفية، ولا أعتقد أن أي واحدة منا متوازنة نفسيًّا”.
بينما تعزو الشابة الثلاثينية، آلاء أنور، وحدتها في الحياة وفقدها للأصدقاء إلى إصرار والدتها على مراقبتها وتضييق معارفها بالأسئلة، وتحديد من يصلح أن يكون صديقًا لها أم لا، محدِّثةً “نون بوست”: “لم يتوقف الأمر عند ذلك، بل تولّت اختيار شريك حياتي ورفضت آخر تمنّيته، ارتبطتُ بشابٍّ يقربها وسافرت معه، أنجبت طفلَين ولم نوفّق بعدها فتطلقنا وبقيتُ هنا، فضّلت أن أشقَّ طريقي وحدي هروبًا من لومها وقسوتها التي ازدادت بعد انفصالي”.
لا يتمُّ الاعتراف علنًا
نُشر مؤخّرًا في دراسة لجامعة تمبل بولاية فيلادلفيا الأميركية، إحصائية شملت أكثر من 100 أمّ و200 ابنة، توصّلت إلى أن 18% من هؤلاء الأمهات يشعرن بالغيرة من بناتهنّ.
في هذا الخصوص، تقول المختصة بعلم الاجتماع في الأردن، ميادة السيد: “إن علاقتنا مع أمهاتنا وعائلاتنا هي جزء من صورتنا الاجتماعية، لذلك يحرص البعض منا على إظهار الإيجابيات فقط في هذه العلاقات، ولا يتم الاعتراف علنًا بإشكاليتها وما قد تمرُّ به من عقبات وخلافات، حفاظًا على تلك الصورة”.
وتضيف: “الأم غير الناضجة عاطفيًّا والنرجسية، تكون احتمالات انسياقها وراء الغيرة من بناتها أكثر من غيرها، خاصة إذا كانت علاقتها مع والدهنّ غير متوازنة وليس فيها مستوى مقبول من الأمان والاحتواء والثقة، حيث قد تظن أنهنّ قد أزحن اهتمامه وحبه عنها”.
لافتةً إلى أسباب أخرى قد تجلب غيرة الأم، كالإنجازات التي تحقّقها الفتاة في حين عجزت الأم عن تحقيق رغباتها أو ممتلكاتها المادية، والتحاقها بالجامعة، أو لأنها أصبحت أجمل من أمها وبدأت تلفت أنظار الرجال إليها، كلها أسباب قد تُخرِج العلاقة بين الأم وابنتها من سياقها الصحّي.
وتستند المختصة الاجتماعية إلى بعض الدراسات النفسية، بالقول إن الغيرة الأمومية أمر طبيعي إذا كانت ضمن حدود معيّنة وتحت السيطرة، لكنها تخرج عن إطارها المقبول عندما تشعر الأم أن ابنتها تشكّل تهديدًا لها.
كيف تكون البداية؟ هل من علاج؟
وفقًا لتقارير مختصة، يبدأ الاضطراب في مرحلة البلوغ المبكّر وتظهر أعراضه في العمل والعلاقات الاجتماعية، وأفاد المتخصِّصون بأن المصابين باضطراب الشخصية النرجسية يسعون باستمرار للارتباط بأشخاص موهوبين، ما يعزّز احترامهم لذاتهم، وحتى يضمنوا وجودهم داخل دائرة الإعجاب والاهتمام المفرطَين، كما أنهم يجدون صعوبة في تحمُّل النقد أو الهزيمة.
لم تجد الدراسات التي أُنجزت عن اضطراب الشخصية النرجسية أي أسباب واضحة خلف الإصابة به، ويعتقد أن العوامل الوراثية والبيولوجية، وكذلك البيئة وتجارب الحياة المبكّرة، تلعب دورًا في تطور هذه الحالة.
أما عن العلاج من اضطراب الشخصية النرجسية، فقد أوضح علماء النفس أن المصابين ولأنهم يتعاملون بعظمة ودفاع مستمرّ عن النفس، يصعب عليهم الاعتراف بالمشكلات ونقاط الضعف في شخصيتهم.
شفاء الجروح
وفقًا لدراسة أُجريت في الولايات المتحدة، فإن 6% من الأمريكيين نرجسيين، ومع ذلك هناك 5 دراسات أخرى على الأقل استخدمت معايير أكثر صرامة ولم تستطع العثور على حالة واحدة للنرجسية، حتى عند استخدام عيّنات كبيرة جدًّا.
إن الشفاء من الجراح التي يتركها النرجسيون في الروح قد تكون معقدة وطويلة؛ نصحت دراسة نشرها موقع cbtpsychology.com بمحاولة استبعاد الأحاسيس السلبية التي قد يتسبّبون فيها، كالإحساس بالذنب لتسبّبهم في الغيرة، أو لأنهم خيّبوا الظن، أو حتى لأنهم كانوا على خطأ، وأن يخفضوا سقف توقعاتهم من الوالد الغيّور أو النرجسي، ومحاولة رسم حدود للعلاقة معه ومنعه من تخطّيها (إن أمكن الأمر)، وعدم أخذ آرائه بعين الاعتبار حين يكون الأمر متعلِّقًا بتقدير الذات، وطبعًا اللجوء إلى الدعم النفسي إن تطلب الأمر.