على عكس الكثير من الرحّالة السابقين واللاحقين، فإن ابن جبير كان دافعه في رحلاته الثلاث هو علاج مشاعر متناقضة اختلجت صدره ودفعته للرحيل والسفر في الأرجاء، وكان توقيت رحلاته هذه في القرن السادس الهجري متزامنًا مع الكثير من الأحداث الفاصلة في العالم الإسلامي، فأصبح ما سطره من كتاب مرجعًا مهمًّا لتلك الحقبة الزمنية.
فقد سافر ابن جبير في رحلته الأولى طلبًا للتوبة بعد أن تمَّ إجباره على شرب الخمر، فيما دفعته فرحته باستعادة بيت المقدس على يد صلاح الدين الأيوبي للسفر في الرحلة الثانية، وكانت الثالثة نوعًا من أنواع غسل الأحزان التي أصابته نتيجة وفاة زوجته، فمن هو ذلك الرحّال الشاعر المرهف الذي قادته مشاعره للسفر عبر البلدان، وما قصة كتابه وتفاصيل رحلاته؟
ابن جبير
أبو الحسن محمد بن أحمد بن جبير من قبيلة كنانة المضرية العدنانية، والمعروف باسم ابن جبير الأندلسي، ولدَ في بلنسية عام 540هـ/ 1145م، وهو شاعر وأديب عربي أندلسي ورحّالة شهير.
نشأ ابن جبير في عائلة مهتمة بالعلوم، وأتمَّ دراسته بعد أن أتمَّ حفظه للقرآن الكريم بمدينة بلنسية على يد أبي الحسن بن أبي العيش، وفي شاطبة درسَ علوم الدين على يد أبيه.
برزَ في علم الحساب وفي العلوم اللغوية والأدبية، وكان موهوبًا في الشعر وله ديوان شعر يحمل عنوان “نظم الجمان في التشكّي من إخوان الزمان”، كما أبدعَ في النثر ما فتح له الباب للعمل كاتبًا لحاكم غرناطة وقتذاك أبي سعيد عثمان بن عبد المؤمن، أمير الموحّدين، وقد وصفه لسان الدين بن الخطيب في كتابه “الإحاطة في أخبار غرناطة” بأنه “كان أديبًا بارعًا، شاعرًا مجيدًا، سري النفس، كريم الأخلاق”.
رحلاته الثلاثة
قام ابن جبير بـ 3 رحلات متتالية انطلاقًا من الأندلس باتجاه المشرق الإسلامي، لكن هذه الرحلات لم تدوَّن جميعها، واقتصر تدوين ابن جبير على رحلته الأولى فقط التي استمرّت 3 سنوات، فيما غاب التدوين عن الرحلة الثانية والثالثة.
وقد خرج ابن جبير في رحلته الأولى عام 579هـ من مدينة غرناطة الأندلسية إلى سبتة، ومنها ركب البحر إلى الإسكندرية، ومنها توجّه إلى مكة وعادَ إلى غرناطة عام 581هـ، وقد استغرقت رحلته 3 سنوات تقريبًا سجّل فيها مشاهداته وملاحظاته بعين فاحصة في يومياته المعروفة بـ”رحلة ابن جبير”، ثم أتبع هذه الرحلة برحلة ثانية وثالثة.
ويُعتقَد أن رحلته الأولى كانت نتيجة لشعور ابن جبير بالذنب وطلبه التوبة والغفران بالحجّ، كما يذكر المقري صاحب “نفْح الطِّيب من غصن الأندلس الرطيب”، حيث فوجئ بالأمير يدفع إليه كأسًا من النبيذ، فاعتذرَ ابن جبير بأنه ما شرب الخمر قط، لكنّ الأمير أصرّ وحلف بأن يشرب منها سبعًا، فلم يستطع إلا الامتثال من هول المفاجأة وخوفًا من البطش، فأعطاه الأمير 7 أقداح مملوءة بدنانير ذهبية، فعقد صاحبنا العزم في تلك الليلة على الذهاب إلى الحجّ تكفيرًا لذنبه.
أما رحلته الثانية فقد دفعه إليها الفرح بأنباء استرداد المسلمين بيت المقدس من الصليبيين من قبل السلطان صلاح الدين الأيوبي عام 583هـ، فشرع في هذه الرحلة عام 585هـ وانتهى منها عام 586هـ.
فيما يتعلق برحلته الثالثة فكانت بسبب الحزن على وفاة زوجته، حيث كان يحبها حبًّا شديدًا، فدفعه الحزن عليها إلى القيام برحلة ثالثة يروّح بها عمّا ألمَّ به من حزن على فراقها، فخرج من سبتة إلى مكة وبقيَ فيها فترة من الزمن، ثم غادرها إلى بيت المقدس والقاهرة والإسكندرية حيث توفيَ فيها عام 614هـ.
كتاب “رحلة ابن جبير”
يُعتبَر هذا الكتاب من أفضل المصادر التي وصفَت المدن في المشرق في القرن السادس الهجري، وحمل عنوانَين: “كتاب اعتبار الناسك في ذكر الآثار الكريمة والمناسك” و”تذكرة الأخبار عن اتفاقات الأسفار”، حيث انطلق من غرناطة بصحبة صديقه الطبيب أحمد بن حسّان الغرناطي إلى مدينة مسّينة ثم إلى بلرمو عاصمة صقلية النورمانية حينئذ.
ومن صقلية إلى مصر بحرًا وكانت في أوج ازدهارها تحت حكم صلاح الدين الأيوبي، فنزل بالإسكندرية ووصفَ منارتها الشهيرة وكتب مادحًا الإسكندرية: “ما شاهدنا بلدًا أوسع مسالك منه ولا أعلى مبنى ولا أعتق ولا أحفل منه. وأسواقه في نهاية من الاحتفال أيضًا. ومن العجب في وصفه أن بناءه تحت الأرض كبنائه فوقها وأعتق وأمتن، لأن الماء من النيل يخترق جميع ديارها وأزقتها تحت الأرض فتتّصل الآبار بعضها ببعض”.
ثم وصل القاهرة ليقفَ طويلًا في وصف مشهد رأس الإمام الحسين، فيقول: “هو في تابوت فضّة مدفون تحت الأرض قد بُنيَ عليه بنيان حفيل يقصر الوصف عنه ولا يحيط الإدراك به، مجلَّل بأنواع الديباج، محفوف بأمثال العمد الكبار شمعًا أبيض ومنه ما هو دون ذلك، قد وضع أكثرها في أتوار فضة خالصة ومنها مذهّبة، وعلِّقت عليه قناديل فضة، وحفّ أعلاه كله بأمثال التفافيح ذهبًا في مصنع شبيه الروضة يقيّد الأبصار حسنًا وجمالًا، فيه من أنواع الرخام المجزع الغريب الصنعة البديع الترصيع ما لا يتخيّله المتخيِّلون ولا يلحق أدنى وصفه الواصفون. المدخل لهذه الروضة على مسجد على مثالها في التأنُّق والغرابة، حيطانه كلها رخام على الصفة المذكورة، وعن يمين الروضة المذكورة وشمالها بيتان من كليهما المدخل إليها وهما أيضًا على تلك الصفة بعينها. والأستار البديعة الصنعة من الديباج معلقة على الجميع”.
وقد وصف أيضًا الأهرام وأبو الهول: “المعجزة البناء، الغريبة المنظر، المربّعة الشكل، كأنها القباب المضروبة قد قامت في جو السماء، ولا سيما الاثنين منها، فإنهما يغص الجو بهما سموًّا، في سعة الواحد منها من أحد أركانه إلى الركن الثاني ثلاث مئة خطوة وست وستون خطوة. قد أقيمت من الصخور العظام المنحوتة. وركّبت تركيبًا هائلًا بديع الإلصاق دون أن يتخلّلها ما يعين على إلصاقها”.
ويكمل وصفه: “على مقربة من هذه الأهرام بمقدار غلوة صورة غريبة من حجر قد قامت كالصومعة على صفة آدمي هائل المنظر، وجهته الأهرام وظهره القبلة مهبط النيل، تُعرَف بأبي الأهوال”.
وقد ذكر ابن جبير الكثير من التفاصيل المهمة عن مشاهداته في مصر، كإكرام المغاربة الوافدين لها وقلعة صلاح الدين والواقع الطبّي فيها، ثم توجّه صوب مكة المكرمة.
ويذكر ابن جبير في طريقه إلى جدة أن سلوك الطريق باتجاه جنوب مصر ثم الإبحار إلى جدة منه صعب، نتيجة اضطرار القوافل لسلوك الطريق الصحراوي الذي كان يسبّب موت الحجّاج بسبب قلة المياه والزرع والطعام، والسبب لاستخدام هذا الطريق الخطر هو استيلاء الفرنجة على الطريق الشمالي، ما يبيّن المعاناة التي كان يكابدها الحجّاج نتيجة الحملات الصليبية، وندرك عظم فرح ابن جبير بأخبار استعادة بيت المقدس لاحقًا، ما يجعله يخرج لرحلته الثانية.
في الطريق إلى مكة المكرمة يستوقفنا ابن جبير بالكثير من التفاصيل المهمة حول استغلال الحجّاج، ويشيد كعادة ابن جبير المعجَب بشخصية صلاح الدين الأيوبي بما قام به من تذليل للعقبات أمام الحجّاج، والتقليل من المخاطر والضرائب التي كانت تفرَض عليهم من أمراء الحجاز، ولكنّ ذلك لم يكن يمنع استمرار الاستفادة الاقتصادية من الحجّاج، ومنها أن ماء زمزم لم يكن مجّانيًّا بل يتوجّب لمن أراد أن يشرب منه أن يدفع ثمن الماء.
في داخل مكة وعند الحرم يذكرُ ابن جبير الكثير من التفاصيل التي للأسف لا يمكن أن يشاهدها الزائر اليوم إلى مكة، بسبب طمسها تحت حجج متنوِّعة كالتوسعة ومخالفة الشريعة والإهمال وغيرها من العلل التي جعلت إرث مكة الأثري والتاريخي يختفي، فيذكر التوسُّعات التي قام بها المنصور وبقية الخلفاء وقبر إسماعيل عليه السلام وقبر أمه هاجر وقبة بئر زمزم، وأبواب مكة ومنازل الصحابة فيها ومنزل أم المؤمنين خديجة وعليه قبّة يُطلق عليها قبّة الوحي، والمنزل الذي وُلد فيه الرسول وقد حوِّل لمسجد ذكره ابن جبير في وصفه لمشاهد مكة.
ومن عجائب ما ذكره ابن جبير أن كل صلاة مكتوبة كانت تُقام 5 مرات حسب المذاهب الإسلامية: الشافعية، المالكية، الحنفية، الحنبلية والزيدية، وهذا من ظواهر التفرقة الإسلامية التي وصلت في ذلك الزمان، حيث كل أتباع مذهب لا يصلّون خلف إمام من مذهب آخر.
في العراق، فإن أول مدينة زارها ابن جبير كانت الكوفة، وقد كانت تعاني من الخراب والدمار نتيجة صراعها مع قبيلة الخفاجة المجاورة لها، وذكر مسجدها الكبير والمشاهد الكريمة التي فيه، أما في بغداد فقد كان ابن جبير قاسيًا بوصفها، فيقول: “المدينة العتيقة” التي “ذهب أكثر رسمها، ولم يبقَ منها إلا شهير اسمها”، فهو يقارن بغداد في نهاية عهدها العباسي بزمانها الذهبي في عصر المنصور والرشيد، ولكن يخالف كلماته الأولى فيحتفي بكثر ناسها والزوارق التي لا تتوقّف لنقلهم بين جانبَي دجلة، ثم يكمل مديحه عن علماء بغداد وخاصة مجلس ابن الجوزي، ويحتفي بالقراءة البغدادية للقرآن “على نسق بتطريب وتشويق”، يأتون فيها بـ”تلاحين معجبة، ونغمات محرجة مطربة”، وقصده بذلك المدرسة البغدادية في استخدام المقامات في قراءة القرآن الكريم.
في طريقه إلى الموصل زار تكريت وتحدث عن طيب أخلاق أهلها حتى وصل إلى الموصل، فقد سحرته بأسوارها المنيعة وضخامة المدينة، فقال في وصفها: “هذه المدينة عتيقة ضخمة، حصينة فخمة، قد طالت صحبها للزمن، فأخذت أهبة الاستعداد لحوادث الفتن”، وقد جالَ في أسواقها وأُعجب بمساجدها الثلاثة الكبيرة ووصف خاناتها الكبيرة وقلعتها، ووصف تل التوبة الذي يقع عليه بناء مسجد نبي الله يونس عليه السلام ومرقده، وكذلك جامع ومرقد نبي الله جرجيس.
ومن الموصل البيضاء إلى حلب الشهباء يمرُّ الرحالة بعدد من المدن، كمنبج وحران ونصيبين، فيصفها حتى يصل حلب فيوغل في وصف جمال قلعتها، ومن لطيف ما ذكر عن هذه المدينة أن أصل تسميتها يعود إلى نبي الله إبراهيم الخليل أنه كان يحلب شياهًا له ويتصدّق بلبنها، فأخذت اسم حلب من هذا الفعل.
وعلى عكس الاحتفاء بحلب ضاق صدر الرحّالة في حماة، فيصف أبنيتها: “غير فسيحة الفناء، ولا رائعة البناء، وديارها مكتومة”، ثم يغادرها إلى حمص ويصف أيضًا معاناة المدينة مع الماء، وعند وصوله دمشق فإنه يحتفي بها أشدّ الاحتفاء ويصفها بما لم يصف مدينة في المشرق، فيقول: “جنة المشرق، ومطلع حسنه المؤنق المشرق، وهي خاتمة بلاد الإسلام التي استقيناها، وعروس المدن التي اجتليناها”، ويذهب لوصف جامعها الأموي بوصف دقيق، ويحتفي بمشاهده وآثاره وتفاصيل عمارته، ثم يصف عكا وصور التي كانت محتلة من الإفرنج، ومنها ركب ابن الجبير البحر قاصدًا صقلية التي عاد منها للأندلس منهيًا رحلته الأولى.
ختامًا.. لم يسعني أن أنقل إلا القليل ممّا أورده ابن جبير عن رحلته التي سطرَ تفاصيلها عبر تطويع اللغة والقدرة الجميلة على السرد، لتمنح زخمًا إضافيًّا للرحلة بشكل عام، ولعلّ قدرة ابن جبير على السرد بشكل بليغ وسلس جعل كتابه من أكثر كتب الرحّالة انتشارًا وقراءة.
إن التفاعلات الإنسانية وحاجتنا في بعض الأحيان للسفر والترحال، مجبرين في بعض الأحيان، أو عن طيب خاطر منا في أحيان أخرى، قد تفتح لنا أبوابًا لم تكن لتُفتَح لولا الترحال والسفر. فابن جبير، الشاعر والجغرافي والأديب الكاتب، لم يكن ليحقِّق شهرته دون أن يطرق باب الترحال ويدوِّن رحلته في كتابه لتخلّد ذكره بين الأجيال.