لم يكد يسمع عامر خبر “الطريق الجديدة المكفولة” حتى بدأ بجمع الأموال من أهله وأصدقائه والاستدانة من معارفه استعدادًا للهجرة، لأنها بنظره “فرصة لن تتكرر”، كما أن “الذهاب مبكرًا وسلوك هذا الطريق يعد وسيلة لعبوره قبل أن يصبح مكشوفًا ويبدأ الأمن بإغلاقه”، هذه كانت كلمات الشاب السوري عامر الذي تحدث لـ”نون بوست” عن قصة لجوئه إلى أوروبا مؤخرًا عبر الطريق الجديدة التي بدأ اللاجئون يسلكونها في الفترة الأخيرة.
عامر وصل إلى ألمانيا قبل شهرين تقريبًا، يعبر من خلال حديثه لـ “نون بوست” عن فرحه بوصوله إلى هناك، إذ إنه “شخص من عشرات آلاف الراغبين بالوصول إلى أوروبا”، لكن لم يكن الطريق سهلًا وإن كان جديدًا، فقد لقي هو وزوجته وأطفاله نصيبهم من المعاناة والبرد والمرض في طريق استمرت 10 أيام بعد وصوله إلى مطار مينسك في بيلاروسيا وبدء رحلة اللجوء.
رحلة جديدة
لم تكن هذه الطريق معروفة قبلًا للراغبين بالهجرة من السوريين أو غيرهم، لكن أوروبا كانت سريعة بالتعامل مع هذه الثغرة على حدودها، فقد اتخذت إجراءات لمنع تدفق اللاجئين بعد دخول الآلاف منها، خاصة بعد أن أصبحت الطرقات الأخرى صعبة المنال وخطيرة كتلك التي تمر من تركيا عبر اليونان.
بداية الأمر كانت في يوليو/تموز الماضي عندما قال رئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو: “من يظن أن مينسك ستغلق حدودها مع بولندا وليتوانيا ولاتفيا وأوكرانيا، وتغدو مقر إقامة للاجئين القادمين من أفغانستان وإيران والعراق وليبيا وسوريا وتونس فهو على خطأ”، جاءت تلك التصريحات على خلفية عقوبات فرضتها دول أوروبية على بيلاروسيا، وأردف لوكاشينكو في حديثه عن اللاجئين “لن نحتفظ بأحد، فهم لم يأتوا إلينا، بل جاؤوا لأوروبا المستنيرة والدافئة والمريحة”.
سرعان ما نفذ لوكاشينكو تهديداته وفتح حدود بلاده مع أوروبا لمرور اللاجئين إليها، وبدأ اللاجئون بالدخول إلى بولندا وليتوانيا بسلاسة بداية الأمر قبل أن تبدأ الإجراءات الأوروبية في وجه موجة اللجوء القادمة من بيلاروسيا، في السياق يخبرنا الشاب السوري عامر أنه حينما خرج في الطريق لم تكن تلك الكثافة من اللاجئين موجودة، فقد خرج في بداية شهر أغسطس/آب الماضي، ومع ذلك فقد لاقى صعوبات مثل المشي الكثير واضطراب الطقس.
استطاع عامر تأمين فيزا من سفارة بيلاروسيا في دمشق للخروج إلى مطار مينسك وذلك لقاء 4000 دولار، كما أنه وضع مع أحد مكاتب التأمين مبلغ 8000 دولار يدفعهم المكتب للمهرب الذي يساعد عامر بالمرور من بيلاروسيا إلى بولندا طبعًا، ذلك عدا عن ثمن حجوزات الطيران المرتفعة. بعد أن حصل على الفيزا خرج عامر إلى لبنان ومن ثم توجه إلى بيلاروسيا ليحط في مطارها صباحًا، ومن هناك جلس مع عائلته في بيت يضم عوائل أخرى، هذا البيت هو المحطة الأولى قبل أن تأتي حافلة لنقلهم إلى الحدود الأوروبية.
كانت طريق عامر سهلة نسبيًا عكس تلك الرحلة التي عانى فيها أحمد معاناة بالغة، إذ قال إنه عانى معاناة كبيرة على الحدود الأوروبية، فقد ظل عالقًا ما يقرب 15 يومًا على الحدود البولندية، فيما فقد أحد الأشخاص معهم حياته وعندما أرادوا العودة لم تسمح لهم سلطات بيلاروسيا بالعودة، ويروي أحمد لـ”نون بوست” أنهم ومنذ اليوم الأول بدأوا يفقدون الأطعمة التي بحوزتهم، فالمهربون قالوا لهم أن يأخذوا طعامًا ليومين فقط لأن الطريق ميسر.
تلاعب المهربين
لكن المهربين غادروا وتركوا أحمد ورفاقه لمصيرهم، فنفد زادهم ولا أحد يكترث لهم في ظل غياب المنظمات والهيئات الخيرية والإنسانية، وبعد يوم تقريبًا وصلت سيارة تحمل بعض الأطعمة إثر إطلاقهم لنداءات متعددة عبر الكثير من الوسطاء، وما زالوا يبحثون عن مخرج إلى أي مكان يستطيعون به إما الرجوع إلى مكانهم وإما المحاولة مجددًا، استطاع بعضهم العودة إلى مينسك في إحدى الليالي بينما انتظر آخرون من بينهم أحمد حتى استطاعوا التواصل مع أحد المهربين ودفع المزيد من المال ليوصلهم إلى ليتوانيا ومن ثم إلى ألمانيا.
هنا يقول أحمد: “أحسست بالذل كثيرًا خلال هذه الأيام، لم أشعر أنني وصلت إلى الراحة التي كنت أحلم بها، أحاول أن أتخلص حاليًّا من مشاهد تلك الأيام لأنتقل إلى ممارسة حياتي الطبيعية، كانت قاسية، تراكم عليّ أكثر من 10000 دولار من الديون سأحاول إيفاءها”.
الطريق الجديدة كانت مكسبًا للعديد من المهربين وأصحاب المكاتب الذين يكسبون الأموال الكثيرة من خلال الترويج للطريق وإغراء الكثير من الراغبين باللجوء عبر إعلانات كاذبة والعمل على إصدار تأشيرات دخول مزورة، وتبين ذلك عندما احتجزت السلطات في مطار مينسك عشرات السوريين الذين وصلوا البلاد وتبين أن تأشيراتهم ليس لها أي قيود صادرة من الدولة، وأظهرت الصور حينها عشرات الأشخاص تم احتجازهم في مطار مينسك بعد أن خدعهم أصحاب مكاتب الطيران.
وأرسل هؤلاء الأشخاص رسالة تدعو “إلى الحذر من تجار الحروب والأزمات الذين يتاجرون بدماء الشباب عبر إيهامهم بأن الطرقات آمنة وأن الحجز الفندقي مؤمن وأن التأمين الصحي موجود”، مؤكدين أنهم لم يجدوا شيئًا مما اتُفق عليه عند وصولهم إلى المطار ولم يكن المندوب الموعود باستقبالهم موجودًا في المطار ليجدوا أنفسهم محتجزين بالمطار بلا طعام ولا ماء.
سد الأبواب
في الطرف المقابل أبدت السلطات البولندية مؤخرًا الاستعداد لقطع الطريق أمام اللاجئين القادمين عبر بيلاروسيا، ووضع البرلمان البولندي قانونًا يُجيز طرد وترحيل المهاجرين العابرين للحدود دون ترخيص، كما وافق البرلمان على إنشاء جدار على الحدود البولندية البيلاروسية لمنع الهجرة وكانت السلطات قد نشرت آلاف الجنود على الحدود منذ بدء الموجة، إلى ذلك أعلن الرئيس البولندي أندجي دودا، حالة الطوارئ على حدود بلاده مع بيلاروسيا.
ويبدو أن هناك حراكًا أوروبيًا جديدًا ضد اللاجئين بعد التطورات على حدود بولندا وموجة الهجرة الأفغانية الجديدة أيضًا، فقد حذرت المجر من موجة لجوء تهدد أوروبا تكون أكبر من أزمة اللاجئين عام 2015، وفي رسالة بعثها رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان إلى المفوضية الأوروبية قال إن بلاده تحمي حدود الاتحاد الأوروبي، وأنهم أنفقوا حتى الآن أكثر من 1.6 مليار يورو على حماية الحدود من ميزانيتها الوطنية، وأوضح “المجر كانت من أوائل الدول التي بنت السياج على الحدود، وأثبت أنه يوفر حماية فعالة لمواطني الاتحاد الأوروبي وأوروبا بأكملها”.
بدورها أفادت الشرطة الألمانية أن عدد اللاجئين الذين ألقت عليهم القبض في أكتوبر/تشرين الأول الماضي على الحدود البولندية الألمانية بلغ 5285 شخصًا وصلوا إليها عبر طريق الهجرة الجديد بيلاروسيا – بولندا، ليكون إجمالي طالبي اللجوء الذين قدموا إلى ألمانيا عبر هذا الطريق منذ بداية العام، بلغ 7831 مهاجرًا حتى الآن.
إلى ذلك قالت كريستال فان ليوين، مديرة الطوارئ الطبية في منظمة أطباء بلا حدود، إنها التقت بمجموعة من 13 امرأةً ورجلًا وطفلًا كانوا يتلقون المساعدة من أحد المدنيين للحصول على الطعام والدفء، ثم قادهم إلى الخارج للقاء المنظمات غير الحكومية، وذكرت أن المهاجرين كان معهم القليل من ممتلكاتهم باستثناء ملابسهم وأكياس نومهم، مشددة على أنه “من الخطر النوم في العراء، كانت درجة الحرارة 4 درجات مئوية تحت الصفر”.
حذرت ليوين من وقوع المزيد من الوفيات على الحدود البولندية مع بيلاروسيا، مشيرة إلى أنه يتم دفع المهاجرين اليائسين والضعفاء في كثير من الأحيان، بما في ذلك الأطفال الصغار جدًا، عبر الحدود وفقًا لما جاء في “الغارديان”، واعتبرت أنه يجب على المنظمات غير الحكومية الوصول بشكل عاجل إلى منطقة عسكرية آمنة على الجانب البولندي، بالإضافة إلى وجوب احترام مطالبات المهاجرين بالحماية الدولية.
ما زال ملف اللاجئين أسير الصراعات السياسية بين أوروبا وجيرانها، وما زال الخاسر الأكبر هو اللاجئ العالق بين أسلاك الحدود، فيما تسارع الدول لسد أبوابها لمن أراد الحياة بهدوء ودون حرب.