يشهد الشمال السوري تحركات عسكرية واسعة في مختلف المناطق من قبل جميع الجهات العسكرية العاملة هناك، ويأتي ذلك بالتزامن مع إعلان تركيا عزمها التحرك بعملية عسكرية ضد قوات سوريا الديمقراطية “قسد” في شرقي الفرات وغربه.
بدأت التحركات العسكرية تتوسّع تباعًا بحسب متطلّبات الجبهات العسكرية المعرَّضة للمعارك، حيث بدأت كل من القوى المحلية وحلفائها العمل على التحشيد المدني والعسكري في إطار الضغط وعرقلة العملية التركية.
تعزيزات تركية ومخاوف من هجوم روسي
مع التحضير التركي للعملية العسكرية المرتقبة نحو مناطق سيطرة “قسد” في ريفَي حلب الشمالي والشرقي، وريفَي الرقة والحسكة الشماليَّين، بدأ تدفُّق أرتال الجيش التركي لتعزيز التواجد العسكري في إدلب.
وأرسلَ الجيش التركي خلال الفترة الأخيرة تعزيزات عسكرية ضخمة، كان آخرها في 27 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، حيث دخلت نحو 100 آلية محمّلة بالمواد اللوجستية والعسكرية متجهةً إلى منطقة جبل الزاوية جنوبي إدلب.
جاءت تلك التطورات بعد ساعات من موافقة البرلمان التركي على تمديد تفويض مهام القوات التركية في سوريا والعراق مدة عامَين إضافيَّين، بموجب مذكّرة رئاسية قدّمها أردوغان للبرلمان خلال أكتوبر/ تشرين الأول.
نائب مدير المكتب السياسي في لواء السلام التابع للجيش الوطني السوري، هشام سكيف، قال لـ”نون بوست”: “تهدف تحركات الجيش التركي، التي بدأ بتنفيذها في مناطق ريف إدلب الجنوبي وغربي حلب، إلى التصدّي لأي هجوم قد تشنّه قوات نظام الأسد وروسيا على المنطقة”.
نقلت القوات التركية نقطتها العسكرية المتمركزة على حاجز أبو الزبير القريب من بلدة محمبل غرب محافظة إدلب، إلى بلدة اشتبرق في منطقة سهل الغاب غرب محافظة حماة
وأضاف: “يأخذ الجيش الوطني، إلى جانب القوات التركية، في الحسبان أي تهديد أو استغلال من قبل نظام الأسد أثناء انشغالهم في المعركة العسكرية المرتقبة على مناطق “قسد””، مؤكدًا “أن الجيش الوطني لن يتوانى في الدفاع عن المنطقة، وما يجري من تعزيزات هو للحفاظ على المنطقة”.
وتسعى تركيا إلى تعزيز تواجدها العسكري في إدلب بالتزامن مع اقتراب العملية العسكرية التي ستستهدف مناطق سيطرة “قسد”، للحفاظ على المنطقة من الاجتياح الروسي المحتمَل والمعتاد بعد تعزيزات عسكرية من قبل قوات النظام وروسيا وإيران، شملت مختلف خطوط النار الممتدة من ريف اللاذقية إلى ريف حلب الشرقي.
إلى جانب ذلك، عملَ الجيش التركي خلال الـ 24 ساعة الماضية على إعادة انتشار واسع لقواته في منطقة العمليات العسكرية القريبة من خطوط التماسّ مع قوات نظام الأسد جنوبي الطريق M4، حيث نشرَ المزيد من المعدات العسكرية الدفاعية والتحصين الكامل في القواعد العسكرية.
ونقلت القوات التركية نقطتها العسكرية المتمركزة على حاجز أبو الزبير القريب من بلدة محمبل غرب محافظة إدلب، إلى بلدة اشتبرق في منطقة سهل الغاب غرب محافظة حماة، وتمَّ تعزيز النقطة العسكرية الجديدة، بحسب ما أفادت مصادر محلية.
مقايضة
تتفاوض كل من روسيا وتركيا حول إمكانية تنفيذ العملية العسكرية ضد “قسد” في شرقي الفرات وغربه، بعدما أصبحت روسيا لاعبًا أساسيًّا في مناطق شرق الفرات، عقب انتشارها الواسع الذي بدأ منذ انطلاق عملية نبع السلام في ريفَي الحسكة والرقة الشماليَّين ضدّ وحدات الحماية.
ولا تزال العملية التركية ضد “قسد” في إطار التفاهمات الروسية-التركية، بحسب ما كشف موقع “ميدل ايست آي”، حيث تفاوض روسيا على بقاء وجود قاعدة لها في بلدة صرين قرب عين العرب، مع إمكانية تنفيذ العملية العسكرية من قبل تركيا مقابل السماح لروسيا بالسيطرة على منطقة أريحا وجبل الزاوية الواقعتَين قرب الطريق الدولي M4، ومنع الجيش الوطني من الدخول لمدينة تل رفعت شمالي حلب.
وترغب روسيا في عرقلة العملية التركية ضد وحدات الحماية، أو الحصول على مكاسب أخرى في مناطق مختلفة على حساب تركيا، من خلال الضغط المستمر عليها وتوسيع مساحة الضربات الجوية جغرافيًّا في إدلب.
تحاول روسيا استخدام التهديدات التركية لصالحها، كما أنها لن تتراجع عن محاولاتها في استعادة السيطرة على إدلب جغرافيًّا، لتواصل مجريات الحل السياسي الذي يخدم مصالحها ببقاء الأسد.
وذلك ما ترفضه تركيا، حيث بدى واضحًا من خلال التعزيزات والانتشار التركي الذي امتدَّ إلى ريف حماة وجنوبي الطريق الدولي M4، بعد تخلُّص تحرير الشام من الحركات الجهادية التي كانت تحافظ على وجودها في ريف حماة وجبل التركمان بريف اللاذقية.
ترى تركيا أن إمكانية المقايضة والانسحاب من مناطق جديدة أمر غير وارد، لأنها فعليًّا خسرت مناطق عديدة لحساب روسيا خلال السنوات الماضية، وهذا ما أكّده أيضًا القائد العسكري في المعارضة السورية النقيب عبد السلام عبد الرزاق خلال حديثه لـ”نون بوست”، بالقول: “إن بوادر المقايضة في الوقت الحالي باتت صعبة، ولا يمكن أن تتخلى تركيا عن منطقة لصالح روسيا”.
وأضاف: “لتركيا أسباب عديدة تمنعها من التراجع عن العملية العسكرية في حال وصلت إلى طريق مسدود من التفاهمات مع روسيا، لأن لدى تركيا أسباب كثيرة أولها الأمن القومي، موضوع عودة اللاجئين والعمق الاستراتيجي للعمليات العسكرية التركية”.
ويبدو الانتشار الكبير في مناطق تقع تحت سيطرة “قسد” غربي الفرات وشرقه، أعطى لروسيا دورًا بارزًا في التفاهمات بخصوص العملية التركية المفترَضة، وهذا قد يعرقل العملية التركية في حال وصلت التفاهمات إلى طريق مسدود.
وتحاول روسيا استخدام التهديدات التركية لصالحها، كما أنها لن تتراجع عن محاولاتها في استعادة السيطرة على إدلب جغرافيًّا، لتواصل مجريات الحل السياسي الذي يخدم مصالحها ببقاء الأسد.
روسيا تستغل “قسد”
تستغلُّ روسيا الأوضاع الميدانية والتهديدات التركية لصالح توسيع نفوذها، حيث تحاول تحقيق مكاسب عديدة من خلال تفاهمات متواصلة مع تركيا، وعروضها الاستغلالية لـ”قسد”، لا سيما في تقديم نفسها على أنها حليف بديل عن واشنطن.
وبدأ الاستغلال الروسي لقوات سوريا الديمقراطية منذ العام 2016، أثناء تقديمها الغطاء الجوي لها للسيطرة على مدينة تل رفعت وعدة قرى محيطها، وبقيَت العلاقة الروسية مع “قسد” مستقرة بطبيعة الحال غربي الفرات، مع الحفاظ على الوجود الروسي وتفعيل المؤسسات العامة التابعة للنظام السوري، محاولةً من خلال ذلك حماية مناطق مهمة لنظام الأسد.
أما في شرق الفرات فالأمر مختلف تمامًا، حيث تسعى روسيا إلى الضغط على “قسد” من أجل تقديم المزيد من التنازلات لصالح الانتشار الروسي ونظام الأسد في مناطق سيطرتها شرقي الفرات، وذلك عبر سحب عدد من جنودها المتواجدين في منطقة منبج، وإعلان اقتراب المعركة التركية بهدف الضغط على “قسد” من أجل اللجوء إلى روسيا والاعتماد عليها كحليف دولي.
وفي السياق، عملت روسيا خلال أكتوبر/ تشرين الأول، تزامنًا مع التهديدات التركية لمناطق سيطرة “قسد” شرق الفرات، على تعزيز تواجدها في الخطوط الأولى المواجهة لمنطقتَي نبع السلام شمالي الحسكة والرقة، ومنطقة درع الفرات شمالي حلب.
وفعليًّا بدأت تفاوض وتضغط على “قسد” للحصول على تنازلات، وبحسب الاجتماع الذي جرى في الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني، ضمن القاعدة الروسية قرب عين عيسى بريف الرقة، بدى أن روسيا تستغلّ الظروف التي وصلت إليها “قسد”، حيث وضعَ الوفد الروسي شروطًا اقتصادية وسياسية مقابل استمرار عرقلة موسكو للعمليات العسكرية التركية.
واشترطت روسيا على “قسد” أن يحصل النظام على 75% من إجمالي النفط الذي يتمُّ استخراجه من مناطق سيطرة “قسد”، والاحتفاظ بـ 25% منها لـ”قسد”، والاعتراف ببشار الأسد رئيسًا شرعيًّا للبلاد، والموافقة على رفع العلم السوري على الدوائر الرسمية.
لا يعني أن الوجود الروسي في شرق الفرات سيعمل على إيقاف العملية العسكرية، لكن سيؤثر بشكل كبير على مجرياتها ومساحتها الجغرافية، من خلال تحديدها بمناطق معيّنة لا ترغب روسيا بخسارتها دون الحصول على مكاسب لصالحها.
إلا أن وفد “قسد” اعتبر أن ما طرحه الوفد الروسي استغلالًا للوضع الراهن، لأنها ستتخلّى عن مشروع الإدارة الذاتية وتنتقل إلى مشاركة موسكو في إدارة المنطقة وتُسمّى بالحكم المحلي.
الباحث في مركز جسور للدراسات، وائل علوان، رأى في حديث لـ”نون بوست” أن “شراهة الاستغلال جاءت عقب الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، وروسيا قدّمت لـ”قسد” معلومات استخباراتية في وقت سابق على أن هناك تفاهمات تركية-أمريكية تسمح لتركيا بشنّ عملية عسكرية، مستغلة الموقف الأمريكي الضعيف غير الواضح تجاه “قسد”، وتحديد الدعم الأمريكي لها”.
وأضاف: “تمارس روسيا ضغوطات ميدانية كبيرة على “قسد” أبرزها ملف الوجود الإيراني المتزايد في شرق الفرات، وتعتبر أنها الضامن الوحيد لتقليم الأظافر الإيرانية التي يمكن أن تشكّل خطرًا على “قسد”، وأيضًا انتشار ميليشيا نظام الأسد بشكل كبير، بالإضافة إلى ضغوط اقتصادية تتضمن الحصول على نسبة من إجمالي النفط، وحتى المحاصيل الزراعية”.
وأشار علوان إلى أن روسيا موجودة على طاولة مفاوضات سياسية مستمرة في مسار سوتشي مع تركيا، وهذا باب من أبواب روسيا لتخفيف بعض مخاوف “قسد”، والتي بدأت تستغلها فعليًّا لصالحها.
وأكّد علوان أنه لن يكون هناك عمليات عسكرية إلا بعد تفاهمات سياسية بين روسيا وتركيا، لأن روسيا تسعى إلى أن يتمَّ التنسيق معها بالعمليات العسكرية في شرق الفرات كما في غربه.
يبدو أن المعادلة تغيّرت في شرق الفرات وبدت أكثر تعقيدًا من أي وقت مضى، لأن الوجود الروسي في شرق الفرات أصبح أمرًا واقعًا، وتركيا بحاجة إلى التفاهم مع روسيا مجددًا لخوض العملية العسكرية المفترَضة، والتي من المرجّح انطلاقها في حال نجحت الاجتماعات الدبلوماسية بين كلا البلدَين.
وهذا لا يعني أن الوجود الروسي في شرق الفرات سيعمل على إيقاف العملية العسكرية، لكن سيؤثر بشكل كبير على مجرياتها ومساحتها الجغرافية، من خلال تحديدها بمناطق معيّنة لا ترغب روسيا بخسارتها دون الحصول على مكاسب لصالحها.